يقول - تعالى - مبيناً أنه الخالق لكل شيء من الزروع، والثمار، والأنعام التي تصرَّف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة، وقسموها، وجزَّؤوها، فجعلوا منها حراماً، وحلالاً فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [سورة الأنعام:141].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: مَعْرُوشَاتٍ مسموكات، وفي رواية: فالمعروشات ما عرش الناس وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ما خرج في البر، والجبال من الثمرات".
على هذه الرواية: "فالمعروشات ما عرش الناس" يعني ما زرعه الناس، وغير المعروشات يعني ما يخرج في البراري ونحو ذلك من غير زرع الإنسان، وهذا هو المعنى الأول.
وبعض أهل العلم حمل المعروشات على ما ينفرش سواء رفع أو لم يرفع كالعنب، والبطيخ وما أشبه ذلك من الأشجار التي تنفرش على الأرض، وغير المعروشات يعني التي تقوم على ساق كالنخيل، وسائر الأشجار التي تقوم على سوقها.
لكن المتبادر - والله تعالى أعلم - أن المعروشات هي ما يوضع له ما يقوم عليه مما يعرش، كما قال الله في النحل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل:68] يعني يبنون بحيث يجعلون لها السقف، وما تمتد فروعها عليه بحيث تكون مرتفعة، وغير المعروشات ما ليس كذلك - والله تعالى أعلم - أي أن ما يخرج من الأشجار يكون على نوعين كل واحد منهما يحصل به الامتنان، وتتجلى فيه عظمة الله ، وبديع خلقه.
وقال ابن جريج: مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [سورة الأنعام:141] قال: متشابهاً في المنظر، وغير متشابه في المطعم، وقال محمد بن كعب: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [سورة الأنعام:141] قال: من رطبه، وعنبه.
وقوله تعالى: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه، وروى عبد الرزاق عن مجاهد: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] قال: عند الزرع يعطي القبضة، وعند الصِّرام يعطي القبضة، ويتركهم فيتبعون آثار الصِّرام".
آثار الصرام يعرف باللقاط، والمعنى أن الفقراء يأتون، ويلتقطون ما تساقط من الحب بعد الحصاد، وهذا كان معروف عندهم، وفي ترجمة الإمام أحمد أنه خرج يلتقط مع الناس، ثم رجع، وعجَّل في الرجوع؛ فلما سئل عن هذا أخبر أنه رأى منظراً كرهه وهو أنه رأى الناس يحبون على أربع؛ لأجل الالتقاط وذلك أنه مع تقارب الحب لا حاجة للقيام، والقعود، والمقصود أن الإمام أحمد رأى هذا المنظر فكرهه، ورجع.
الحاصل أن الفقراء كانوا يحضرون بعد الحصاد علَّهم يعطون شيئاً، ويحضرون بعد الحصاد يلتقطون ما تساقط من الحب فقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] بعضهم يقول: هذا حق لا تقدير فيه، فالله لم يذكر فيه حداً محدوداً، فعلى المرء أن يعطي شيئاً يوم الحصاد، لكن هل هذا الذي يعطيه يوم الحصاد هو زكاة، أو أن في المال حقاً سوى الزكاة؟ يعني هل هذه الآية محكمة أم إنها منسوخة؟ أو هل هذا مما نزل قبل تقرير الحكم؟ وباعتبار أن سورة الأنعام مكية هل هذه الآية مدنية باعتبار أن الزكاة فرضت في المدينة، وعليه فنقول: إن هذا مما نزل قبل فرض الحكم؟ أم نقول: إن هذه الآية أصلاً مدنية مستثناة من بقية السورة التي نزلت في مكة؟ أم نقول: إن هذه الآية مكية حيث كان فرض الزكاة أولاً بهذه الطريقة بحيث يعطى من حضر من الفقراء شيئاً من هذا الحصاد دون حد ولا تقدير، ثم بعد ذلك فرضت، وبيّنت الأنصباء في المدينة، وعلى هذا القول الأخير تكون هذه الآية منسوخة بآيات الزكاة، وما جاء عن الشارع من تحديد الأموال الزكوية، وأنصبائها؟
هذا القول الأخير ذهب إليه طائفة من أهل العلم، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والأقرب أن أصل الزكاة فرض في مكة، ثم فرضت الأنصباء، وحددت، وفصلت، وبيّنت، وما الذي يُخرج منه الزكاة من الأموال في المدينة - والله تعالى أعلم -.
وقوله: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] بعض العلماء يقول: هذا غير الزكاة، وفي بعض الآثار "في المال حق سوى الزكاة"، لكن الجمهور على أنه لا يجب في المال سوى الزكاة، وهذا الإخراج كان في أول الأمر، ويقول ابن جرير - رحمه الله -: "ليست الزكاة هي المقصودة بهذه الآية"، ويحتج على ذلك بقوله: معلوم أن الزكاة لا يجب أن يُخرج في يوم الحصاد؛ لأن الحب لا يزال في سنبله، فهو لا زال بحاجة إلى عدة عمليات حتى تخرج منه الزكاة.
وعلى كل حال فالتفاصيل التي بينها الله في الزكاة كانت في المدينة، وأما ما في هذه الآية فهو أمر من الله أمر به في مكة، أي أن عليهم يوم الحصاد أن يعطوا من حضر من الفقراء شيئاً من غير محدد مما حصدوه - والله تعالى أعلم -.
وقد تكون هذه الآية محكمة باعتبار أن هذا حق لا تقدير فيه، بل على المرء أن يعطي الفقراء شيئاً يوم الحصاد كما قال الله في المواريث: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ [سورة النساء:8]، وبعضهم يقول أيضاً هي محكمة: لكنها للندب وليست للوجوب، وسبق أن الجمهور يقولون: إنها نسخت بعد ذلك بالزكاة التي فصلها الله ، وهذا الذي اختاره أيضاً ابن جرير - رحمه الله -، وعلى كل حال فالأقرب أن يقال في هذه الآية: إن الزكاة فرض أصلها بمكة، ثم بيِّنت تفاصيلها بالمدينة - والله تعالى أعلم -.
يعني أن القبضة من الحب، والضغث كالحشيش، وسوق الذرة ونحو ذلك لعلف الدابة، وكل ما قبضت عليه بيدك يقال له: قبضة، ويقال له: ضغث كما قال تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا [سورة ص:44].
وقوله تعالى: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنعام:141] قيل: معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف.
وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وأرضاه؛ جذَّ نخلاً له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنزل الله تعالى: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنعام:141] [رواه ابن جرير عنه].
لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية حيث قال تعالى: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأنعام:141] أن يكون عائداً على الأكل، أي: لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل، والبدن كقوله تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ الآية [سورة الأعراف:31]، وفي صحيح البخاري تعليقاً كلوا، واشربوا، والبسوا؛ من غير إسراف، ولا مخيلة[1] وهذا من هذا - والله أعلم -".
فقوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنعام:141] يحتمل أن يكون المراد به لا تسرفوا في النفقة في سبيل الله؛ لأنه قال: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأنعام:141] يعني ولا تسرفوا في هذا الإيتاء؛ لأنه غير مقدر.
وأما الرواية التي ذكرها عن ثابت بن قيس لا تصح؛ لأنها من رواية ابن جريج عنه، فهي من رواية ابن جريج لسبب النزول، ومثل هذا يكون من قبيل المرسل.
ويبقى النظر في مسألة: هل في الإنفاق في سبيل الله - تبارك وتعالى - إسراف؟
هذه المسألة مختلف فيها، فمن أهل العلم من يقول: ليس فيه إسراف، ويستدلون على هذا ببعض الأدلة نحو ما ثبت أن أبا بكر تصدق بجميع ماله، فلما سأله النبي ﷺ عما أبقى لأهله؟ قال: "أبقيت لهم الله، ورسوله"[2]، فالنبي ﷺ أقرَّه على هذا الفعل.
وكذلك عمر جاء بشطر ماله، فأُقرَّ على ذلك.
إلا أن النبي ﷺ قال لبعض الصحابة كسعد : الثلث والثلث كثير[3] ونهاهم عن أن يتصدقوا، أو أن يوصوا بمالهم، وعلى كل حال قد وردت الأحاديث التي توصي الإنسان أن يترك عياله، وأهله أغنياء؛ خير من يدعهم عالة يتكففون الناس، وهناك نصوص يفهم منها أن الإنسان لا يتصدق بكل ماله، ولا بنصف ماله، ولذلك فالأقرب - والله تعالى أعلم - أن يقال فيما يتعلق بالنفقة في سبيل الله أن هذا يتفاوت بتفاوت الناس، ويختلف باختلافهم، فمن كان بمنزلة أبي بكر وعمر - ا -؛ بحيث إذا أنفق ماله لا ينتظر من الناس شيئاً، ولا يتعلق قلبه بهم، ولا يسأل أحداً شيئاً؛ فلا بأس أن ينفق كل ماله، ومن كان دون ذلك بحيث إذا أنفق تعلق قلبه بالخلق، أو سألهم، أو انتظر منهم عطاء؛ فمثل هذا يقال له: لا تنفق إلا بالقدر الذي لا يلحق فيه من تعول شيء من الإجحاف.
ومما يدل على ذلك قصة الرجل الذي تعرض للنبي ﷺ ومعه قطعة من ذهب، فأعطاها النبي ﷺ، فأعرض عنه، فتعرض له، فأعرض عنه، ثم أعطاه الثالثة؛ فأخذها فرماه بها وقال: يعمد أحدكم إلى ماله لا يملك غيره فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس[4] فهذا يوضح هذا المعنى خاصة وأنه لم يقله لأبي بكر، ولا لعمر - ا -.
ولذلك لعل من أحسن ما يقال في الجمع بين هذه النصوص ما ذكره الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات من أن ذلك يختلف باختلاف الناس، فهو أحسن من قول من قال: إن النفقة في سبيل الله يدخلها الإسراف، ولأحسن من قول من قال أيضاً: إنه لا يدخلها الإسراف بإطلاق، بل يقال فيه هذا التفصيل - والله أعلم -.
والله لما ذكر النفقات على الوالدين، والأقارب في سورة الإسراء قال: وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [سورة الإسراء:26] وقال: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29]، فقوله: فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [سورة الإسراء:29] أي تقعد منقطعاً لا تستطيع التصرف لعدم وجود المال عندك، فتلومك نفسك، ويلومك الناس من أصحاب الحقوق من الأولاد وغيرهم؛ لأنك لم تبق لهم شيئاً من النفقة.
وقوله تعالى: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [سورة الأنعام:141] الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لم يحملها على منع الإسراف في الإنفاق في سبيل الله، ولا على سبب النزول؛ لأن سبب النزول لم يصح سبب النزول؛ إذ لو صحَّ لكان دخوله في هذا العموم دخولاً قطعياً؛ لأنه كما هو معلوم أن سبب النزول إذا صح فإنه يدخل في العموم قطعاً، وإخراجه بالاجتهاد ممنوع؛ لكن لما لم يصح هنا حمله ابن كثير - رحمه الله - على النهي عن الإسراف في الأكل، والشرب وما أشبه ذلك.
والإسراف ضابطه - أو أحسن ما قيل فيه والله أعلم - هو إنفاق المال بغير وجه صحيح، فإنفاقه في معصية الله سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً، فكل مال ينفق في معصية الله هو إسراف، وتبذير؛ قلّ أو كثر، وأما الذي ينفق في غير معصية الله وإنما ينفق في الأمور المباحة فهذا ليس له ضابط محدد، وإنما يختلف باختلاف الناس، فقد تكون النفقة بالنسبة لفلان من التبذير، وبالنسبة لفلان ليست من التبذير، فهذا قد يشتري الثوب بأربعمائة لكنه يملك الملايين فهذا ليس تبذيراً بالنسبة إليه، لكن الذي دخله في الشهر كله أربعمائة ريال، أو خمسمائة، أو سبعمائة؛ ثم يشتري جوالاً بسبعمائة؛ فهذا تبذير بالنسبة له، أما من كان دخله في الشهر عشرة آلاف ثم اشترى التليفون بسبعمائة مثلاً فهذا ليس من التبذير، وقل مثل ذلك فيما يقتنيه الإنسان من أثاث، ومتاع، وما يستأجره من المساكن، فقد يستأجر بيت بأربعين ألف ودخله أربعة آلاف فهذا تبذير، لكن إنسان دخله أربعين ألف ريال، ويستأجر بيت بعشرين ألف ريال؛ فهذا ليس تبذيراً إلا أن يكون ذلك خارجاً عن حاجة الإنسان، فيعتبر من التبذير، وهكذا الأمر في القرى، فلو أن إنساناً وضع للضيف كما فعل إبراهيم ﷺ أعني عجلاً كاملاً فهذه نفقة في محلها إن لم يكن المقصود بها التفاخر، والمباهاة؛ مع كونه يُنتَفَع بهذا، لكن إذا كان ما ينتفع به فإن إضاعته من التبذير، وهكذا.
- أخرجه النسائي في كتاب الزكاة - الاختيال في الصدقة (2559) (ج 5 / ص 79) وأحمد (6695) (ج 2 / ص 181) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (4381).
- أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة - باب الرخصة في الرجل يخرج من ماله (1680) (ج 2 / ص 54) والترمذي في كتاب المناقب عن رسول الله ﷺ باب في مناقب أبي بكر وعمر - ا كليهما - (3675) (ج 5 / ص 614) والدارمي في كتاب الزكاة - باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده (1660) (ج 1 / ص 480) وحسنه الألباني في المشكاة برقم (6021).
- أخرجه البخاري في كتاب الوصايا - باب الوصية بالثلث (2593) (ج 3 / ص 1007) ومسلم في كتاب الوصية - باب الوصية بالثلث (1628) (ج 3 / ص 1250).
- أخرجه الدارمي في كتاب الزكاة - باب النهي عن الصدقة بجميع ما عند الرجل (1659) (ج 1 / ص 479) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (6408).