الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
وَمِنَ ٱلْأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُوا۟ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله : وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] أي: وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة، وما هو فرش، قيل: المراد بالحمولة: ما يحمل عليه من الإبل، والفرش: الصغار منها كما قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: حَمُولَةً ما حمل عليه من الإبل وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] الصغار من الإبل [رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه]"[1].


الحمولة فعولة بمعنى فاعلة أي حاملة، والمعنى أنها تحملكم، وتحمل متاعكم، والحمولة من الأنعام هي الإبل، ولا حاجة لقول من قال: إن الحمولة الإبل، والخيل، والحمير، والبغال، فهذه تحمل لكنها ليست من الأنعام؛ لأن المراد بالأنعام الأصناف الثمانية التي سيأتي ذكرها، وهي الإبل، والبقر، والغنم بنوعيه - المعز، والضان - فهذه هي الأنعام.
فقوله: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً [سورة الأنعام:142] لا يدخل فيها الحمير، والبغال، والخيل؛ لأنها ليست من الأنعام، فهي الإبل، ويبقى النظر في البقر هل يحمل عليها أم لا يحمل عليها؟
نحن نعرف حديث البقرة التي قالت: إني لم أخلق لهذا[2] فالأصل في البقر أنه لا يحمل عليها، وهذا هو المعروف في بلاد العرب؛ لأن أبقارهم لا تحتمل ذلك، لكن يوجد في بعض بلاد العجم أبقار تحتمل هذا، ويحملون عليها الأمتعة العظيمة، وينقلونها من مسافات شاسعة، فحيث وجدت الأبقار التي تحمل الأمتعة - إن كان ذلك مما تطيقه - فإنها تدخل في قوله: حَمُولَةً، والحاصل أن هذا خلاف الأصل، وإلا فالأصل أن البقر لا يحمل عليها، ولذلك يقال: الحمولة هي الإبل.
ويبقى المراد بالفرش في قوله: حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] فبعضهم خصه بصغار الإبل لتي لا تحتمل أن يُحمل عليها، وهذا هو الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وذهب الكثيرون إلى أن الفرش هو ما يقابل الحمولة يعني ليس صغار الإبل فقط بل يدخل فيه الغنم أيضاً.
وسبب إطلاق الفرش عليها إما باعتبار أنها قريبة من الأرض لقوائمها، ولذلك فأنت حينما تشاهد الإبل والغنم من بعيد تشعر كأن الغنم لاصقة في الأرض، والإبل طويلة القوائم مرتفعة.
ويحتمل أن يكون قيل لها فرش باعتبار أن هذا من المنافع التي تؤخذ منها حيث تؤخذ من أصوافها، وأشعارها؛ ما يفترش من ألوان الفرش التي ينامون عليها، ويجلسون عليها أو نحو ذلك، فهم ينتفعون بلحومها، وألبانها، وأصوافها، وأشعارها، وأوبارها.

"وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "الحمولة ما تركبون، والفرش ما تأكلون، وتحلبون، شاة لا تحمل، تأكلون لحمها، وتتخذون من صوفها لحافاً، وفرشاً"".


هذا القول يدخل فيه القول الذي قبله أعني قول من قال: الفرش صغار الإبل؛ لأن معناه أن ما لا يركب فهو داخل في الفرش، فيدخل فيه صغار الإبل، ويدخل فيه الغنم، إلا أن القائل بأن الفرش صغار الإبل قد يقصد بذلك المثال لا الحصر، فيحتمل أن يكون من قبيل التفسير بالمثال - والله تعالى أعلم -.

"وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ۝ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [سورة يس:71-72]، وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ [سورة النحل:66] إلى أن قال: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [سورة النحل:80].
وقوله تعالى: كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:142] أي: من الثمار، والزروع، والأنعام، فكلها خلقها الله، وجعلها رزقاً لكم.
وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة الأنعام:142] أي: طريقه، وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله أي من الثمار، والزروع؛ افتراء على الله.
إِنَّهُ لَكُمْ [سورة الأنعام:142] أي: إن الشيطان أيها الناس لكم عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة الأنعام:142] أي: بيّن ظاهر العداوة كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:6]، وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا الآية [سورة الأعراف:27].
وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [سورة الكهف:50]، والآيات في هذا كثيرة في القرآن".


الأمر في قوله تعالى: كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:142] هل يقال: هو أمر للوجوب، أم للاستحباب، أم للإباحة؛ لأنه في سياق الامتنان؟
هو للإباحة، ولذلك لا تكاد تجد في القرآن الحث على الأكل، والشرب وما إلى ذلك من الأمور التي يطلبها الإنسان بما طبع عليه، وما جبل عليه؛ لافتقاره إليها في بقائه في هذه الحياة، ولما يجد فيها من اللذة إلا أن يذكر ذلك على سبيل الامتنان مثلاً، بينما العبادات الشاقة يتردد الأمر بها كالصلاة، والزكاة وما أشبه ذلك مما يشق على الإنسان.
قوله تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة الأنعام:142] الخُطُوَات جمع خُطْوَة وهي واحدة الخَطْو، والخطَوات جمع خَطْوَة، ففرق بعضهم بين هذا وهذا، فالخَطْوَة هي المسافة التي تكون بين القدمين في المشي، والخُطْوَة واحدة الخطى.
وخُطُوات الشيطان أي طرائقه، ومسالكه التي يزينها للإنسان بأن يدرجه فيها حتى يسلك في سبيل الغواية شيئاً فشيئاً، فالشيطان يزين للإنسان أمراً قد لا تنكره نفسه ابتداء، ثم بعد ذلك يبلغ به إلى أمور لم تخطر له على بال أنه يلج فيها، أو يقع فيها، سواء في باب الشهوات، أو في باب الشبهات - نسأل الله العافية -، وسد الباب هو الطريق الذي يصل به إلى النجاة، وإلا فإن الإنسان قد يتوسع في الكلام مع النساء من باب الدعوة إلى الله، أو التواصي على البر والتقوى، أو التواصل في قضايا زواج مثلاً بأن يكون وسيطاً يبحث لهن عن أزواج، أو بالمشاركات عبر منتديات الحوار والكلام وما أشبه هذا، كل هذا مما يزينه له الشيطان شيئاً فشيئاً حتى يمرض قلبه، وقد يقع في الفاحشة مع أنه لم يخطر في باله أنه يبلغ إلى هذا الحد، لكن البداية كانت بأن فتح على نفسه باباً كان في غنىً عنه، فزينه له الشيطان باسم باب التواصي على البر والتقوى، حتى وصل به إلى أمور جسيمة.
ومن تزيين الشيطان أن يدخل الإنسان في أمور باسم الغيرة على الدين، فيفتن، ويبتلى، ويدخل في أشياء يخالفه عليها أهل العلم حتى يدخله في أمور قد تذهب بآخرته، مع أنه لم يخطر بباله في البداية أنه سيصل إلى هذا الحد - نسأل الله العافية -، فالله المستعان.

  1. أخرجه الحاكم (3235) (ج 2 / ص 347) والطبراني في الكبير (9037) (ج 9 / ص 208).
  2. أخرجه البخاري في كتاب المزارعة - باب استعمال البقر للحراثة (2199) (ج 2 / ص 818) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق (2388) (ج 4 / ص 1857).

مرات الإستماع: 0

"حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام: 142] عطف على جنات، والحمولة الكبار، والفرش الصغار، كالعجاجيل، والفصلان.

وقيل: الحمولة الإبل؛ لأنها يحمل عليها، والفرش: الغنم؛ لأنها تفرش للذبح، ويفرش ما ينسج من صوفها."

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً [الأنعام: 142] بمعنى فاعلة، هنا حمولة يعني حاملة، حمولة، وفرشا هنا منصوبة، يقول: وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا عطف على جنات وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ [الأنعام: 141] جنات هنا مفعول به أنشأ جنات فهذا معطوف عليه وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا فجنات مفعول أنشأ، يعني أنشأ جنات، وأنشأ من الأنعام حمولة، وفرشًا.

يقول: والحمولة الكبار يعني الإبل، والفرش الصغار كالعجاجيل، والفصلان، العجاجيل جمع عجل، وهذا التفسير أن الحمولة هي الكبار، والفرش هو الصغار هذا مروي عن ابن مسعود [1] واختاره أبو جعفر ابن جرير[2].

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ويقول: وقيل: الحمولة الإبل؛ لأنها يحمل عليها، والفرش الغنم؛ لأنها تفرش للذبح، ويفرش ما ينسج من صوفها، يعني قيل لها الفرش لهذه الاعتبارات عند الذبح على جنبها تفرش، وكذلك الجلد يفرش، وإلى عهد قريب مجالس الناس فيها هذه الجلود يجلسون عليها قبل هذه النعم التي يتقلبون بها، وكل ذلك من النعم.

وهذا القول بأن الحمولة الإبل لأنه يحمل عليها مروي عن ابن زيد لكن بزيادة أن الفرش قال: "ما تأكلون، وتحلبون"[3] وهذا المعنى استحسنه ابن كثير - رحمه الله -[4] وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً يعني الإبل يحمل عليها، وفرشا ما تأكلون، وتحلبون، وهذا يحتمل، وكأن القول بأن الحمولة هي الكبار التي يحمل عليها، وأن الفرش هي الصغار.

وبعضهم علل هذه التسمية الفرش، أو هذا الوصف باعتبار أنها قريبة من الأرض، وحينما تنظر من بعيد إلى الأنعام ترى الإبل مرتفعة، وترى الغنم كأنها ملتصقة بالأرض على هذا المعنى.

فالمقصود - والله أعلم - أن الحمولة الكبار يحمل عليها، والفرش هي الصغار من أولادها، والغنم كذلك؛ لأنه قابله بالحمولة، لكن الذين قالوا: بأن الفرش باعتبار الجلود التي توضع إلى آخره كأنهم نظروا إلى المنافع، بأن هذه يحمل عليها، وهذه الجلود تفترش، لكن لا يكون ذلك مختصًا بالإبل دون الغنم مثلاً، والبقر، أو العكس؛ لأن الجلود تؤخذ من جميعها، يعني تنتفعون بهذا، وهذا، ومن جعله وصفا لها فقال: الحمولة هي الإبل التي يحمل عليها.

وأشار بعض أهل العلم إلى كون البقر بهذا الاعتبار في بعض البلاد يحمل عليها، وأظنهم يقصدون بهذا مثل الجواميس يحملون عليها، وقد ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[5] أنه في بعض البلاد يحمل على الأبقار، وأنها قوية، وتتحمل، لكن تعرفون في الحديث الذي في الرجل الذي ركب البقرة فاشتكت، وقالت: إني لم أخلق لهذا، فقال: سبحان الله بقرة تتكلم[6] فهذا يدل على أن البقر لا يحمل عليه، وهو الواقع، لكن الشيخ محمد الأمين ذكر أنه في بعض البلاد توجد أبقار قوية يحملون عليها لكن لا عبرة بذلك، فالأصل أن البقر لا يحمل عليه.

  1.  تفسير الطبري (9/619) وتفسير ابن كثير (3/350).
  2.  نفس المصادر السابقة.
  3.  تفسير ابن كثير (3/350).
  4.  المصدر السابق.
  5.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/334).
  6.  أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3471).