الحمولة فعولة بمعنى فاعلة أي حاملة، والمعنى أنها تحملكم، وتحمل متاعكم، والحمولة من الأنعام هي الإبل، ولا حاجة لقول من قال: إن الحمولة الإبل، والخيل، والحمير، والبغال، فهذه تحمل لكنها ليست من الأنعام؛ لأن المراد بالأنعام الأصناف الثمانية التي سيأتي ذكرها، وهي الإبل، والبقر، والغنم بنوعيه - المعز، والضان - فهذه هي الأنعام.
فقوله: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً [سورة الأنعام:142] لا يدخل فيها الحمير، والبغال، والخيل؛ لأنها ليست من الأنعام، فهي الإبل، ويبقى النظر في البقر هل يحمل عليها أم لا يحمل عليها؟
نحن نعرف حديث البقرة التي قالت: إني لم أخلق لهذا[2] فالأصل في البقر أنه لا يحمل عليها، وهذا هو المعروف في بلاد العرب؛ لأن أبقارهم لا تحتمل ذلك، لكن يوجد في بعض بلاد العجم أبقار تحتمل هذا، ويحملون عليها الأمتعة العظيمة، وينقلونها من مسافات شاسعة، فحيث وجدت الأبقار التي تحمل الأمتعة - إن كان ذلك مما تطيقه - فإنها تدخل في قوله: حَمُولَةً، والحاصل أن هذا خلاف الأصل، وإلا فالأصل أن البقر لا يحمل عليها، ولذلك يقال: الحمولة هي الإبل.
ويبقى المراد بالفرش في قوله: حَمُولَةً وَفَرْشًا [سورة الأنعام:142] فبعضهم خصه بصغار الإبل لتي لا تحتمل أن يُحمل عليها، وهذا هو الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وذهب الكثيرون إلى أن الفرش هو ما يقابل الحمولة يعني ليس صغار الإبل فقط بل يدخل فيه الغنم أيضاً.
وسبب إطلاق الفرش عليها إما باعتبار أنها قريبة من الأرض لقوائمها، ولذلك فأنت حينما تشاهد الإبل والغنم من بعيد تشعر كأن الغنم لاصقة في الأرض، والإبل طويلة القوائم مرتفعة.
ويحتمل أن يكون قيل لها فرش باعتبار أن هذا من المنافع التي تؤخذ منها حيث تؤخذ من أصوافها، وأشعارها؛ ما يفترش من ألوان الفرش التي ينامون عليها، ويجلسون عليها أو نحو ذلك، فهم ينتفعون بلحومها، وألبانها، وأصوافها، وأشعارها، وأوبارها.
هذا القول يدخل فيه القول الذي قبله أعني قول من قال: الفرش صغار الإبل؛ لأن معناه أن ما لا يركب فهو داخل في الفرش، فيدخل فيه صغار الإبل، ويدخل فيه الغنم، إلا أن القائل بأن الفرش صغار الإبل قد يقصد بذلك المثال لا الحصر، فيحتمل أن يكون من قبيل التفسير بالمثال - والله تعالى أعلم -.
وقوله تعالى: كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:142] أي: من الثمار، والزروع، والأنعام، فكلها خلقها الله، وجعلها رزقاً لكم.
وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة الأنعام:142] أي: طريقه، وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله أي من الثمار، والزروع؛ افتراء على الله.
إِنَّهُ لَكُمْ [سورة الأنعام:142] أي: إن الشيطان أيها الناس لكم عَدُوٌّ مُّبِينٌ [سورة الأنعام:142] أي: بيّن ظاهر العداوة كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر:6]، وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا الآية [سورة الأعراف:27].
وقال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [سورة الكهف:50]، والآيات في هذا كثيرة في القرآن".
الأمر في قوله تعالى: كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ [سورة الأنعام:142] هل يقال: هو أمر للوجوب، أم للاستحباب، أم للإباحة؛ لأنه في سياق الامتنان؟
هو للإباحة، ولذلك لا تكاد تجد في القرآن الحث على الأكل، والشرب وما إلى ذلك من الأمور التي يطلبها الإنسان بما طبع عليه، وما جبل عليه؛ لافتقاره إليها في بقائه في هذه الحياة، ولما يجد فيها من اللذة إلا أن يذكر ذلك على سبيل الامتنان مثلاً، بينما العبادات الشاقة يتردد الأمر بها كالصلاة، والزكاة وما أشبه ذلك مما يشق على الإنسان.
قوله تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [سورة الأنعام:142] الخُطُوَات جمع خُطْوَة وهي واحدة الخَطْو، والخطَوات جمع خَطْوَة، ففرق بعضهم بين هذا وهذا، فالخَطْوَة هي المسافة التي تكون بين القدمين في المشي، والخُطْوَة واحدة الخطى.
وخُطُوات الشيطان أي طرائقه، ومسالكه التي يزينها للإنسان بأن يدرجه فيها حتى يسلك في سبيل الغواية شيئاً فشيئاً، فالشيطان يزين للإنسان أمراً قد لا تنكره نفسه ابتداء، ثم بعد ذلك يبلغ به إلى أمور لم تخطر له على بال أنه يلج فيها، أو يقع فيها، سواء في باب الشهوات، أو في باب الشبهات - نسأل الله العافية -، وسد الباب هو الطريق الذي يصل به إلى النجاة، وإلا فإن الإنسان قد يتوسع في الكلام مع النساء من باب الدعوة إلى الله، أو التواصي على البر والتقوى، أو التواصل في قضايا زواج مثلاً بأن يكون وسيطاً يبحث لهن عن أزواج، أو بالمشاركات عبر منتديات الحوار والكلام وما أشبه هذا، كل هذا مما يزينه له الشيطان شيئاً فشيئاً حتى يمرض قلبه، وقد يقع في الفاحشة مع أنه لم يخطر في باله أنه يبلغ إلى هذا الحد، لكن البداية كانت بأن فتح على نفسه باباً كان في غنىً عنه، فزينه له الشيطان باسم باب التواصي على البر والتقوى، حتى وصل به إلى أمور جسيمة.
ومن تزيين الشيطان أن يدخل الإنسان في أمور باسم الغيرة على الدين، فيفتن، ويبتلى، ويدخل في أشياء يخالفه عليها أهل العلم حتى يدخله في أمور قد تذهب بآخرته، مع أنه لم يخطر بباله في البداية أنه سيصل إلى هذا الحد - نسأل الله العافية -، فالله المستعان.
- أخرجه الحاكم (3235) (ج 2 / ص 347) والطبراني في الكبير (9037) (ج 9 / ص 208).
- أخرجه البخاري في كتاب المزارعة - باب استعمال البقر للحراثة (2199) (ج 2 / ص 818) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق (2388) (ج 4 / ص 1857).