يقول تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يعني حرمت عليهم ذوات الأظفار، وهي كل ما لم يكن مشقوق الأصابع، وهذا هو المشهور عند أهل العلم والذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وما لم يكن مشقوق الأصابع كالبط، والنعام، والإبل وما شابه ذلك، كل ذلك يحرم عليهم، وفسره بعضهم بأوسع من هذا لكن فيه بُعد - والله أعلم -.
الثرب - بإسكان الراء - هو الشحم الرقيق الأبيض الذي يكون في داخل البطن على الكرش، والأمعاء.
لماذا قال: "يعني الثرب، وشحم الكليتين"؟ قال ذلك؛ لأنه ليس مما حملت ظهورها، وليس مما اختلط بعظم؛ مما أبيح لهم، فالشحم الذي يكون على الفخذ مثلاً، أو الظهر، أو الرقبة؛ هذا يكون مما اختلط بعظم، وكذلك الشحم الذي يكون في الإلية هذا اختلط بعظم وهو العصعص، فلذلك هذا لا يحرم عليهم، إنما الذي يحرم ما لم يختلط بعظم، هذا هو الذي حمله على القول: "يعني الثرب، وشحم الكليتين".
قوله: "وكانت اليهود تقول: إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه" يعني حرمه يعقوب ﷺ؛ لكن هذا ليس صحيحاً.
وقوله تعالى: أَوِ الْحَوَايَا قال الإمام أبو جعفر ابن جرير: الحوايا جمع واحدها حاويا وحاوية وحويَّة، وهو ما تحوَّى من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن وهي المباعر، وتسمى المرابض، وفيها الأمعاء".
قوله: "وهي بنات اللبن" يعني خزائن اللبن، ولذلك العلم الحديث يقول: إن الدم يمتص الغذاء من الأمعاء، ثم ينتقل إلى سائر الجسم.
يقول: "وهي المباعر" ويقصدون بالمباعر ما نسميه الآن بالأمعاء الغليظة، وتسمى المباعر؛ لأن البعر تجتمع فيها، والمقصود أن ما حملته هذه الحوايا من الشحوم فإنه يجوز لهم أكله.
وبعضهم يقول: إن الحوايا هي الأمعاء مطلقاً، فما كان عليها من الشحم فإنه يحل لهم، بمعنى أنه لا يختص ذلك بالأمعاء الغليظة - والله أعلم -.
يقول: "وتسمى المرابض" الأمعاء وأحشاء البطن يقال لها المرابض.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: أَوِ الْحَوَايَا وهي المبعر، وقال مجاهد: الحوايا المبعر، والمربض".
يعني أن الشحم الذي يكون في أحشاء البطن حلال لهم.
"أو" في قوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] حرف عطف فيكون ما بعد "أو" عائد إلى الأشياء التي أبيحت لهم، فيكون الذي أبيح لهم من الشحوم مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] وهذا الذي عليه عامة المحققين من أئمة اللغة، ومن المفسرين.
وبعضهم يقول: إن الحوايا، وما اختلط بعظم؛ معطوف على الشحوم، فيكون الكلام هكذا: "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر، والغنم؛ حرمنا عليهم شحومهما، والحوايا، وما اختلط بعظم، وهذا القول فيه تكلف، وهو خلاف الظاهر، والأصل حمل الكلام على ظاهره إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولا حاجة لمثل هذه التكلف.
والخلاصة أن الأشياء التي حرمت عليهم هي كل ذي ظفر، ومن البقر، والغنم؛ حرمنا عليهم الشحوم، ويستثنى من ذلك ما حملت الظهور، أو الحوايا؛ الشحوم التي على الأمعاء، أو ما اختلط بعظم، فكل ذلك مباح لهم - والله أعلم -.
وقوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ [سورة الأنعام:146] أي: هذا التضييق إنما فعلناه بهم، وألزمناهم به؛ مجازاة على بغيهم، ومخالفتهم أوامرنا كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160].
وقوله: وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146] أي: وإنا لعادلون فيما جازيناهم به.
وقال ابن جرير: وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه".
يقول: "لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه"؛ لأن الله قال: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93] فكذبهم الله بهذا.
وقد جاء في التوراة أيضاً هذا النص: "حرمتُ عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وكلَّ دابة ليست مشقوقة الحافر، وكل حوت ليس فيه سفاسف - يعني ليس فيه بياض -"، وقوله: "وكلَّ دابة ليست مشقوقة الحافر" هذا ما فسرنا به قوله: حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146].
مسألة:
من جملة ما حُرِّم على الذين هادوا الشحوم إلا ما اختلط بعظم، أو الحوايا - على القول بأنها مستثناة مما لا يحل - فقد يقول قائل: إن ما حرِّم عليهم الشيء اليسير من الشحوم كالتي في العينين، وفي القلب، والكليتين ونحو ذلك فما الحكمة من تحريم هذه الأشياء اليسيرة مع أن هناك شحم كثيف في الإلية - مثلاً - وفي غيرها لم يحرم عليهم؛ لأنه مما اختلط بعظم، أو من الحوايا؟
فالجواب أن تحريم الشحوم عليهم بهذه الصفة تجعلهم يحتاجون إلى فصل الشحم من بعض أجزاء الجسم مما يتم فصله بصعوبة، فهذا يحل وهذا لا يحل وهكذا، فكأن في هذا معنى التضييق عقوبة لهم - والله أعلم -.
يعني جاؤوا وحولوها إلى شيء آخر كأن يكونوا أذابوها، وباعوها ودكاً، ثم قالوا: نحن ما بعنا الشحوم.
"وعن جابر بن عبد الله - ا - يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول عام الفتح: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميت،ة والخنزير، والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه، وأكلوا ثمنه ورواه الجماعة[2].
- أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه (2110) (ج 2 / ص 774) ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1582) (ج 3 / ص 1207).
- أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب بيع الميتة والأصنام (2121) (ج 2 / ص 779) ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1581) (ج 3 / ص 1207).