الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُوا۟ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146]، يقول تعالى : وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر من البهائم، والطير؛ كالإبل، والنعام، والإوز، والبط".

يقول تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يعني حرمت عليهم ذوات الأظفار، وهي كل ما لم يكن مشقوق الأصابع، وهذا هو المشهور عند أهل العلم والذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وما لم يكن مشقوق الأصابع كالبط، والنعام، والإبل وما شابه ذلك، كل ذلك يحرم عليهم، وفسره بعضهم بأوسع من هذا لكن فيه بُعد - والله أعلم -.

"وقوله تعالى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا [سورة الأنعام:146] قال السدي: يعني الثرب وشحم الكليتين".


الثرب - بإسكان الراء - هو الشحم الرقيق الأبيض الذي يكون في داخل البطن على الكرش، والأمعاء.

"يعني الثرب وشحم الكليتين، وكانت اليهود تقول: إنه حرمه إسرائيل  فنحن نحرمه".


لماذا قال: "يعني الثرب، وشحم الكليتين"؟ قال ذلك؛ لأنه ليس مما حملت ظهورها، وليس مما اختلط بعظم؛ مما أبيح لهم، فالشحم الذي يكون على الفخذ مثلاً، أو الظهر، أو الرقبة؛ هذا يكون مما اختلط بعظم، وكذلك الشحم الذي يكون في الإلية هذا اختلط بعظم وهو العصعص، فلذلك هذا لا يحرم عليهم، إنما الذي يحرم ما لم يختلط بعظم، هذا هو الذي حمله على القول: "يعني الثرب، وشحم الكليتين".
قوله: "وكانت اليهود تقول: إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه" يعني حرمه يعقوب ﷺ؛ لكن هذا ليس صحيحاً.

"وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [سورة الأنعام:146] يعني ما علق بالظهر من الشحوم.
وقوله تعالى: أَوِ الْحَوَايَا قال الإمام أبو جعفر ابن جرير: الحوايا جمع واحدها حاويا وحاوية وحويَّة، وهو ما تحوَّى من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن وهي المباعر، وتسمى المرابض، وفيها الأمعاء".


قوله: "وهي بنات اللبن" يعني خزائن اللبن، ولذلك العلم الحديث يقول: إن الدم يمتص الغذاء من الأمعاء، ثم ينتقل إلى سائر الجسم.
يقول: "وهي المباعر"  ويقصدون بالمباعر ما نسميه الآن بالأمعاء الغليظة، وتسمى المباعر؛ لأن البعر تجتمع فيها، والمقصود أن ما حملته هذه الحوايا من الشحوم فإنه يجوز لهم أكله.
وبعضهم يقول: إن الحوايا هي الأمعاء مطلقاً، فما كان عليها من الشحم فإنه يحل لهم، بمعنى أنه لا يختص ذلك بالأمعاء الغليظة - والله أعلم -.
يقول: "وتسمى المرابض" الأمعاء وأحشاء البطن يقال لها المرابض.

"قال: ومعنى الكلام ومن البقر، والغنم؛ حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما، أو ما حملت الحوايا.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: أَوِ الْحَوَايَا وهي المبعر، وقال مجاهد: الحوايا المبعر، والمربض".


يعني أن الشحم الذي يكون في أحشاء البطن حلال لهم.

"وقوله تعالى: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] يعني إلا ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه لهم".


"أو"  في قوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] حرف عطف فيكون ما بعد "أو" عائد إلى الأشياء التي أبيحت لهم، فيكون الذي أبيح لهم من الشحوم مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] وهذا الذي عليه عامة المحققين من أئمة اللغة، ومن المفسرين.
وبعضهم يقول: إن الحوايا، وما اختلط بعظم؛ معطوف على الشحوم، فيكون الكلام هكذا: "وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر، والغنم؛ حرمنا عليهم شحومهما، والحوايا، وما اختلط بعظم، وهذا القول فيه تكلف، وهو خلاف الظاهر، والأصل حمل الكلام على ظاهره إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولا حاجة لمثل هذه التكلف.
والخلاصة أن الأشياء التي حرمت عليهم هي كل ذي ظفر، ومن البقر، والغنم؛ حرمنا عليهم الشحوم، ويستثنى من ذلك ما حملت الظهور، أو الحوايا؛ الشحوم التي على الأمعاء، أو ما اختلط بعظم، فكل ذلك مباح لهم - والله أعلم -.

"وقال ابن جريج: شحم الإلية ما اختلط بالعصعص فهو حلال، وكل شيء في القوائم، والجنب، والرأس، والعين، وما اختلط بعظم فهو حلال، ونحوه قاله السدي.
وقوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ [سورة الأنعام:146] أي: هذا التضييق إنما فعلناه بهم، وألزمناهم به؛ مجازاة على بغيهم، ومخالفتهم أوامرنا كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160].
وقوله: وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146] أي: وإنا لعادلون فيما جازيناهم به.
وقال ابن جرير: وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه".


يقول: "لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه"؛ لأن الله قال: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93] فكذبهم الله بهذا.
وقد جاء في التوراة أيضاً هذا النص: "حرمتُ عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وكلَّ دابة ليست مشقوقة الحافر، وكل حوت ليس فيه سفاسف - يعني ليس فيه بياض -"، وقوله: "وكلَّ دابة ليست مشقوقة الحافر" هذا ما فسرنا به قوله: حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146].
مسألة:
من جملة ما حُرِّم على الذين هادوا الشحوم إلا ما اختلط بعظم، أو الحوايا - على القول بأنها مستثناة مما لا يحل - فقد يقول قائل: إن ما حرِّم عليهم الشيء اليسير من الشحوم كالتي في العينين، وفي القلب، والكليتين ونحو ذلك فما الحكمة من تحريم هذه الأشياء اليسيرة مع أن هناك شحم كثيف في الإلية - مثلاً - وفي غيرها لم يحرم عليهم؛ لأنه مما اختلط بعظم، أو من الحوايا؟

فالجواب أن تحريم الشحوم عليهم بهذه الصفة تجعلهم يحتاجون إلى فصل الشحم من بعض أجزاء الجسم مما يتم فصله بصعوبة، فهذا يحل وهذا لا يحل وهكذا، فكأن في هذا معنى التضييق عقوبة لهم - والله أعلم -.

"وقال عبد الله بن عباس: بلغ عمر بن الخطاب أجمعين أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أن رسول الله ﷺ قال: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم؛ فجملوها، فباعوها [أخرجاه][1]".


يعني جاؤوا وحولوها إلى شيء آخر كأن يكونوا أذابوها، وباعوها ودكاً، ثم قالوا: نحن ما بعنا الشحوم.
"وعن جابر بن عبد الله - ا - يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول عام الفتح: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميت،ة والخنزير، والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه، وأكلوا ثمنه ورواه الجماعة[2].

  1. أخرجه البخاري في كتاب البيوع - باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه (2110) (ج 2 / ص 774) ومسلم في كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1582) (ج 3 / ص 1207).
  2. أخرجه البخاري في كتاب البيوع -  باب بيع الميتة والأصنام (2121) (ج 2 / ص 779) ومسلم في كتاب المساقاة -  باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1581) (ج 3 / ص 1207).

مرات الإستماع: 0

"كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] هو ما له إصبع من دابة، وطائر، قاله الزمخشري، وقال ابن عطية: يراد به الإبل، والأوز، والنعام[1] ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع، وله ظفر، وقال الماوردي مثله[2] وحكى النقاش عن ثعلب: أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر، وما يصيد فهو ذو مخلب[3] وهذا غير مطرد؛ لأن الأسد ذو ظفر."

قوله: كُلَّ ذِي ظُفُرٍ مما حرم على بني إسرائيل كل ذي ظفر، وما له إصبع من دابة، وطائر، يقول: قال ابن عطية: يراد به الإبل، والإوز، والنعام، وكذلك البط يعني ليس له أصابع منفرجة، وبنحو هذا قال أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[4].

"إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [الأنعام: 146] يعني ما في الظهور، والجنوب من شحم أَوِ الْحَوايا هي المباعر، وقيل: المصارين، والحشوة، ونحوهما."

المباعر هي التي يجتمع فيها البعر، وهي آخر الأمعاء، وقيل: المصارين، والحشوة المقصود بالحشوة أحشاء البطن.

"مما يتحوّى في البطن."

يتحوى: يعني يجتمع، ويستدير؛ فالأمعاء مستديرة، والمباعر، ونحو ذلك أَوِ الْحَوايا جمع حوية، وهي كل ما استدار في البطن، وما يكون عليها من الشحوم، يكون عليها غشاء رقيق من الشحم كما هو معروف.

"وواحد حوايا حوية على وزن فعيلة، فوزن حوايا على هذا فعائل كصحيفة، وصحائف، وقيل: واحدها حاوية على وزن فاعلة، فحوايا على هذا فواعل: كضاربة، وضوارب، وهو معطوف على "ما"في قوله: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا فهو من المستثنى من التحريم.

وقيل: عطف على الظهور، فالمعنى إلا ما حملت الظهور، أو حملت الحوايا.

وقيل: عطف على الشحوم، فهو من المحرم."

قوله - تبارك، وتعالى - هنا: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا [الأنعام: 146] المحرمات هذه لكن ليس كل الشحوم؛ لأنه استثنى من هذه الشحوم، قال: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا فهذا حلال يعني الشحم الذي يكون على ظهر الدابة إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا.

ثم قال: أَوِ الْحَوايا هل الحوايا داخلة في المحرم؟ يعني وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا [الأنعام: 146] يعني، والحوايا فيكون الاستثناء يعود إلى قوله: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا يكون مستثنى من عموم الشحوم، وكذلك أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام: 146] فيكون ذلك كما سبق في الحوايا فهذا يحتمل، والذي يظهر - والله أعلم - أن العطف بـ"أو" يعود إلى ما قبله من المستثنيات، يعني حرمت عليهم الشحوم إلا ما ذكر مما حملت الظهور، أو كان في أجواف هذه البهائم مما يغشي الأمعاء، والكلى، ونحو ذلك، أو ما اختلط بعظم، فيكون ذلك من المستثنى يكون حلالا مختلط بعظم، وهذا واضح، وكثير، ومنه الإلية فهي مختلطة بعظم العصعص، فتكون مما أبيح لهم.

وقوله هنا: الْحَوايا جمع حوية إلى آخره قيل، واحدها حاوية يقول: وهو معطوف على ما في قوله: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: "تحقيق أن الشحوم المحرمة عليهم من البقر، والغنم مقصورة على الثروب، وشحم الكليتين، والثروب: جمع ثرب، وهو الغشاء من الشحم الرقيق الذي يغطي الجوف، فيكون على الكرش، والمصارين، هذا وشحم الكلى هو الحرام عليهم، أما غيره فيدخل في الاستثناءات الآتية"[5] هذا قول الشنقيطي - رحمه الله -[6] يعني يرى أن قوله: أَوِ الْحَوايا أنها مما يحرم عليهم، ولو قيل: بأن ذلك جميعا مما يستثنى، وأنه حلال فهذا ظاهر الآية - والله تعالى أعلم - مع أنها تحتمل غير ذلك، فيكون ذلك من قبيل العطف على ما أبيح - والله أعلم -.

هنا يقول: وهو معطوف على ما في قوله: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا يعني الحوايا يكون مما أبيح لهم، فهو من المستثنى من التحريم، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير[7] وعليه أصحاب المعاني، معاني القرآن، وجماعة من الأئمة من أهل اللغة كالكسائي، والفراء، وثعلب[8] أن هذه المتعاطفات على المباح، أو الحوايا يعني يرجع إلا ما حملت إلى قوله: مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا.

وقيل: عطف على الظهور فالمعنى إلا ما حملت الظهور، أو حملت الحوايا، وهذا يرجع إلى المعنى السابق يعني أن هذه مما استثني من التحريم. 

وقيل: عطف على الشحوم، فهو من المحرم، ومن البقر، والغنم حرمنا عليهم شحومهما، استثنى من الشحوم ما حملت الظهور، ثم ذكر باقي المحرمات أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام: 146] - والله أعلم -.

"أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يريد ما في جميع الجسد."

يعني مما يكون مع الأضلاع، أو مما يكون في العضد، أو الفخذ، أو نحو هذا، وكما ذكرت أيضًا الألية، وقد نقل الواحدي الإجماع على أنه مما أحل لهم[9] أو ما اختلط بعظم يعني الألية داخلة فيه، لكن ما الذي حمل هؤلاء العلماء الذين قالوا بأن قوله: أَوِ الْحَوَايَا يعود إلى ما حرم عليهم أنه عائد إلى الشحوم، وليس مما استثني؟ يعني كأن هؤلاء نظروا إلى أنه على المعنى الآخر أنها متعاطفات على المستثنى أنه لن يبقى شيء ما الذي يحرم عليهم إذًا من الشحوم، فهي إما أن تكون مختلطة بعظم، أو مما حملت الظهور، أو مما في الأجواف مما ليس بمختلط بعظم، ولا مما حملت الظهور كالثروب، ونحو ذلك، فالكل صار حلالا بهذا الاعتبار، فكأن هذا هو الذي حملهم على القول بأن الاستثناء هنا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [الأنعام: 146] ثم ذكر باقي المحرمات، أو الحوايا فهي محرمة.

"وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي: فيما أخبرنا به من التحريم، وفي ذلك تعريض بكذب من حرم ما لم يحرم الله."

وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعني فيما أخبرنا به من التحريم، وهذا المعنى قال به أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[10] وحمله بعضهم كابن كثير على معنى، وإنا لعادلون[11] يعني فيما حكمنا عليهم به، وما جزيناهم به من هذا التحريم، فتفسيره بالصدق في الأخبار؛ لأنه في الغالب أن الصدق يقال: للخبر وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [الأنعام: 115] صدقًا في الأخبار، وعدلا في الأحكام؛ فمن فسره بالصدق بالخبر، وما قاله مما حرم عليهم كابن جرير - رحمه الله - يحملون هذا على اعتبار أن هؤلاء زعموا أنه لم يحرم عليهم شيء في التوراة، ولكن إسرائيل الذي هو يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - حرم ذلك على نفسه، فاتبعوه، وأنه لم يحرم عليهم شيء بعد ذلك.

ويذكر أن في التوراة: "حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وكل دابة ليست مشقوقة الحافر" هذا كل ما ورد من قوله هنا: كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] وكل حوت ليس فيه سفاسف، يعني بياض.

يقول: وفي ذلك تعريض بكذب من حرم ما لم يحرم الله، هذا بناء على أنه من باب الصدق في الخبر وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وهذا هو الظاهر المتبادر، ولا شك أنه حكم عادل؛ لأن الله  لا يظلم الناس شيئا، لكن في قوله - تبارك، وتعالى - في الآية: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام: 146] قرينة عند من يقول بأن الصدق هنا العدل، يعني أنه كان جزاء وفاقا ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ أي: لعادلون فهذه قرينة كأنها عند ابن كثير، ومن وافقه بحمله على الصدق بغير الظاهر المتبادر الصدق في الأخبار فجعل ذلك من قبيل العدل في الأحكام، لكن إذا عرف ما سبق من دعواهم، وكذبهم أن الله  لم يحرم عليهم شيئا في التوراة، فيكون هذا من قبيل الجواب، والرد عليهم - والله أعلم -.

  1.  تفسير ابن عطية (2/357).
  2.  تفسير الماوردي (النكت، والعيون) (2/183).
  3.  تفسير ابن عطية (2/357).
  4. تفسير الطبري (9/638).
  5.  تفسير ابن عطية (2/357).
  6.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/371).
  7.  تفسير الطبري (9/644).
  8.  تفسير القرطبي (7/125).
  9.  التفسير الوسيط للواحدي (2/333).
  10.  تفسير الطبري (9/647) وتفسير ابن كثير (3/356).
  11.  تفسير ابن كثير (3/356).