الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَٰسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُۥ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأنعام:147] يقول تعالى: فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين، واليهود، ومن شابههم فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147]".


الحافظ ابن كثير - رحمه الله - جمع المعاني التي قيلت فيمن يتوجه إليه قوله: فَإِن كَذَّبُوكَ فبعضهم يقول: هم المشركون؛ لأن سياق الحديث أصلاً في تحريم المشركين بعض الأشياء، وتحليل بعض الأشياء، فالله يرد عليهم، وكان من جملة ما ذكر أنه قص ما وقع لليهود في المحرمات، فالله أمر رسوله ﷺ أن يقول للمشركين: لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة الأنعام:145] وذلك عندما حرموا ما حرموا، وأباحوا ما أباحوا؛ قال تعالى: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء الآية [سورة الأنعام:138] والمقصود أنه جاء الكلام على اليهود في ثنايا الرد على المشركين، ثم قال: فَإِن كَذَّبُوكَ أي هؤلاء الذين حرموا أشياء، وأحلوا أشياء من عند أنفسهم من المشركين فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147].
وبعضهم يقول: فَإِن كَذَّبُوكَ [سورة الأنعام:147] يعني اليهود الذين قال الله فيهم: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ أي: فيما أخبرتك ما الذي حرمت عليهم فَإِن كَذَّبُوكَ [سورة الأنعام:147] وقالوا: لا، ليس الأمر كذلك فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147]، وبه قال ابن جرير - رحمه الله -.
فالشاهد أن الحافظ ابن كثير جمع بين المعنيين باعتبار أنه لا يوجد دليل يدل على تخصيص المشركين، أو اليهود بالضمير في قوله: فَإِن كَذَّبُوكَ [سورة الأنعام:147] فقال: "فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين، واليهود" أي الذين يحللون، ويحرمون، ويعتدون على شرائع الله : فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147].
 

"فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [سورة الأنعام:147] وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة، واتِّباع رسوله.
وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأنعام:147] ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين، وكثيراً ما يقرن الله - تعالى - بين الترغيب والترهيب في القرآن كما قال تعالى في آخر هذه السورة إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:165]، وقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الرعد:6]، وقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ [سورة الحجر:49-50]، وقال تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [سورة غافر:3] وقال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ۝ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ۝ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [سورة البروج:12-14]، والآيات في هذا كثيرة جداً".

مرات الإستماع: 0

"فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [الأنعام: 147] أي: إن كذبوك فيما أخبرت به من التحريم فقل لهم: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ إذ لا يعاجلكم بالعقوبة على شدة جرمكم، وهذا كما تقول عند رؤية معصية: ما أحلم الله! تريد لإمهاله عن مثل ذلك، ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بقوله: وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي: لا تغتروا بسعة رحمته، فإنه لا يرد بأسه عن مثلكم إما في الدنيا، أو في الآخرة."

قوله - تبارك، وتعالى -: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ المخاطب بهذا فإن كذبوك السياق في اليهود، ولهذا حمله ابن جرير - رحمه الله - على اليهود؛ لأن الخطاب لليهود فإن كذبوك أي اليهود[1].

وقال بعضهم: الخطاب للمشركين؛ لأن الأصل كان في ذكر ما حرمه المشركون قبل ذلك ما حرموا على أنفسهم من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، وما إلى ذلك، والتفريق بين ما يحل لذكورهم دون إناثهم، وغير ذلك من المختلقات فرد الله: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام: 145] إلى آخره فهذا رد على المشركين؛ فحمله بعضهم حمل هذا على أن ذلك أيضًا الخطاب للمشركين، وإنما جاء ذكر اليهود عرضًا، ولكن ابن كثير - رحمه الله - حمله على هذا، وهذا جمع بينهما الخطاب للجميع لليهود الذين جاء ذكرهم، وللمشركين الذين كان السياق أصلاً في الرد عليهم[2].

فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ [الأنعام: 147] بعضهم يقول: بأن هذا من باب فتح باب الرجاء لهم، والترغيب بالتوبة، والرحمة، واتباع النبي ﷺ هكذا قال ابن كثير - رحمه الله -[3] وهو يتضمن الحث لهم على اتباع النبي ﷺ وطاعته، والإيمان به، والمسارعة إلى الرحمة بسلوك أسبابها فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ يعني فاطلبوها بتحقيق أسبابها، والمؤلف هنا ذهب إلى أن ذلك باعتبار الإمهال فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ يعني لم يعاجلكم بالعقوبة، وهذا أيضًا معنى صحيح، فهو لم يعاجلكم بالعقوبة، وإذا كان كذلك أيضًا أنه ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ فبادروا إلى سلوك أسبابها، وطلب موجباتها، يقول: وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 147] فجمع لهم بين الترغيب، والترهيب، ويكون ذكر الرحمة قبل باعتبار أن رحمته سبقت غضبه.

 

  1. تفسير الطبري (9/648).
  2. تفسير ابن كثير (2/176).
  3. المصدر السابق (6/9).