الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوا۟ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا۟ بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ۝ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ۝ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [سورة الأنعام:148-150].
هذه مناظرة ذكرها الله - تعالى -، وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم، وتحريم ما حرموا؛ فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك، والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر؛ فلم يغيّره، فدل على أنه بمشيئته، وإرادته، ورضاه منَّا بذلك، ولهذا قالوا: لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:148]".


يعني أن هؤلاء المشركين احتجوا بالقدر على شركهم، وجعلوا ذلك دليلاً على رضا الله - تبارك وتعالى -، وهذا هو الذي يحتج به الجبرية، لكن الله ردَّ عليهم - كما ذكرنا في القاعدة التي أشرنا إليها مراراً - وهي أن كل حكاية في القرآن يحكيها الله عن قائلٍ فإنه يذكر قبلها، أو معها، أو بعدها؛ ما يدل على بطلانها، وإلا فهي صحيحة غالباً، فالله رد على هؤلاء، وهذا فيه إبطال لحجة الجبرية أيضاً حيث يقول - تعالى -: قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا [سورة الأنعام:148] ثم بيَّن أنهم بذلك ما يتبعون إلا الظن، وأنهم يخرصون خرصاً فلا حقيقة عندهم، ولا يقين.
يقول تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا [سورة الأنعام:148] هذا إخبار من الله أنهم سيقولون ذلك، وأخبر في مواضع أخرى من كتابه كما في سورة النحل أنهم قالوه فعلاً، أعني أن هذا قاله في سورة الأنعام، وهي سورة مكية، وسورة النحل سورة مكية؛ لكنها نزلت بعد سورة الأنعام بدليل قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ [سورة النحل:118] وقد قص هذا في سورة الأنعام في هذا الموضع: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146] إلى آخر ما ذكر، فالإجمال في سورة النحل مبين بهذا التفصيل الذي في سورة الأنعام.
والحاصل أنه قال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سورة الأنعام:148]، ثم بيَّن في سورة النحل أنهم قالوه فعلاً كما قال الله : وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ [سورة النحل:35]، وقال أيضاً في سورة الزخرف: وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم [سورة الزخرف:20] فهم قالوا ذلك فعلاً، فجعلوا وقوع ذلك منهم بمشيئته دالاً على محبته، ورضاه.
ونحن نعرف أن المشيئة الكونية لا تقتضي المحبة فالله يقول: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:7] وإنما الذي يقتضي المحبة هي الإرادة الشرعية، فحيث لم يفرقوا بين الإرادتين ظنوا أن وقوع ذلك بمشيئته، وإرادته دليلٌ على محبته، ورضاه.

"كما في قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم الآية [سورة الزخرف:20] وكذلك الآية التي في النحل مثل هذه سواء".


هؤلاء بالإمكان أن يُرَدُّ عليهم بكل بساطة فيقال لهم: إذا كان وقوع الشيء يدل على محبة الله له فلماذا تحاربوننا، وتعادوننا غاية العداوة، وقد أسلمنا لله رب العالمين؟

فالله يحب ذلك، ويرضاه، فلماذا أنتم تنكرونه، وتعادون أهله، وتضيقون عليهم، وتضطرونهم إلى الخروج من بلادهم؟ لماذا خالفتم إرادته، ومحبوباته؟
بهذا الرد لن يكون عندهم جواب، ومثل هذا الأسلوب يستعمل مع العصاة الذين يحتجون بالقدر حيث يقول الواحد منهم: إن الله كتب هذا عليَّ، وقدره، ولذلك لا يتوب من معصيته، ولا يرعوي، فيقال له: ما دام الله كتب عليك هذا، وأنت راضٍ به؛ فلماذا لا ترضى أن يضربك شخص، أو يكسر سيارتك، أو نظارتك؛ دون أن تغضب، وتحاول الانتقام لنفسك، فالله كتب عليك ذلك، ولا بد لك من الرضا بهذا القضاء؛ لأن هذا الفعل الذي صدر في حقك، وأجراه الله على يد هذا الإنسان؛ مكتوب لا محالة أن يقع عليك، فلا بد أن نرضى أنا وأنت بما قدر الله ، وانتهينا!.
ومثله ذلك الطالب الذي عنده اختبار يقال له: لا تقرأ، ولا تفتح كتاباً، ولا تمشي إلى المدرسة أيضاً، وما قدره الله لك من النجاح أو الفشل سيقع لا محالة، هكذا يرد على من يحتج بالقدر على ترك السعي إلى الآخرة، لكن المشكلة أنك تراهم يتهافتون، ويسعون لأجل الدنيا دون ملل، فإذا قلت للواحد منهم: لا تهلك نفسك لأجل الدنيا؛ فما قدره الله لك سيكون، إذا ببعضهم يؤلفون هنا حديثاً قدسياً نصه: "اسعَ يا عبدي وأنا أسعى معك"!! أما في باب العمل الصالح يحتجون بالقدر، والله كاتب عليَّ أن أكون بهذه المثابة، فادع لي، وهكذا يتهربون من إقامة الحجة عليهم، والله المستعان.

"قال الله - تعالى -: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم [سورة الأنعام:148] أي: بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء، وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام.
قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ [سورة الأنعام:148] أي: بأن الله راض عنكم فيما أنتم فيه فَتُخْرِجُوهُ لَنَا أي: فتظهروه لنا، وتبينوه، وتبرزوه.
إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ [سورة الأنعام:148] أي: الوهم، والخيال، والمراد بالظن هاهنا الاعتقاد الفاسد.
وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [سورة الأنعام:148] تكذبون على الله فيما ادعيتموه".


من المناظرات التي ذكر بعض السلف في هذا قصة ذلك الرجل الذي احتج بالقدر، فلطمه صاحبه، فلما غضب قال له: هذا شيء قدره الله عليك، ولا بد من الإيمان بالقدر.
والآخر احتج بحل الخمر قائلاً: ما تقول في الماء والخل؟ فقال له صاحبه: هما حلال، قال: وما تقول في العنب؟ قال: هو حلال، قال: فالخمر إنما هي عنب وماء وخل فلماذا تحرمها؟
قيل له: أرأيت إن أخذت تراباً وألقيته على رأسك هل يضرك؟ قال: لا، قال: فإن أخذت ماءً وصببته على رأسك هل يضرك؟ قال: لا، قال: لو أخذت تبناً فألقيته على رأسك هل يضرك؟ قال: لا، قال: أرأيت لو أني جمعت التراب وبللته بالماء ثم وضعت معه التبن فتماسك، وتركته حتى جف، ثم بعد ذلك ضربت به رأسك؛ هل يضرك؟ قال: إذاً تقتلني؟ فقال: هكذا إذاً الخمر، هي عنب وماء يترك حتى يشتد، ويلقي بالزبد، ويصير مسكراً؛ فإذا شربته حصل من ذلك الأثر، والضرر منه.

مرات الإستماع: 0

"سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا [الأنعام: 148] الآية: معناها أنهم يقولون: إن شركهم، وتحريمهم لما حرموا كان بمشيئة الله، ولو شاء الله أن لا يفعلوا ذلك ما فعلوه، فاحتجوا على صحة ذلك بإرادة الله له، وتلك نزغة جبرية."

هي نزعة جبرية، ويصح أن يقال: نزغة جبرية، لكن الأكثر في الاستعمال في مثل هذا أن يقال: نزعة جبرية.

"ولا حجة لهم في ذلك؛ لأنهم مكلفون مأمورون ألا يشركوا بالله، ولا يحرموا ما حلل الله، والإرادة خلاف التكليف، ويحتمل عندي أن يكون قولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ قولاَ يقولونه في الآخرة على وجه التمني أن ذلك لم يكن، كقولك إذا ندمت على شيء: لو شاء الله ما كان هذا. أي: تتمنى أن ذلك لم يكن، ويؤيد هذا أنه حكى قولهم بأداة الاستقبال، وهي السين، فذلك دليل على أنهم يقولونه في المستقبل، وهي الآخرة.

هذا الذي أخبر الله  عن المشركين أنهم سيقولونه جاء موضحًا بقوله - تبارك، وتعالى -: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل: 35] وهكذا في قوله: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف: 20] فهذا وقع وقالوه في الدنيا، فلا حاجة لحمل ذلك على أنه في الآخرة أنهم سيقولونه في الآخرة، الله هنا أخبر في هذه السورة المكية أنهم سيقولون ذلك، ثم أخبر في موضع آخر أنهم قالوه.

وقد ذكر الشنقيطي - رحمه الله - في مقدمته لأضواء البيان - وهي مقدمة حافلة - أعني ما يتصل بتفسير القرآن بالقرآن منه كأنه تطبيق لهذه المقدمة، وما تضمنته من ضروب تفسير القرآن بالقرآن، ومما ذكر هناك من أنواع تفسير القرآن بالقرآن أن يخبر عن المشركين، أو عن أحد أنه سيفعل كذا، أو سيقول كذا، ثم يخبر في موضع آخر أنه قاله فعلاً، فهذا منه؛ فكان ذلك في الدنيا، لا أنهم يقولونه على سبيل التحسر في الآخرة، والندم.