الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
قُلْ تَعَالَوْا۟ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا۟ بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَوْلَٰدَكُم مِّنْ إِمْلَٰقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا۟ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا۟ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة الأنعام:151].
قال داود الأودي عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال: "من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [سورة الأنعام:151] إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تتقونَ [سورة الأنعام:153][1].
وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس - ا - قال: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الآيات، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه[2].
وروى الحاكم أيضاً في مستدركه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله ﷺ: أيكم يبايعني على ثلاث؟ ثم تلا رسول الله ﷺ: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حتى فرغ من الآيات، فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله؛ إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وأما تفسيرها فيقول - تعالى - لنبيه ورسوله محمد ﷺ: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم -وكل ذلك فعلوه بآرائهم، وتسويل الشياطين لهم - قل لهم: تَعَالَوْاْ أي: هلموا، وأقبلوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:151] أي: أقص عليكم، وأخبركم بما حرم ربكم عليكم، حقاً لا تخرصاً، ولا ظناً؛ بل وحياً منه، وأمراً من عنده".


فهذه الآيات مشتملة على هذه الوصايا المعروفة بالوصايا العشر، وتعرف أيضاً بالآيات المحكمات، وكثير مما تضمنته هذه الآيات من الوصايا مذكور في الوصايا التي في سورة الإسراء من قوله - تبارك وتعالى -: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [سورة الإسراء:23] إلى آخر ما ذكره الله مع وجود بعض الفروق.
وهذه الآيات التي في الأنعام مبدوءة بقوله - تبارك وتعالى -: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ [سورة الأنعام:151] تعالوا، وهناك قال الله : وَقَضَى رَبُّكَ [سورة الإسراء:23] أي: حكم، ووصى، وما أشبه ذلك من المعاني.
ومن أهل العلم كالطاهر بن عاشور - رحمه الله - من يذكر في الفروقات بين هذه الآيات وتلك أن آيات الأنعام لما كانت خطاباً للمشركين وهم بُعداء عن الحق أصلاً قال لهم: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:151]، والتي في الإسراء كان الخطاب فيها متوجهاً إلى الداخلين في الإسلام فقال: وَقَضَى رَبُّكَ [سورة الإسراء:23].
وقوله: تَعَالَوْاْ يعني أقبلوا، وأصل هذه الكلمة تقال ممن كان في علو لمن هو منسفل عنه، وكأنه يدعوه إلى أن يرتفع، ثم صارت تستعمل في الطلب والنداء بإطلاق بمعنى أقبل.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذه الوصايا موجودة في التوراة، وذكروا ترجمتها وأنه يقول: "أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكون لك إله غيري، ويقول: أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تقتل، لا تزني، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور، ولا تشتهي بنت قريبك، ولا تشتهي امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئاً مما لقريبك".

"وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [سورة النساء:36] وكأن في الكلام محذوفاً دلَّ عليه السياق، وتقديره: وأوصاكم ألا تشركوا به شيئاً".


في الإسراء يقول: وَقَضَى رَبُّكَ [سورة الإسراء:23] فلفظة "قضى" تأتي لمعانٍ كثيرة إلا أنها هنا مضمنة لمعنى وصى؛ لأن القضايا المذكورة بعد هذا اللفظ متضمنة لأمور منهي عنها، ولأمور مأمور بها، ولا يجمع ذلك إلا الوصية؛ بخلاف ما إذا فسر "قضى" بمعنى أوجب، فالوصية تقول فيها: افعل كذا، وافعل كذا، ولا تفعل كذا، ولا تفعل كذا.

"ولهذا قال في آخر الآية: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة الأنعام:151] وفي الصحيحين من حديث أبي ذر قال: قال رسول ﷺ: أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمتك دخل الجنة، قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق؟ قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق، قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق، وإن شرب الخمر[3].
وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: يقول تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني، ورجوتني؛ فإني أغفر لك على ما كان منك، ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئاً، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك[4] ولهذا شاهد في القرآن قال الله - تعالى -: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [سورة النساء:48].
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود : من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة[5] والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً.
وقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الأنعام:151] أي: وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحساناً، أي: أن تحسنوا إليهم كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23]، وقرأ بعضهم: ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً [سورة الإسراء:23]".


هذه القراءة في الإسراء، وهي ليست متواترة؛ لكنها دليل على تفسير قوله: وَقَضَى بمعنى وصَّى.
وقوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23] أي: أمركم أي أن تحسنوا إليهم إحساناً.

"أي أحسنوا إليهم، والله - تعالى - كثيراً ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين كما قال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ۝ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة لقمان:14-15] فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما.
وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً الآية [سورة البقرة:83]، والآيات في هذا كثيرة.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: سألت رسول الله ﷺ: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول الله ﷺ ولو استزدته لزادني[6].
وقوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [سورة الأنعام:151] لما أوصى - تعالى - بالوالدين، والأجداد عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء، والأحفاد فقال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ [سورة الأنعام:151] وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أنه سأل رسول الله ﷺ: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، ثم تلا رسول الله ﷺ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ الآية [سورة الفرقان:68[7].
وقوله تعالى: مِّنْ إمْلاَقٍ [سورة الأنعام:151] قال ابن عباس - ا - وقتادة والسدي وغيره: هو الفقر، أي ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل.
وقال في سورة الإسراء: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [سورة الإسراء:31] أي: لا تقتلوهم خوفاً من الفقر في الآجل، ولهذا قال هناك: نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم [سورة الإسراء:31] فبدأ برزقهم للاهتمام بهم، أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله، وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلاً قال: نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [سورة الأنعام:151] لأنه الأهمّ هاهنا، والله أعلم".


يقول تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ [سورة الأنعام:151] الولد كما هو معلوم يصدق على الذكر، والأنثى، والمشهور أنهم كانوا يقتلون البنات خشية العار، وذلك لا ينافي قوله هنا: مِّنْ إمْلاَقٍ [سورة الأنعام:151]، وفي الإسراء: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [سورة الإسراء:31] لأنهم كانوا يخشون أن تفتقر البنت، ثم تضطر إلى بيع عرضها، هذا هو الذي عرف في التاريخ أي أنهم كانوا يخشون أن تفتقر ثم بعد ذلك يضيع شرفها:

إذا تذكرت بنتي حين تندبني جرت لعبرة بنتي عبرتي بِدَمِ
مخافة الفقر يوماً أن يُلِمَ بها فيكشف الستر عن لحم على وَضَمِ
أخشى فظاظة عمٍ أو جفاء أخٍ وكنت أخشى عليها من أذى الكَلِمِ
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً والموت أكرم نزَّال على الحُرَمِ

فهو يقول: أخشى أنها تفتقر، ويجفوها أخوها، وعمها؛ فتضطر إلى كشف سترها، ثم بعد ذلك تبيع عرضها، وتهتك شرفها بسبب الحاجة.
والآخر كان عنده بنت اسمها مودة يقول:

مودة تهوى عمر شيخ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري

الثالث كان عنده بنت يقولون إن اسمها الجرباء يقول:

إنّي وإن سيق إليَّ المهر ألفٌ وعبدان وذودٌ عشر
أحبّ أصهاري إلىّ القبر  

هكذا كانوا يصنعون خوفاً من ضياع الشرف، وفعلهم ذلك كله موافق لما ذكره الله عنهم بقوله: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [سورة الإسراء:31]، وقوله: مِّنْ إمْلاَقٍ [سورة الأنعام:151] وهو نهي أن يحمل هذا الفقر على ما لا يليق من شدة غيرتهم، وربما قتلوا بعض الذكور بسبب الفقر أيضاً كما هو المعروف في التاريخ.
وفي قوله - تبارك وتعالى -: مِّنْ إمْلاَقٍ [سورة الأنعام:151] المعنى المشهور الذي عليه عامة أهل العلم من المفسرين، ومن أهل اللغة؛ أنه الفقر، يقال: أملق الرجل يعني لم يبق له إلا الملقات، والملقات يقصد بها الحجارة الملساء، أو الحصى؛ أي ليس له مال كما يقال: لم يبق له إلا التراب، وكما يقال: تربت يداه، ورغم أنفه؛ وما أشبه ذلك.
وبعضهم يفسره بالإنفاق أي أن قوله: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ [سورة الأنعام:151] يعني لا تقتلوهم لأجل النفقة، ولكن هذا فيه بعد - والله تعالى أعلم -، فالقرآن إنما يحمل على المعنى المشهور المتبادر، ولا يحمل على معنى خفي، أو مغمور؛ إلا بدليل يجب الرجوع إليه - والله تعالى أعلم -.
والمعنى الذي ذكره ابن كثير في الفرق بين آية الأنعام، وآية الإسراء؛ في التقديم والتأخير هو معنى لطيف، وهو من لطائف القرآن، وهو الذي يسمونه بالمتشابه اللفظي، وقد أُلِّفت فيه مصنفات خاصة مثل كتاب "البرهان" للكرماني، ومثل كتاب "درة التنزيل وغرة التأويل" للاسكافي، ومثل كتاب "ملاك التأويل" لابن الزبير الغرناطي، ومثل كتاب "متشابه القرآن" لزكريا الأنصاري.
هذه الكتب تعنى بأمثال هذه الآيات، ومن أمثلة المتشابه اللفظي قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [سورة الكهف:97] ولماذا قال في سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال:10]، وقال في آل عمران: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126] ويعتني بهذا الجانب أيضاً بعض المفسرين ممن يعنون بالجوانب البلاغية كالطاهر بن عاشور في تفسيره، وأمثاله.

"وقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [سورة الأنعام:151] كقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:33] وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [سورة الأنعام:120]".


يعني ما يقال هناك يقال هنا، إلا أنه هنا صرح بذكر الفواحش، وذكرنا في بعض المناسبات السابقة أن من أهل العلم من يقول: إن الفاحشة إذا عرفت باللام فإنها بمعنى الزنا وما في معناه، وإذا ذكرت منكرة فهي الذنب العظيم، وإذا ذكرت مقيدة كقوله تعالى: بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [سورة النساء:19] فإنه يراد بها عقوق الزوج؛ هكذا قال بعض أهل العلم، لكن قد لا يكون هذا هو المعنى المترجح في تفسير الفاحشة، فالفاحشة كل ذنب عظيم، وأطلقت كثيراً في عرف الاستعمال على الزنا وما في معناه، والله في سورة الإسراء لما نهى عن قتل الأولاد قال: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [سورة الإسراء:32] وذلك أنهم كانوا يقتلون الأولاد خشية الفقر من أجل أن لا تضطر أن تبيع عرضها، وهنا نهى عن مقارفة الفواحش فقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [سورة الأنعام:151] كما سبق في قوله: وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [سورة الأنعام:120].
وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا يعني ما كان علانية مما كانوا يفعلونه مع البغايا المجاهرات ذوات الرايات في دور البغاء، يعني مما كان علانية لا يسره، ولا يخفيه صاحبه.
وقوله: وَمَا بَطَنَ [سورة الأنعام:151] يعني ما خفي مثل الزنا مع الخليلات، وما يفعله الإنسان خلسة مما لا يظهره للناس، هكذا يقال - والله تعالى أعلم -، فكل ما كان ظاهراً من الزنا، أو مقارفة الفواحش؛ فهو داخل في قوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وكل ما كان يفعل خفية فإنه داخل في قوله: وَمَا بَطَنَ [سورة الأنعام:151] وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وهو يجمع ما ذكره المفسرون مما ورد من عبارات السلف في معناها.

"وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: لا أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر، وما بطن[8].
وقال عبد الملك بن عمير عن ورَّاد عن مولاه المغيرة قال: قال سعد بن عبادة وأرضاه: "لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مُصْفَح".


قوله: "لضربته بالسيف غير مصفح" يعني سيضربه بحد السيف لا بعرضه؛ لأن ضربه بعرضه لا يقتل غالباً، بل يكون كأنما ضربه بعصا، فإذا أراد أن يضربه بالسيف ضرباًً يؤدبه فيه دون أن يقتله فقد يضربه بعرض السيف، وإذا أراد قتله ضربه بحده.

"قال سعد بن عبادة : "لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مُصْفَحٍ"، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها، وما بطن أخرجاه[9].
وقوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [سورة الأنعام:151] وهذا مما نص - تبارك وتعالى - على النهي عنه تأكيداً، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها، وما بطن.


الحافظ ابن كثير - رحمه الله - حمل الفواحش على أعم معانيها أي أنها كل ذنب عظيم، والزنا وما في معناه يدخل فيها دخولاً أولياً.

"فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؛ إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة[10]".


هذا الحصر الوارد في هذا الحديث من أهل العلم من يقف عنده، ويقول: لا يحل قتل المسلم إلا بهذه الثلاث، وعرفنا مراراً أن هذا النوع من الحصر - بالنفي والاستثناء - هو أقوى أنواع الحصر كما سبق قريباً في قوله - تعالى -: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145]، وسبق أنه ورد في السنة تحريم أشياء أخرى غير التي في هذه الآية.
وكذلك ورد عن النبي ﷺ الحكم بالقتل على أمور أخرى غير ما في هذا الحديث كقوله ﷺ في الساحر: حد الساحر ضربة بالسيف[11]، وكقوله ﷺ: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به[12] إلى غير ذلك مما ثبت عن النبي ﷺ كشارب الخمر في المرة الرابعة.

"وقد جاء النهي، والزجر، والوعيد في قتل المعاهد، وهو المستأمن من أهل الحرب فروى البخاري عن عبد الله بن عمرو - ا - عن النبي ﷺ مرفوعاً: من قتل مُعاهَداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما[13].
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: من قتل مُعاهَداً له ذمة الله، وذمة رسوله؛ فقد أخفر بذمة الله، فلا يرَح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح[14]".


من قتل معاهداً، أو مستأمناً أعطي أماناً ولو من امرأة، أو أيٍّ من آحاد المسلمين؛ ففيه هذا الوعيد لم يرح رائحة الجنة، وهذا يدل على أن الإنسان أبعد ما يكون عن الخير، وعن التقرب إلى الله بهذا الأمر، فكيف بمن يطلب الجنة بمثل هذه الأمور - نسأل الله العافية -، ولذلك يقال: من كان هذا حاله فإنه قد زُيِّن له سوء علمه، فرآه حسناً؛ مهما ذكر من الأعذار؛ لأن آحاد الناس إذا أعطوا أحداً من الكفار أماناً، أو عهداً؛ فإنه يلزم الوفاء به، فالله المستعان.

"وقوله: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة الأنعام:151] أي: هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أمره، ونهيه".


يعني أن الأمر والنهي المؤكد يقال له وصية، تقول: أوصيك بكذا، وأوصيك بكذا وكذا، فهذه الأمور يؤكد الله - تبارك وتعالى - على التزامها، والتمسك بها، وعدم الإخلال بها، والله المستعان.
العلم - بإذن الله - سياج وحصن حصين من الآفات، والشبهات الغلابة، والأهواء المردية، وإلا فإن الإنسان يهلك حيث يبحث عن النجاة، ولذلك تجد إنساناً عمرة تسع عشرة سنة، أو عشرين، أو اثنين وعشرين سنة فيفتي في قضايا كبيرة وهو لم يعقل من تلك الأمور شيئاً، فكيف دخل في هذه الأمور، وكيف توصل إلى هذه النتائج؟ ولذلك إذا تفكر الإنسان في هذا عرف آفة الجهل كيف تصنع بصاحبها، والله المستعان.

  1. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة الأنعام (3070) (ج 5 / ص 264) والطبراني (10080) (ج 10 / ص 93) وقال الشيخ الألباني: ضعيف الإسناد.
  2. أخرجه الحاكم في مستدركه (3238) (ج 2 / ص 347) وصححه الذهبي في التلخيص.
  3. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله (1180) (ج 1 / ص 417) ومسلم في كتاب الإيمان - باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار (94) (ج 1 / ص 94).
  4. أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات - باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده (3540) (ج 5 / ص 548) وصححه الألباني.
  5. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله (1181) (ج 1 / ص 417) ومسلم في كتاب الإيمان - باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات مشركاً دخل النار (93) (ج 1 / ص 94).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب فضل الجهاد والسير (2630) (ج 3 / ص 1025) ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان كون الإيمان بالله - تعالى - أفضل الأعمال (85) (ج 1 / ص 89).
  7. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [سورة المائدة:67] (7094) (ج 6 / ص 2739) ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1 / ص 90).
  8. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة الأنعام (4358) (ج 4 / ص 1696) ومسلم في كتاب التوبة - باب غيرة الله - تعالى - وتحريم الفواحش (2760) (ج 4 / ص 2113).
  9. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول النبي ﷺ: لا شخص أغير من الله (6980) (ج 6 / ص 2698) ومسلم في كتاب اللعان (1499) (ج 2 / ص 1136).
  10. أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب قول الله - تعالى -: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] (6484) (ج 6 / ص 2521) ومسلم في كتاب كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب ما يباح به دم المسلم (1676) (ج 3 / ص 1302).
  11. أخرجه الترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حد الساحر (1460) (ج 4 / ص 60) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (2699) وأما الترمذي فقال: "لا نعرفه إلا مرفوعاً من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع: هو ثقة، ويروي عن الحسن أيضاً، والصحيح عن جندب موقوف، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: "إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر، فإذا عمل عملاً دون الكفر فلم نر عليه قتلاً" وقال الحاكم: صحيح غريب، ووافقه الذهبي.
  12. أخرجه أبو داود في كتاب الحدود - باب فيمن عمِل عمَل قوم لوط (4464) (ج 4 / ص 269) والترمذي في كتاب الحدود عن رسول الله ﷺ (1456) (ج 4 / ص 57) وابن ماجه في كتاب الحدود - باب من عمِل عمَل قوم لوط (2561) (ج 2 / ص 856) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب يرقم (2422).
  13. أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب إثم من قتل ذمياً بغير جرم (6516) (ج 6 / ص 2533).
  14. أخرجه الترمذي في كتاب الديات - باب ما جاء فيمن يقتل نفساً معاهدة (1403) (ج 4 / ص 20) وابن ماجه في كتاب الديات - باب من قتل معاهد (2687) (ج 2 / ص 896) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3009).

مرات الإستماع: 0

"أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا قيل: أن هنا حرف عبارة، وتفسير فلا موضع لها من الإعراب، ولا ناهية جزمت الفعل."

هنا أن حرف عبارة، وتفسير؛ لأنه تقدمها معنى القول دون حروفه قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ [الأنعام: 151] فالتلاوة بمعنى القول فأن تكون تفسيرية بهذا الاعتبار، تفسير لهذا المتلو ما هو.

"وقيل: أن مصدرية في موضع رفع، تقديره: الأمر ألا تشركوا، فلا على هذا نافية."

أن مصدرية تكون ناصبة للفعل بعدها في موضع رفع تقديره: الأمر ألا تشركوا قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا [الأنعام: 151] فلا على هذا نافية.

"وقيل: أن في موضع نصب بدلا من قوله: مَا حَرَّمَ ولا يصح ذلك إلا إن كانت لا زائدة، وإن لم تكن زائدة فسد المعنى؛ لأن الذي حرم على ذلك يكون ترك الإشراك."

هنا قوله: أن في موضع نصب بدلا من قوله: مَا حَرَّمَ أو تكون بدلا من العائد المحذوف في حرم، والتقدير ما حرمه أتل ما حرمه الضمير العائد المحذوف ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا يقول: ولا يصح ذلك إلا إن كانت لا زائدة، وإن لم تكن زائدة فسد المعنى؛ لأن الذي حرم على ذلك يكون ترك الإشراك، أو الذي حرم على ذلك يكون ترك الإشراك، وترك الإشراك مطلوب، وليس بمحرم، وعلى هذا المعنى أن لا ليست زائدة إعرابا مثل ما يقول بعض الناس: أعتذر لعدم حضوري، أعتذر عن الحضور، اعتذر فلان عن الحضور هو ما اعتذر عن الحضور هو لم يحضر كيف يعتذر عن الحضور؟ هو مطالب بالحضور فكيف يعتذر عنه، وإنما اعتذر عن عدم حضوره، نحن دائما نقول: اعتذر فلان عن الحضور، اعتذر عن الحضور، وهو اعتذر عن عدم الحضور.

فهنا مع الفارق قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا فترك الإشراك مطلوب فهل هو مما حرم؟ حرم عليهم ألا يشركوا هو أمرهم ألا يشركوا، ومن هنا اختلفوا في التقدير، والإعراب، والقول بأن لا هذه زائدة يعني يكون إذا قيل: إنها زائدة أتلو ما حرم ربكم عليكم أن تشركوا حرم عليكم الإشراك.

وبعضهم يقول: أن الناصبة هذه، وما في حيزها منصوبة على الإغراء بعليكم أتلو ما حرم ربكم، ويكون الكلام هكذا عليكم ألا تشركوا؛ لكن هذا خلاف الظاهر المتبادر، لكن كما ذكرت نريد جوابا عن هذا الإشكال، فتكون لا نافية، وليست زائدة عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا ففصله عما قبله، ويكون الكلام الأول قد تم عند قوله: أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثم ابتدأ فقال: عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا أي الزموا ترك الشرك، وهذا لا يخلو من بعد.يقول: والأحسن عندي أن تكون أن مصدرية في موضع نصب على البدل.

"والأحسن عندي أن تكون أن مصدرية في موضع نصب على البدل، ولا نافية، ولا يلزم ما ذكر من فساد المعنى؛ لأن قوله: مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ: معناه ما وصاكم به ربكم، بدليل قوله في آخر الآية: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام: 151] فضمن التحريم معنى الوصية، والوصية في المعنى أعمّ من التحريم؛ لأن الوصية تكون بتحريم، وبتحليل، وبوجوب، وندب، ولا ينكر أن يريد بالتحريم الوصية؛ لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص، وتريد به العموم، كما تذكر اللفظ العام، وتريد به الخصوص، فإذا تقرر هذا، فتقدير الكلام: قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم أبدل منه على وجه التفسير له، والبيان، فقال: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام: 151] أي: وصاكم ألا تشركوا به شيئًا، ووصاكم بالإحسان بالوالدين، ووصاكم أن لا تقتلوا أولادكم، فجمعت الوصية ترك الإشراك، وفعل الإحسان بالوالدين، وما بعد ذلك، ويؤيد هذا التأويل الذي تأولنا: أن الآيات اشتملت على أوامر: كالإحسان بالوالدين، وقول العدل، والوفاء في الوزن، وعلى نواهي: كالإشراك، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، فلا بد أن يكون اللفظ المقدم في أولها لفظًا يجمع الأوامر، والنواهي؛ لأنها أجملت فيه، ثم فسرت بعد ذلك، ويصلح لذلك لفظ الوصية؛ لأنه جامع للأمر، والنهي، فلذلك جعلنا التحريم بمعنى الوصية، ويدل على ذلك ذكر لفظ الوصية بعد ذلك، وإن لم يتأول على ما ذكرناه: لزم في الآية إشكال، وهو عطف الأوامر على النواهي، وعطف النواهي على الأوامر، فإن الأوامر طلب فعلها، والنواهي طلب تركها، وواو العطف تقتضي الجمع بين المعطوف، والمعطوف عليه، ولا يصح ذلك إلا على الوجه الذي تأولناه من عموم الوصية للفعل، والترك."

حاصل ما ذكر في الجواب عن هذا الإشكال هو أن لا إما أن تكون زائدة، وهؤلاء نظروا إلى لفظ التحريم أتلو ما حرم ربكم عليكم أن تشركوا حرم عليكم الإشراك؛ فتكون أن مصدرية مؤولة بما بعدها بمصدر أن تشركوا حرم عليكم الإشراك بالله.

وأما قطع الكلام على قوله: رَبُّكُمْ ثم يقول: عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا فهذا بعيد، أو أن يقال: بأن لفظ التحريم هنا أوسع مما فهموا، يعني أصحاب القول الأول، وأنه مضمن معنى الوصية، والعرب تضمن الفعل معنى الفعل كما هو معلوم، وهذا كثير فيكون بهذا الاعتبار التحريم بمعنى الوصية، والوصية تنتظم الأوامر، والنواهي، فتقول: أوصيك بطاعة الله، وتقواه، وترك ما يسخطه، ونحو ذلك، فتجمع بين المأمورات، والمنهيات، وهذا ينحل به الإشكال من جهة دخول لا هذه أَلَّا تُشْرِكُوا لأننا لو بقينا مع الظاهر بتفسير التحريم بظاهره من المنع، فيكون كأنه المحرم هو عدم الإشراك، أو دعوى الزيادة، والقاعدة أن: "الكلام إذا دار بين الزيادة، والاستقلال فالاستقلال أولى" لاسيما على قول جمع من أهل العلم: لا زائد في القرآن، يقصدون لا تطلق لفظ الزيادة، والذين يطلقونها يقصدون زائدة إعرابًا، فإذا كان الكلام هنا يمكن أن يحمل على وجه صحيح من غير دعوى الزيادة فهو الأولى بناء على هذه القاعدة، وذلك بتضمين التحريم معنى الوصية، والوصية تجمع الأوامر، والنواهي، وصاكم ألا تشركوا، ولا إشكال، وهذا المعنى ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وفسرها بهذا أنه مضمن معنى الوصية[1] والله يقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 83] فأخذ عليهم الميثاق بهذا.

وهكذا في سورة الإسراء حيث عطف مأمورات على منهيات، والعكس وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا [الإسراء: 23] قضى هنا فسر بمعنى أوجب، وألزم، وحكم إلى آخره، ومما فسره به - والله أعلم - وهو أحسن ما فسره به أنه بمعنى، وصى؛ لوجود هذه المتعاطفات من الأوامر، والنواهي، فكيف يقال: قضى بمعنى أوجب مثلاً، وإن كان من معاني القضاء الإلزام، والإيجاب، فيكون قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ [الأنعام: 151].

  1. تفسير ابن كثير (3/360).