الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَلَا تَقْرَبُوا۟ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥ ۖ وَأَوْفُوا۟ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُوا۟ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُوا۟ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة الأنعام:152].
قال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - ا - قال: "لما أنزل الله: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152] وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الآية [سورة النساء:10] فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله، ويفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ، فأنزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ [سورة البقرة:220] قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم" [رواه أبو داود][1]".


يعني أن الله وسَّع عليهم، وأباح لهم مخالطة الأيتام كما قال الله - تبارك وتعالى - هنا: إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152] يعني إلا بالخلة، والخصلة التي هي أحسن، وأجمل، ويدخل في هذا ما ذُكر هنا من مخالطتهم في طعامهم، وشرابهم، وذلك أنهم في السابق تحرجوا في وضع طعام وشراب اليتيم في إناء منفردٍ عن طعامهم، وطعام عيالهم؛ لما في ذلك من المشقة الكبيرة، فرخص الله لهم بتقدير طعام اليتيم، ويقدر لنفسه، ولعياله؛ ما يحتاجون إليه من الطعام، فيخلط الطعام معاً، ثم يقدر ما لليتيم، وما عليه، فهذه الطريقة هي الصحيحة بدلاً من أن يُرمى باقي الطعام الذي أعد لليتيم وحده باعتبار أن بقاء الطعام إذا وضع للأكل فلم يؤكل يفسده، ولذلك قال الله : وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [سورة البقرة:220] بمعنى أن هناك فرق بين من يتحرى وقصده حفظ مال هذا اليتيم، وبين من يفعل ذلك استغلالاً، ومبادرة؛ يريد أن يستحوذ على مال اليتيم قبل أن يكبر ويبلغ أشده.
ويدخل في قوله: إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152] تثمير مال اليتيم كما في الحديث: اتَّجِروا في أموال اليتامى لا تذهبها الزكاة[2] والمقصود بتثمير مال اليتيم أن يكون ذلك بالطرق المأمونة، ولو كانت الأرباح قليلة، بمعنى أنه لا يضع أموال اليتيم في مشروعات قد تكون عالية الربح لكنها عالية المخاطرة، مثل الاتجار بالأسهم مثلاً بالطريقة المعروفة، فمثل هذا لا يضع فيه مال اليتيم، وكذلك لا توضع أموال اليتامى عند الذين يوظفون أموال الناس - زعموا -، فيعطونهم طعماً لمدة سنوات من أموال المساهمين لا أرباحاً؛ حتى إذا ارتاضت نفوسهم، واستحوذ عليهم الطمع؛ أضاعوا أموالهم، وأتلفوها، وكم ذهبت من أموال اليتامى بمثل هذه الطرق، ومن وضعها في مثل هذه المشاريع فهو ضامن، والناس غالباً إذا كان لم يكن المال لهم تساهلوا في صرفه، وتصريفه، وفي التعامل معه، والاتجار به؛ فإن ربح وإلا فإنهم لا يخسرون شيئاً، فالحاصل أن مال اليتيم يُثمَّر ولو بأرباح زهيدة جداً، لكن تكون هذه الطرق في الاستثمار من الطرق المأمونة غالباً.
وفي قوله - تعالى - في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [سورة النساء:10] عَبَّر بالأكل، والمقصود به سائر وجوه الانتفاع؛ لكن لما كان غالب وجوه الانتفاع هو الأكل عبَّر به، وإلا فكما هو معروف عن الأصوليين في مفهوم الموافقة المساوي فإن تغريق مال اليتيم، وتحريق مال اليتيم، أو صرف مال اليتيم باللعب، أو النزهة، أو السياحة، أو غير هذا؛ كله داخل في أكل مال اليتيم.
وفي سورة الأنعام نهى عن الاقتراب من مال اليتيم فقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ [سورة الأنعام:152] ولا شك أن هذا الأسلوب أبلغ من النهي عن أكله؛ لأنك إذا قلت: لا تقرب هذا الشيء فمعنى ذلك أنك تكون بمنأى عنه تماماً.
وقوله: إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152] أي بالخصلة التي هي أحسن مثل ما سبق الكلام حول المخالطة، والاتجار به.
ومعلوم أن أموال الأيتام يُتصرف فيها لمقتضى المصلحة، فيعالج هذا اليتيم من ماله، وينفق عليه منه، وإذا كان ولي هذا اليتيم الذي يقوم على شؤونه فقيراً فكما قال الله : فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء:6] وهذا داخل في قوله: إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة الأنعام:152] يعني أنه يأكل، ويلبس ما يصلح لمثله؛ دون أن يتوسع في أخذ مال هذا اليتيم، والصرف منه، فيكون ذلك سبيلاً إلى إتلافه، وإذا كانت المصلحة مقتضية أن يسكن مع اليتيم في داره فإن كان يجد قيمة بأن كان هذا الإنسان غنياً فإنه يحسب مقابل سكنه أجرة يضعها في مال اليتيم، وإذا كان فقيراً فإن سكناه إن كانت مبنية على مصلحة اليتيم وليس استغلالاً  لضعفه فلا بأس أن يسكن معه من غير أجره؛ قال تعالى: وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [سورة البقرة:220].

"قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [سورة الأنعام:152] قال الشعبي ومالك وغير واحد من السلف: "يعني حتى يحتلم"".


بعضهم يقول: حتى يحتلم، لكن المقصود بالبلوغ هنا بلوغ الأشد، فبعضهم يقول: إذا بلغ ثمانية عشرة سنة، وبعضهم يقول: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، وبعضهم يقول: إذا بلغ الثلاثين، وبعضهم يقول: إذا بلغ الأربعين، وبعضهم يقول: إذا بلغ الخمسين، وهذا كله من بلوغ الأشد، لكنه يكتمل إذا بلغ الإنسان الأربعين، ومن بلغ الخمسين فإنه يقال له أيضاً: قد بلغ أشده لكن لم يبلغ أشده حينما وصل إلى الخمسين وإنما بلغ ذلك قبله، ومن لم يحصل له ذلك من الرشد، وبلوغ الأشد في سن الأربعين، والخمسين؛ فلا يرجى له بعد ذلك رشداً، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن يكون ذلك بمجموع أمرين:

الأول: أن يصل إلى سن البلوغ.

والثاني: أن يحسن التصرف في المال؛ لأن الله قال: وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى [سورة النساء:6] أي: اختبروهم حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [سورة النساء:6] فهو ذكر الأمرين: بَلَغُواْ النِّكَاحَ هذا سن البلوغ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا [سورة النساء:6] أي: إن علمتم منهم رشداً يعني حسن التصرف في المال، فيُختبر بأن يُعطى شيئاً من المال، ويُنظر كيف يتصرف فيه بأن يعطى خمسين ريالاً مثلاً؛ فإن رجع اشترى بها شيئاً لا يفعله الإنسان العاقل الرشيد الذي يحسن التصرف بالمال فمعنى ذلك أنه لم يحِنِ الوقت لإعطائه المال، فينتظر مدة، ثم يختبر مرة ثانية، فإن أحسن التصرف؛ دفع إليه ماله.

"وقوله تعالى: وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [سورة الأنعام:152] يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ، والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۝ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ۝ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ۝ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة المطففين:1-6] وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال، والميزان.
وقوله تعالى: لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة الأنعام:152] أي: من اجتهد في أداء الحق، وأخذه؛ فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه، وبذل جهده؛ فلا حرج عليه.
وقوله: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة الأنعام:152] كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ الآية [سورة المائدة:8] وكذا التي تشبهها في سورة النساء يأمر - تعالى - بالعدل في الفعال، والمقال؛ على القريب، والبعيد، والله - تعالى - يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت، وفي كل حال.
وقوله: وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ [سورة الأنعام:152] قال ابن جرير: يقول وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا، وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم، وتعملوا بكتابه، وسنة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد الله.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة الأنعام:152] يقول - تعالى -: هذا أوصاكم به، وأمركم به، وأكد عليك فيه، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا".

مسألة:
هل يصح أن يوصف اللقيط باليُتم؟ وهل له أحكام اليتيم؟
اللقيط لا يقال له: يتيم شرعاً، ل إن كان له مال فحكمه كحكم اليتيم في هذا، وله أيضاً ما يذكر في اليتيم من الحنو عليه، والشفقة، والإحسان إليه، وعدم قهره كما قال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [سورة الضحى:9] يقال فيه مثل هذا، بل قد يقال: يعامل بذلك من باب أولى؛ لأن اليتيم قد يكون له أم، أو أعمام، وأقارب، وجدّ وما أشبه ذلك، فهو ربما يعيش في أسرة تحوطه، أما اللقيط فهو لا أقارب له في الوجود أصلاً، ولا يوجد في قاموسه شيء اسمه أم، ولا أب، ولا عم، ولا خال، ولا أحد في هذا العالم، ويشعر أنه هباءً ليس له أحد، فهو يعيش في مجتمع لا يمت إليه بصلة، ولذلك فإن وضع اللقيط أشد من اليتيم، ولذلك إذا وصل إلى سن يميز ويعي فيه بعض الشيء فزاره شخص فاطمأن إليه، واستراح له، وأحبه؛ فإنه يتعلق بثوبه، ويقول: أنت أبي لا تذهب عني!!
وبعض هؤلاء اللقطاء ربما وصل إلى سن البلوغ وتعداه بل ربما وصل إلى سن الزواج - في عرفنا بعد سن العشرين - وهو لا يعرف أنه لقيط لا ينتسب إلى الأسرة التي تربيه، ولا يعلم أنه وضع له اسم أب؛ يظن أنه حقيقي، وربما قيل له: إن أهلك قد ماتوا، أو نحو هذا؛ فإذا عرف الحقيقة فربما اعترته حالة من الهستيريا، فينهار، ويبكي، وهذا شيء يقع، ويتكرر ما بين الفينة والأخرى - نسأل الله العافية -.
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا - باب مخالطة اليتيم في الطعام (2873) (ج 3 / ص 73) وحسنه الألباني.
  2. أخرجه مالك في موطئه في كتاب الزكاة - باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها (863) (ج 2 / ص 353) موقوف على عمر بن الخطاب وأما رفعه إلى رسول الله ﷺ فلم يثبت، انظر ضعيف الجامع للألباني حديث رقم (87).

مرات الإستماع: 0

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ [الأنعام: 152] وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الأنعام: 151] وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32] إلى آخره، فكل ما سبق منهيات.

وكذلك مأمورات وَأَوْفُوا الْكَيْلَ [الأنعام: 152] وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء: 37] وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36]

والله أيضًا يقول: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14].

"وتحتمل الآية عندي تأويلاً آخر، [وفي نسخة: وتحتمل أيضًا عندي تأويلاً آخر] وهو: أن يكون لفظ التحريم على ظاهره، ويعم فعل المحرمات، وترك الواجبات؛ لأن ترك الواجب حرام."

بهذا الاعتبار لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 151] فترك الواجب يكون محرمًا مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ لكن مجيء هذا بعده أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا لا يخلو من إشكال، ويبقى الإشكال السابق أَلَّا تُشْرِكُوا فترك الإشراك مأمور به، فإذا قلنا: إن ضده هو المحرم الذي هو فعل الإشراك فهذا خلاف الظاهر المتبادر، ولا تحمل الآية على مثل هذه المحامل البعيدة - والله أعلم -.

"قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ الإملاق الفاقة."

الإملاق أصله إتلاف المال حتى يفتقر، وبعضهم يقول: إنه مشتق إملاق من الملقات، والملقات هي الصخور، أو الحجارة العظام الملساء السود، يعني كأنه لم يبق له إلا الملقات، يعني: لم يبق له شيء، ما بقي له إلا الحجارة، أملق الرجل ذهب ماله، ولم يبق له شيء.

"ومن هنا للتعليل تقديره: من أجل إملاق." 

وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ يعني من أجل إملاق، وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه سأل النبي ﷺ أي الذنب أعظم قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك ثم تلا رسول الله ﷺ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان: 68] وكذلك: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك [1].

"وإنما نهى عن قتل الأولاد لأجل الفاقة؛ لأن العرب كانوا يفعلون ذلك، فخرج مخرج الغالب، فلا يفهم منه إباحة قتلهم بغير ذلك الوجه."

يعني أن مفهوم المخالفة هنا غير معتبر وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ لو قال قائل: نقتلهم من غير هذه العلة لغير هذه العلة خشية العار مثلاً قتل البنات، ونحو هذا، فيقال: هذا لا مفهوم له لأنه جاء وفاقا لواقع معين، وهذا مما يستثنى من مفهوم المخالفة، أن مفهوم المخالفة معتبر إلا في مواضع؛ منها قول صاحب المراقي:

أو جرى على الذي غلب أو امتنان أو وفاق الواقع[2].

هذا، وفاق الواقع فلا مفهوم له؛ كقوله تعالى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور: 33] فلا يجوز أن تمكن من البغاء، ولو كانت ترغب فيه، ولو لم ترد التحصن، لكنه جاء على وفاق واقع معين من عبد الله بن أبي كان له جاريتان أسلمتا، فكان يكرههن على البغاء، ويضربهن[3] فنزلت الآية وفاقًا لهذا الواقع.

وكذلك في قوله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 28] فلو قال: إنه يتخذ الكفار أولياء مع المؤمنين فلا عبرة بذلك؛ لأن هذا جاء على وفاق واقع معين فنزلت الآية تنهى عنه، فلا مفهوم له، خرج مخرج الغالب، فهذا غير مخرج، يقول: هو نزل على وفاق واقع معين فلا يفهم إلى آخره.

وما ورد من أنهم كانوا يقتلونهن خشية عار، يقتلون البنات فهذا لا يخالف ما ذكره الله فكانوا يقتلونهم خشية الفقر خشية أن تفتقر فتضطر إلى بيع عرضها، وهناك شواهد من كلامهم في هذا مما يدل على هذا المعنى كقول أحدهم عنده بنت يقال لها: الجرباء، خطبت فقال:

إني وإن سيق إليّ المهر ألف وعبدان وذود عشر
أحبّ أصهاري إليّ القبر[4].  

وقول الآخر عنده بنت يقال لها: مودة:

مودة تهوى عمر شيخ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري[5].

وقال آخر:

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزالٍ على الحرم[6].

وذكر اعتلاله لقتلها:

أخشى عليها فظاظة عم أو جفاء أخ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم[7].
أخشى عليها الدهر يومًا أن يُلم بها فيهتك الستر عن لحم على وضم[8].

يعني يصيبها الفقر، والفاقة، فيهتك الستر عن لحم على وضم، يعني: يهتك عرضها لفقرها، تضطر لبيع عرضها، هذا كانوا يفعلونه لفرط غيرتهم، وهذا لا شك أنه مذموم، كما أن ما يقابل ذلك من ذهاب الغيرة، وتضييع الأعراض أيضا مذموم.

"ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قيل ما ظهر: الزنا، وما بطن: اتخاذ الأخدان، والصحيح أن ذلك عموم في جميع الفواحش.

نعم عموم في جميع الفواحش، وبعضهم يقول: ذلك يعني ما ظهر ما يتعلق بالجوارح، وما بطن ما يرجع إلى القلب كالإشراك بالله، وسائر المدنسات مما يتصل بالقلوب، والأقرب أن ذلك يعم هذا جميعا - والله أعلم -.

فالفواحش هي ما عظم، وتناهى في القبح؛ ولا شك أن الشرك بالله هو أعظم هذه الفواحش، فما ظهر منها ما بدا، وكان في العلن؛ فيدخل فيه الزنا علانية، البغايا، وذوات الأعلام، ويدخل فيه تلبية المشركين إلا شريكا هو لك تملكه، وما ملك، ويدخل فيه عبادة الأصنام، والأوثان، وغير ذلك مما كانوا يفعلونه من أكل الميتات، وغيرها.

وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151] يدخل فيه الإشراك في القلوب، وسائر المدنسات، والزنا سرًا مع الخليلات، ونحو ذلك، فيدخل فيما يتصل بالجوارح، والقلوب؛ لأن "ما" تفيد العموم، وكأن ما ذكره بعض السلف من المعاني في هذا الموضع أنه من قبيل التفسير بالمثال؛ كقول بعضهم مثلا بأن ما ظهر من الفواحش هو الزنا بالبغايا، والمعلنات ذوات الأعلام تضع علما على بيتها، ويعرف أن هذا مكان بغي - أعزكم الله - وما كان سرا مع خليلته، ورفيقته دون أن يطلع الناس على ذلك، فهذا كأنه من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فيدخل في هذا العموم، هذا، وغيره - والله أعلم -.

" قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فسره قول رسول الله ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس[9].

وذكر الشنقيطي - رحمه الله - نصوصًا في قتل غير هؤلاء يعني المذكورين في هذا الحديث الثلاثة، يعني مثلاً: صح عن النبي ﷺ بأن الفاعل، والمفعول به في الفاحشة اللواط - أعزكم الله - أنه يقتل الفاعل، والمفعول به[10] هذا صح عن النبي ﷺ وكذلك صح عنه: حد الساحر ضربة بالسيف[11] إلى غير ذلك.فبعض أهل العلم الذين قالوا: بأن هؤلاء يقتلون أيضًا أدخلوهم في قوله إلا بالحق لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وذلك فيما حكم الله، ورسوله ﷺ ومن قال: لا يقتل أحد سوى هؤلاء لم يدخلها في قوله: إِلَّا بِالْحَقِّ لهذا الحديث، قال: وهذا الحديث نص صريح باعتبار أنه جاء بصيغة الحصر الأقوى فلا يخرج عن ذلك شيء، ولكن جاءت الزيادة على هذا في السنة فهو داخل في قوله: إِلَّا بِالْحَقِّ فيكون الشارع في وقت من الأوقات بينهم لهم أنه لا يحل القتل إلا من كان بهذه الصفة، ثم زاد عليها أشياء بعد ذلك - والله أعلم -.

"وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النهي عن القرب يعم وجوه التصرف، وفيه سدّ الذريعة؛ لأنه إذا نهى عن أن يقرب المال، فالنهي عن أكله أولى، وأحرى، والتي هي أحسن: منفعة اليتيم، وتثمير ماله.

قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ هو البلوغ مع الرشد، وليس المقصود هنا السن وحده، وإنما المقصود معرفته بمصالحه."

حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ قال: البلوغ مع الرشد يعني حسن التصرف في المال؛ ولهذا قال الله : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء: 6] فهذا هو البلوغ، فإن آنستم منهم رشدا فذكر أيضا الوصف الآخر فلا بد مجموع الأمرين حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ يعني يتناهى في الثبات إلى حد الرجال، أو يبلغ منتهى شبابه، وقوته، وأصل المادة يدل على قوة في الشيء، وفسره بعض أهل العلم كالإمام مالك، والشعبي بالاحتلام[12] لكن هذا وحده لا يكفي لا بد من البلوغ، وحسن التصرف.

"قوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها لما أمر بالقسط في الكيل، والوزن، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه، ولا نقصان مما يجري فيه الحرج، ولا يتحقق الوصول إليه، أمر بما في الوسع من ذلك، وعفا عما سواه.

قوله تعالى: وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي، ولو كان المقول له، أو عليه في شهادة، أو غيرها من أهل قرابة القائل، فلا ينبغي أن يزيد، ولا ينقص بل يعدل."

  1.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] برقم (4477) ومسلم كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده برقم (86).
  2.  نشر البنود على مراقي السعود (1/99).
  3.  انظر: تفسير البغوي (6/44) وتفسير ابن كثير (6/55).
  4.  انظر: تفسير القرطبي (10/118) وديوان المعاني (2/251) وزهر الآداب، وثمر الألباب (2/529).
  5.  لسان العرب (3/455).
  6.  شرح ديوان الحماسة (ص: 206).
  7.  شرح حماسة أبي تمام للفارسي (2/183).
  8.  شرح ديوان الحماسة (ص: 206).
  9.  أخرجه أبو داود، كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، برقم (4502) والترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، برقم (2158) والنسائي، كتاب تحريم الدم، ذكر ما يحل به دم المسلم، برقم (4019) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7641).
  10.  أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط، برقم (4462) والترمذي، أبواب الحدود عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حد اللوطي، برقم (1456) وابن ماجه، أبواب الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط، برقم (2561) وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6589).
  11.  أخرجه الترمذي، أبواب الحدود عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حد الساحر، برقم (1460) والحاكم في المستدرك، برقم (8073) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، وإن كان الشيخان تركا حديث إسماعيل بن مسلم فإنه غريب صحيح، وله شاهد صحيح على شرطهما جميعا في ضد هذا" وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (2699).
  12.  تفسير ابن كثير (3/364).