قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا يحتمل أن يكون في موضع نصب بمعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً، وأن هذا صراطي مستقيماً، يعني في جملة ما أمر أن يتلوه عليهم، وأن هذا صراطي مستقيماً، ويحتمل أن يكون في محل جر هكذا ذلكم وصاكم به، وبأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه.
وبعضهم يقول كالخليل وسيبويه: "ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل".
وعلى قراءة حمزة والكسائي بكسر همزة "إِن" وإن هذا صراطي مستقيماً يكون على الاستئناف - والله أعلم - يعني كأنه يقول: هذه الوصايا التي ذكرت في هذه الآيات هي صراطي المستقيم.
قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف، والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء، والخصومات في دين الله، ونحو هذا قاله مجاهد وغير واحد.
وروى الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: خط رسول الله ﷺ خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، وخط عن يمينه، وشماله، ثم قال: هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153] وكذا رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه[1].
وروى الإمام أحمد وعبد بن حميد واللفظ لأحمد عن جابر قال: كنا جلوساً عند النبي ﷺ فخط خطاً هكذا أمامه فقال: هذا سبيل الله وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله؛ وقال: هذه سبل الشيطان، ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأنعام:153] ورواه أحمد وابن ماجه في كتاب السنة من سننه والبزار[2].
وروى ابن جرير أن رجلاً قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد ﷺ في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، ثم رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الآية [سورة الأنعام:153][3].
وروى الإمام أحمد عن النواس بن سمعان عن رسول الله ﷺ قال: ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يدعو: يا أيها الناس هلموا أدخلوا الصراط المستقيم جميعاً، ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك، لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم ورواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن غريب[4]".
هذه الأشياء المذكورة في الوصايا كالتوحيد وما ذكر بعده من حدود الله ، والنهي عن قتل الأولاد، ومقارفة الفواحش، وعن قربان مال اليتيم؛ إلا بالتي أحسن، وإيفاء المكيال، والميزان، وما أشبه ذلك؛ هذه تفاصيل شرائع الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، فكلما كان الإنسان محققاً لهذه الشرائع، ممتثلاً ؛كلما كان سيره على الصراط مستقيماً، وكلما خرج عنها كان سيره متعثراً كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "من استقام سيره على هذا الصراط في الدنيا رجي أن يستقيم سيره على الصراط في الآخرة".
وأما الدعاة الذين يدعون إلى تلك السبل فهم الدعاة إلى جهنم، وكل من دعا إلى ما يخالف الصراط المستقيم فهو من هؤلاء الدعاة، أياً كانت دعوته، وهذا مثل ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "مثل ما لا ينقض الوضوء"، يعني لا تستطيع أن تستقصي هذه الأشياء؛ لأن كل دعوة مضلة موجودة، أو توجد في المستقبل؛ فهي داخلة في هذا.
- أخرجه أحمد (4437) (ج 1 / ص 465) والحاكم (2938) (ج 2 / ص 261) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
- أخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اتباع سنة رسول الله ﷺ (11) (ج 1 / ص 6) وأخرجه أحمد (15312) (ج 3 / ص 397) وعبد بن حميد (1141) (ج 1 / ص 345) وصححه الألباني في الظلال برقم (16).
- أخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول (7016) (ج 9 / ص 371) وذكره السيوطي في الدر المنثور (ج 3 / ص 386).
- أخرجه أحمد (17671) (ج 4 / ص 182) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3887).