الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِى مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِۦ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأنعام:153]".


قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا يحتمل أن يكون في موضع نصب بمعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً، وأن هذا صراطي مستقيماً، يعني في جملة ما أمر أن يتلوه عليهم، وأن هذا صراطي مستقيماً، ويحتمل أن يكون في محل جر هكذا ذلكم وصاكم به، وبأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه.
وبعضهم يقول كالخليل وسيبويه: "ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل".
وعلى قراءة حمزة والكسائي بكسر همزة "إِن" وإن هذا صراطي مستقيماً يكون على الاستئناف - والله أعلم - يعني كأنه يقول: هذه الوصايا التي ذكرت في هذه الآيات هي صراطي المستقيم.

"قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في قوله: وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153] وفي قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى:13] ونحو هذا في القرآن.
قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف، والتفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء، والخصومات في دين الله، ونحو هذا قاله مجاهد وغير واحد.
وروى الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الله وهو ابن مسعود قال: خط رسول الله ﷺ خطاً بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، وخط عن يمينه، وشماله، ثم قال: هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [سورة الأنعام:153] وكذا رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه[1].
وروى الإمام أحمد وعبد بن حميد واللفظ لأحمد عن جابر قال: كنا جلوساً عند النبي ﷺ فخط خطاً هكذا أمامه فقال: هذا سبيل الله وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله؛ وقال: هذه سبل الشيطان، ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الأنعام:153] ورواه أحمد وابن ماجه في كتاب السنة من سننه والبزار[2].
وروى ابن جرير أن رجلاً قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد ﷺ في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، ثم رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الآية [سورة الأنعام:153][3].
وروى الإمام أحمد عن النواس بن سمعان عن رسول الله ﷺ قال: ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يدعو: يا أيها الناس هلموا أدخلوا الصراط المستقيم جميعاً، ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك، لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم ورواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن غريب[4]".


هذه الأشياء المذكورة في الوصايا كالتوحيد وما ذكر بعده من حدود الله ، والنهي عن قتل الأولاد، ومقارفة الفواحش، وعن قربان مال اليتيم؛ إلا بالتي أحسن، وإيفاء المكيال، والميزان، وما أشبه ذلك؛ هذه تفاصيل شرائع الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، فكلما كان الإنسان محققاً لهذه الشرائع، ممتثلاً ؛كلما كان سيره على الصراط مستقيماً، وكلما خرج عنها كان سيره متعثراً كما قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: "من استقام سيره على هذا الصراط في الدنيا رجي أن يستقيم سيره على الصراط في الآخرة".
وأما الدعاة الذين يدعون إلى تلك السبل فهم الدعاة إلى جهنم، وكل من دعا إلى ما يخالف الصراط المستقيم فهو من هؤلاء الدعاة، أياً كانت دعوته، وهذا مثل ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "مثل ما لا ينقض الوضوء"، يعني لا تستطيع أن تستقصي هذه الأشياء؛ لأن كل دعوة مضلة موجودة، أو توجد في المستقبل؛ فهي داخلة في هذا.

"وقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ [سورة الأنعام:153] إنما وحَّد سبيله؛ لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها، وتشعبها كما قال تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:257]".
  1. أخرجه أحمد (4437) (ج 1 / ص 465) والحاكم (2938) (ج 2 / ص 261) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.
  2. أخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم - باب اتباع سنة رسول الله ﷺ (11) (ج 1 / ص 6) وأخرجه أحمد (15312) (ج 3 / ص 397) وعبد بن حميد (1141) (ج 1 / ص 345) وصححه الألباني في الظلال برقم (16).
  3. أخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول (7016) (ج 9 / ص 371) وذكره السيوطي في الدر المنثور (ج 3 / ص 386).
  4. أخرجه أحمد (17671) (ج 4 / ص 182) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3887).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام: 153] الإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوصايا، أو إلى جميع الشريعة، وأنّ بفتح الهمزة، والتشديد عطف على ما تقدم، أو مفعول من أجله: أي: فاتبعوه؛ لأن هذا صراطي مستقيما."

وبنحو هذا المعنى فَاتَّبِعُوهُ لأن هذا صراطي مستقيما مفعولا من أجله فاتبعوه؛ لأن هذا صراطي مستقيما، وبنحو هذا قال الخليل، وسيبويه[1] ويحتمل: واتل أن هذا صراطي، ويحتمل وصاكم به، وبأن هذا صراطي.

"وقرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح، والتخفيف على العطف، وهي على هذا مخففة من الثقيلة."

بالكسر هي قراءة حمزة، والكسائي (وَإِنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا) على الاستئناف تكون جملة جديدة؛ ولا حاجة إلى التقديرات السابقة، والتقدير الذي ذكر في هذه الآيات صراطي، وقراءة الجمهور بفتح الهمزة.

"قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطرق المختلفة في الدين من اليهودية، والنصرانية، وغيرها من الأديان الباطلة، ويدخل فيه أيضا البدع، والأهواء المضلة، وفي الحديث: أن النبي ﷺ خط خطا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه، وعن شماله، ثم قال: هذه كلها سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه [2]."

هذا الحديث في آخره، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] هذا مهم؛ لأنه شاهد في الآية، إضافة إلى ما تضمنه من المعنى، وهذا الحديث أخرجه النسائي في السنن الكبرى، وفي التفسير، وكذلك الإمام أحمد - رحمه الله - وصححه الحاكم، وأقره الذهبي، وكذلك له طرق - هذا الحديث - بعضها حسنه الألباني، وبعضها صححه، حديث ابن مسعود .

"قوله تعالى: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي: تفرقكم عن سبيل الله، والفعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة؛ ولذلك شدده البزي."

يعني فَتَفَرَّقَ بِكُمْ يعني تتفرق بكم، ولهذا شدده البزي، فالبزي يشدد التاء في أوائل الأفعال المضارعة في الوصل، وذلك في أحد، وثلاثين موضعًا من القرآن يسمونها تاءات البزي، فتّفرق، فيكون مشددًا؛ لأنه من تاءين، فتّفرق.

"قوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا معطوف على وصاكم به، فإن قيل: فإن إيتاء موسى الكتاب متقدم على هذه الوصية، فكيف عطفه عليها بثم؟

فالجواب: أن هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها، فصح الترتيب.

وقيل: إنها هنا لترتيب الأخبار، والقول، لا لترتيب الزمان."

وبعضهم يقول: بأن، ثم هنا بمعنى الواو، يعني كأنه يقول: وآتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن.

وبعضهم يقول: التقدير، ثم قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا.

وبعضهم يقول: المعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا [الأنعام: 151] إلى آخره، ثم أتل إيتاء موسى الكتاب.وبعضهم يقول غير هذا.

"قوله تعالى: تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: أن المعنى تماما للنعمة على الذي أحسن من قوم موسى، ففاعل أحسن ضمير يعود على الذي، والَّذِي أَحْسَنَ يراد به جنس المحسنين.

والآخر: أن المعنى تماما أي تفضلا، أو جزاء على ما أحسن موسى من طاعة ربه، وتبليغ رسالته، فالفاعل على هذا ضمير موسى - عليه الصلاة، والسلام - و"الذي" صفة لعمل موسى.

والثالث: تمامًا أي إكمالا على ما أحسن الله به إلى عباده، فالعامل على هذا ضمير الله تعالى."  

  1. تفسير القرطبي (7/142).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (4142) وقال محققوه: "إسناده حسن من أجل عاصم بن أبي النجود، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين" وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (166).