لما أخبر الله - سبحانه - عن القرآن بقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [سورة الأنعام:153] عطف بمدح التوراة ورسولها، فقال: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [سورة الأنعام:154] وكثيراً ما يقرن - سبحانه - بين ذكر القرآن، والتوراة".
فإن الله - تبارك وتعالى - أوصى بتلك الوصايا العشر التي ابتدأها بقوله: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:151] الآيات ثم قال بعدها: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [سورة الأنعام:154] والتعبير هنا بـ"ثم" في أصل معناها تفيد الترتيب مع التراخي، لكن قد يسبب إشكالاً، أو تثير سؤالاً هنا وهو أن الله - تبارك وتعالى - قد أرسل موسى ﷺ قبل أن يقول لنبيه ﷺ هذه الوصايا، فكيف عبَّر بذلك فقال: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [سورة الأنعام:154] مع أن موسى قد أرسله الله ، وآتاه الكتاب؛ قبل هذا بزمان بعيد كما هو معلوم؟ ولهذا فإن بعض أهل العلم قال: إن ثم هنا بمعنى الواو، والواو لا تقتضي الترتيب، فقوله: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [سورة الأنعام:154] يعني وآتينا موسى الكتاب، أي أنه أخبر عن إيتاء موسى الكتاب، فـ"ثم" هنا تفيد العطف فقط كالواو تماماً.
ومن أهل العلم من يقول: هناك مقدراً محذوفاً، والتقدير: ثم كنا قد آيتنا موسى الكتاب تماماً على الذي، و"كان" تدل على الزمن الماضي كما هو معلوم.
ومن أهل العلم من يربط بين الآيات فيقول: إن المعنى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم - وذكر المحرمات -، ثم أتلو إيتاء موسى الكتاب تماماً، وعلى هذا يكون قوله: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [سورة الأنعام:154] من جملة المأمور بتلاوته عليهم، فالمعنى تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم أتل خبر موسى ﷺ، وأن الله آتاه الكتاب.
وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الوصايا العشر قديمة أوصى بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أقوامَهم، ذكرها الله لنبيه ﷺ، ثم ذكر بعد ذلك إيتاء الكتاب لموسى أي أن هذه الوصايا قبل موسى - عليه الصلاة والسلام - أوصىَ بها الأنبياء أقوامهم، فلما ذكر هذه الوصايا القديمة التي يوصي بها الأنبياء قال: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [سورة الأنعام:154] وعلى هذا المعنى تكون "ثم" على بابها للترتيب، والتراخي، أي أن الوصايا سابقة لإيتاء موسى الكتاب.
وبعضهم يقول: إن "ثم" هنا هي لترتيب الأخبار فقط وليست دالة على ترتيب الوقائع، والأشياء الحاصلة في الخارج، وهذا معروف في لغة العرب ومثال ذلك أن تقول: أنت أتيت إلى المسجد، ثم إنك ذهبت إلى السوق، ثم إنك تزوجت، ثم إنك اتجرت؛ فقد لا تكون هذه الأشياء في الخارج مرتبة بهذه الطريقة، وإنما المقصود هو ذكر خبر بعد خبر وإن كان الوقوع ليس بهذه الطريقة في الترتيب، يعني أن "ثم تفيد الترتيب لكنها هنا لترتيب الأخبار فقط كقوله تعالى مثلاً - على قول بعض أهل العلم -: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البلد:17] مع أن الإيمان هو أصل في العمل لكن ليس المقصود بذلك الترتيب بحسب الوقوع وإلا لكان مشكلاً.
وكبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - يقول بقول من قال بالتقدير أي أن فيه مقدر محذوف لكن المقدر المحذوف عند ابن جرير - رحمه الله - هكذا: ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتاب، يعني أن الله أمره بأن يتلوَ الوصايا العشر، ثم يقول: إن ربي آتى موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن.
هذه الأقوال كلها تحتملها الآية، والجميع يعلم أن إيتاء موسى الكتاب كان قبل أن يخبر الله محمداً ﷺ عن هذه القضايا، ولذلك فإن هذا قطعاً لا يدل على ترتيبها بحسب الوقوع.
وقول من قال: بأن هذه الوصايا قديمة كان يوصي بها الأنبياء لا دليل عليه، بل غاية ما نعلم أن هذه الوصايا كانت موجودة في التوراة، أما الادعاء بأنها كانت موجودة قبل ثم قال: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [سورة الأنعام:154] بعد ما كان يوصي بها الأنبياء فهذا بعيد.
وقول من قال: إنها لترتيب الأخبار قول له وجه قريب من النظر، ولعله أقرب هذه الوجوه، وهذا له نظائر في القرآن - والله تعالى أعلم -.
لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [سورة الأنعام:153] عطف بمدح التوراة ورسولها فقال: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [سورة الأنعام:154].
وقال تعالى مخبراً عن المشركين: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى [سورة القصص:48] قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [سورة القصص:48]، وقال تعالى مخبراً عن الجن أنهم قالوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ الآية [سورة الأحقاف:30].
وقوله تعالى: تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً [سورة الأنعام:154] أي: آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تَمَامًا [سورة الأنعام:154] كاملاً جامعاً لما يحتاج إليه في شريعته كقوله: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ الآية [سورة الأعراف:145]".
يعني أن قوله: تَمَامًا [سورة الأنعام:154] يمكن أن يكون مصدراً تقول: تمّ تماماً، ويمكن أن يكون مفعولاً لأجله، أي: آتينا موسى الكتاب لأجل التمام - والله أعلم -.
في قوله: عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ [سورة الأنعام:154] قال: "أي جزاء على إحسانه في العمل، وقيامه بأوامرنا، وطاعتنا".
عامة أهل العلم على أن "أحسن" فعل ماض، وهذا هو الظاهر المتبادر وعلى هذا فالذي أحسن يحتمل أن يكون موسى - عليه الصلاة والسلام - وهذا هو الذي مشى عليه ابن كثير، والمعنى أنه أحسن في طاعة الله، والاستجابة لأوامره، والانقياد لربه - تبارك وتعالى -، وعليه فقوله: الَّذِيَ أَحْسَنَ تكون صفة لموسى ﷺ، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ [سورة الأنعام:154] يعني تتميماً لنعمتنا عليه، وذلك أنه أحسن في طاعة ربه فصارت نعمة الله عليه سابغة تامة إذ امتن الله عليه بالإيمان، والقبول، والإذعان، والعمل الصالح، وفوق ذلك أيضاً آتاه الكتاب.
هذا هو المعنى الذي مشى عليه ابن كثير، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
ومن أهل العلم من يقول: إن "الذي" من قوله: تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ [سورة الأنعام:154] اسم موصول، والأسماء الموصولة سواء كانت مفردة، أو مثناة، أو مجموعة؛ فإنها من صيغ العموم كقوله تعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا [سورة الأحقاف:17] - على أحد المعنيين - يعني كل من وقع منه هذا القول، فالأسماء الموصولة هي للعموم، فمن أهل العلم من أجرى الاسم الموصول هنا على العموم ليكون معنى تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ [سورة الأنعام:154] يعني الذين أحسنوا بالعمل الصالح، والإيمان؛ أتم الله عليهم النعمة، وبعث موسى ﷺ، وآتاه الكتاب، أي أن قوله: عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ [سورة الأنعام:154] لا يرجع إلى موسى ﷺ فحسب وإنما يرجع إلى كل من اتصف بهذه الصفة، ويؤيد هذا المعنى قراءة غير متواترة في الآية تماماً على الذين أحسنوا [سورة الأنعام:154].
ومن أهل العلم من يرجع الضمير المستتر إلى الله ، وعليه يكون الكلام "ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن الله إليه" وذلك أن كل نعمة تحصل للعبد - حسية أو معنوية - هي بإحسان الله - تبارك وتعالى -، وافضاله على العبد.
لكن المعنى الأول أكثر تبادراً، وأقرب، وهو الذي يلوح من ظاهر هذه الآية - والله تعالى أعلم - أي أن موسى ﷺ أتم الله عليه النعمة بعد أن كان محسناً، منقاداً، مطيعاً لربه - تبارك وتعالى - فأنزل عليه الكتاب، وكان ذلك تتميماً للنعمة عليه.