هذا القسم عزم منهم أنهم سيتبعون النذير لكن حتى لو كانوا صادقين حينما قالوه فإنه عند الامتحان قد لا يستطيعون تحقيق هذا، أو لا يوفقون إليه، أو لا تنهض هممهم للقيام به؛ فالإنسان يعزم لكنه قد ينثني عزمه عند المطالبة بالشيء، ومن صور ذلك أن بني إسرائيل قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فلما بعث إليهم الملك انثنت عزائمهم.
وأصحاب النبي ﷺ قالوا: "وددنا أنا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله فنعمل به فقال الله : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ [سورة الصف:4] فتثاقلوا ذلك، ومن ذلك ما حكى الله عن الذين كانوا يطالبون، ويبدون رغبتهم، وعزمهم على جهاد عدوهم بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة النساء:77] فلما كتب عليهم القتال قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [سورة النساء:77].
ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كثير من كتبه الفرق بين العزم على الصبر وبين الصبر، فالإنسان في كثير من الأحيان يقول: لو حصل كذا لفعلت كذا، ولو كان لي مال لتصدقت به، فإذا أعطي من المال مثل أموال قارون فربما بخل، وأمسك ما في يده، وبعضهم يقول: لو أني أصبت بمرض أو نحوه لكنت صابراً لم أجزع جزع فلان، فإذا أصيب فربما يقع له من الجزع أضعاف ما يقع لغيره ممن كان ينكره، والله المستعان.
وقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [سورة الأنعام:157] أي: لم ينتفع بما جاء به الرسول، ولا اتبع ما أرسل، ولا ترك غيره، بل صدف عن اتباع آيات الله، أي: صرف الناس، وصدهم عن ذلك، قاله السدي، وعن ابن عباس - ا -، ومجاهد، وقتادة وَصَدَفَ عَنْهَا أعرض عنها".
على قول السدي: صدَّ غيره تكون "صدف" متعدية أي صرف غيره، وصده عن الإيمان، وعلى قول مجاهد وقتادة بمعنى أعرض تكون "صدف" لازمة أي أعرض في نفسه، ولم يؤمن بها، فالآية تحتمل المعنيين؛ لأن صدف تأتي لازمة، وتأتي متعدية في كلام العرب أصلاً، وابن جرير - رحمه الله - فسرها باعتبار أنها لازمة، لكن قد يوجد في الآية قرينة تدل على أنها متعدية، لكن هذا لا يقطع به؛ لأن الآية تحتمل المعنى الآخر احتمالاً قريباً، والقرينة في نفس الآية هي أنه قال قبل: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ [سورة الأنعام:157] أي كذب بها، فهذا كفره بها فيكون معنى وَصَدَفَ عَنْهَا يعني صد غيره عن الإيمان بها، ويمكن أن يؤيد هذا المعنى جملة من الآيات كقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [سورة الأنعام:26] أي: ينأون بأنفسهم، وينهون غيرهم عن الإيمان، وكقوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى [سورة العلق:9-12] يعني هو في نفسه بعيد وكذلك ينهى عن الخير، والإيمان، وطاعة الله .
ومما يؤيد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ [سورة النحل:88] يعني الذين كفروا في أنفسهم، وصدوا غيرهم، فهذه الآيات هي كقوله تعالى هنا: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [سورة الأنعام:157] أي كذب هو بآيات الله، وصد غيره عن الإيمان بها، فعلى كل حال هذا القول تؤيده مثل هذه النصوص، والآية كما سبق فيه القرينة التي ذكرنا، والقول الذي قبله هو قول تحتمله الآية احتمالاً قريباً أيضاً، والقول بأنها متعدية هو الذي صرح الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بترجيحه حيث ذكر القولين، ثم قال: وهذا أقوى القولين أي باعتبار أنها متعدية، وهذا القول أيضاً هو الذي اختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، والله أعلم.