"قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً [الأنعام: 19] سؤال يقتضي جوابا ينبني عليه المقصود."
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً [الأنعام: 19] يعني على صدق ما جئت به.
"وفيه دليل على أن الله يقال عليه: شيء، لكن ليس كمثله شيء."
ولكنه لا يسمى بهذا، ليس من أسمائه شيء، ولكن يخبر عنه بذلك: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19] فيخبر عنه بذلك، ولكنه ليس من أسمائه، وباب الإخبار أوسع من باب التسمية، فوجه الدليل هنا أن الاستفهام قُلْ أَيُّ شَيْءٍ [الأنعام: 19] إذا أضيف إلى كلمة، أي شيء، لاحظ الاستفهام هنا أضيف إلى شيء، صارت هذه الكلمة صادقة على جواب الاستفهام، وجوابه هنا: الله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام: 19] فإذا قلت: الله، فهذا بمنزلة قولك: قبله شيء، الذي أضفته، أضفت الاستفهام إليه، أي شيءٍ، تقول: أي شيء عندك؟ فتقول: قلم، فقلم هنا بمنزلة شيء، فهذا وجه الدليل الذي ذكره هنا، قال: فيه دليل على أن الله يقال له: شيء.
"قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19] يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الله مبتدأ، وشهيد خبره.
والآخر: أن يكون تمام الجواب عند قوله: قل الله، بمعنى أن الله أكبر شهادة، ثم يبتدئ على تقدير: هو شهيد بيني، وبينكم، والأول أرجح لعدم الإضمار، والثاني أرجح لمطابقته السؤال، فإنّ السؤال بمنزلة من يقول: من أكبر الناس؟
فيقال في الجواب: فلان، وتقديره فلان أكبر الناس، والمقصود بالكلام استشهاد بالله الذي هو أكبر شهادة على صدق رسول الله ﷺ وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوءة سيدنا محمد ﷺ وإظهار معجزته الدالة على نبوأته."
كذلك أيضًا بإقراره له في مدة ثلاث، وعشرين سنة يدعو الناس، ويتلو لهم القرآن، وأنه كلام الله، وأن الله أرسله، ثم يقاتل من كذبه، والله - تبارك، وتعالى - يُقره هذه المدة الطويلة، وينصره على أعدائه، ويجعل العاقبة، والظهور له، هذا لا يكون لمن كان كاذبًا على الله - تبارك، وتعالى - كذلك شهادة الله - تبارك، وتعالى - له بمثل قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21] فهذه شهادة أنه كلام الله - تبارك، وتعالى - جاء به جبريل أمين وحيه إلى النبي ﷺ وأنه ليس اختلاق البشر.
وهكذا كما في قوله - تبارك، وتعالى -: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء: 166].
وهكذا في قوله ردًا على المنافقين: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ [المنافقون: 1] حينما قال المنافقين: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1].
وقوله هنا: يحتمل وجهين: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19] أي: يكون الله مبتدأ، وشهيد خبره، الله شهيد هذا الوجه في الإعراب واضح، ولا إشكال فيه، ولا تكلف.
والآخر: أن يكون تمام الجواب عند قوله: قل الله؛ وهذا ظاهر كلام ابن جرير - رحمه الله - قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19] ثم يكون ما بعده استئنافًا على تقدير: هو شهيد بيني، وبينكم.
ووجه رجحان الأول: أنه لا يحتاج إلى إضمار، والقاعدة أن الأصل عدم التقدير.
والثاني: يقول: أرجح لمطابقة السؤال، فهو بتقدير: من أكبر الناس؟ فيقال: فلان، وتقديره: فلان أكبر الناس، فهذا يحتمل قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19] هو شهيد بيني، وبينكم، أو: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام: 19].
وفيه أوجه غير هذا، غير ما ذكر يحتملها المقام، ولكن هنا لا مجال للتوسع في ذلك، ومن أراد النظر في وجوه الإعراب، والمناقشات في هذه الأجوبة المذكورة، أو هذه الوجوه المحتملة، فليطالع في مثل تفسير أبي حيان، وكذلك أيضًا في مناقشاته لابن عطية، من نظر في "تفسير ابن عطية" و"الكشاف" سيجد مناقشات لهذه الأوجه كثيرة في مثل البحر المحيط، وكذلك ما هو أوسع من هذا في "الدر المصون" فضلاً عن كتب الإعراب الأخرى.
"قوله تعالى: وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] عطف على ضمير المفعول في لأنذركم، والفاعل بـ"بلغ" - في جميع النسخ، والفاعل بـ"بلغ" - ."
هنا يقول: عطف على ضمير المفعول في لأنذركم، ضمير المفعول هنا في لأنذركم هو الكاف، فالإنذار واقع عليهم، لضمير المفعول، لأنذركم يعني يقع الإنذار عليكم، وعلى من بلغ، كقوله على اختلاف في الإعراب هناك في سورة الجمعة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة: 2] إلى أن قال: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ [الجمعة: 3] على اختلاف، لكن هذا أحد الأوجه التي تتفق مع هذا، بعث في الأميين، وآخرين، يعني وفي آخرين؛ أو يتلو عليهم آياته، وآخرين، يعني، ويتلوا على آخرين، يزكيهم يزكي آخرين، يعلمهم الكتاب، والحكمة، وآخرين، يعلم آخرين، فهذا يحتمل، فهنا، ومن بلغ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فيكون الإنذار واقعًا عليكم، ومن بلغه هذا القرآن.
"والفاعل ببلغ ضمير القرآن، والمفعول محذوف يعود على (من) تقديره: ومن بلغه."
ومن بلغ يعني من بلغه، ما الذي يبلغ؟ القرآن، نعم من بلغه القرآن.
"والمعنى: أوحى إليّ هذا القرآن لأنذر به المخاطبين، وهم أهل مكة، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب، والعجم إلى يوم القيامة، قال سعيد بن جبير: "من بلغه القرآن فكأنما رأى سيدنا محمدا ﷺ ".
هذا الأثر عن محمد بن كعب القرظي عند ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة وطرقه لا تخلو من ضعف، لكن يمكن بمجموع طرقه أن يكون حسنًا لغيره، عن محمد بن كعب القرظي، وليس عن سعيد بن جبير، وليس فيه - في لفظه هنا - هذه العبارة: فكأنما رأى سيدنا محمدًا ﷺ.
وهذه العبارة ليست مستعملة، كما هو معروف، وإن كان النبي ﷺ هو سيدنا - عليه الصلاة، والسلام - ولا غضاضة في ذلك أن يقال له ذلك، يقال: سيدنا، لكن ليست مستعملة، فالصحابة والتابعون ما كانوا يقولون مثلاً قال: سيدنا رسول الله ﷺ أو نحو ذلك، فكأنما رأى سيدنا، هذه ليست في الرواية، بصرف النظر، ليست في الرواية.
يقول: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدًا ﷺ ثم قرأ: وَمَنْ بَلَغَ يعني محمد بن كعب القرظي قرأ الآية: وَمَنْ بَلَغَ وهنا يقول: فكأنما رأى محمدًا ﷺ كأنما رأى محمدًا، الله - تبارك، وتعالى - يقول: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] فهذه العبارة يعني في كتب التفسير فكأنما رأى محمدًا ﷺ أو في عبارات في التفسير، يقال في تفسير الكلام في الخطاب للنبي ﷺ يقال: يا محمد أمرتك بكذا، أو نهيتك عن كذا، أو افعل كذا، في التفسير، قال: يا محمد، فهذه العبارة لا إشكال فيها، فهذا تارةً يكون تفسيرًا لخطاب المشركين، فهذا لا إشكال فيه، فهم يقولون: يا محمد، فإذا فُسر بهذا الاعتبار، فقيل: يا محمد، أنزل علينا كذا، لن نؤمن لك حتى تفعل كذا، فهذا واضح.
القسم الثاني، وهو ما كان من خطاب الله لنبيه ﷺ فهذا حينما يفسر يقال: يا محمد، هذا كلام الله، باعتبار أنه خطاب من الله لنبيه ﷺ فلا إشكال، الذي نحن نهينا عنه، أن نخاطبه هو ﷺ يكون الخطاب صادرًا منا للنبي ﷺ فنقول: يا محمد، وإنما نقول: يا رسول الله، يا نبي الله، ونحو ذلك، ففرق بين المقامين.
فالبعض قد ينكر مثل هذه اللفظة في التفسير، باعتبار هذه الآيات: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ [النور: 63] ونحو هذا، فيقولون: التعبير يقال: يا رسول الله، يا نبي الله، لكن هذا الخطاب أحيانًا يكون بسياقات في الرد على بني إسرائيل، أو نحو ذلك - أهل الكتاب - فقد يلتبس لو قيل: يا نبي الله، هل المقصود النبي ﷺ أو المقصود نبي من أنبيائهم كموسى - عليه الصلاة، والسلام - أو عيسى ونحو ذلك.
فإذا قيل: يا محمد تبين المراد، فهو باعتبار أنه خطاب من الله، ولسنا نقول: يا محمد في مخاطبتنا له - عليه الصلاة، والسلام - وفرق بين المقامين، فلا يلتبس.
ثم هذه العبارة هي كثيرة في كلام السلف "يا محمد" وفي كلام سعيد بن جبير، كثير غير هذا الموضع.
وكذلك أيضًا لو نظرت في كلام ابن جرير؛ تجد أكثر من ألف، وخمسمائة موضع يقول فيها: يا محمد، الحافظ ابن كثير، مئات المواضع يقول فيها: يا محمد في تفسيره، هذا غير هؤلاء كثر، استخدموا هذه العبارة، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وخلق، كتب التفاسير مليئة بهذا.
"وقيل: المعنى، ومن بلغ الحلم، وهو بعيد."
لكن في مثل هذا المقام، فكأنما رأى محمدًا ﷺ فكأنما رأى رسول الله ﷺ لأنه لا يلتبس، وليس من خطاب الله لنبيه ﷺ الذي يُفسر، هنا، ومن بلغه القرآن فكأنما رأى محمدًا ﷺ وقيل: المعنى، ومن بلغ الحلم، وهو بعيد؛ صحيح هذا لا يساعد عليه السياق، ومن بلغ يعني، ومن بلغه القرآن.
"
أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ [الأنعام: 19] الآية: تقرير المشركين على شركهم، ثم تبرأ من ذلك بقوله:
لا أَشْهَدُ ثم شهد لله بالوحدانية، وروي أنها نزلت بسبب قوم من الكفار أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهًا آخر

[وفي جميع النسخ: أما تعلم مع الله إلهًا آخر]."
يمكن أن يكون ما تعلم مع الله إلهًا آخر، لكن يعني على سبيل الاستفهام، أو تعلم مع الله إلهًا آخر؟ هذه الرواية عند ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: "جاء النحام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحري بن عمير، وفي بعض المصنفات ابن عمرو لكن في ابن جرير ابن عمير، في النسختين المحققتين، فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهًا غيره - لاحظ هذه الرواية - ما تعلم مع الله إلهًا غيره، هذا لفظها، فقال: لا إله إلا الله، بذلك بُعثت، وإلى ذلك أدعو أو، ولذلك أدعو فأنزل الله - تعالى - فيهم، وفي قولهم: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام: 19] لكن هذه الرواية ضعيفة لا تصح، فابن إسحاق بينه، وبين النبي ﷺ هذا الذي يسميه بعضهم المعضل، وبعضهم يسميه: المرسل، باعتبار أن المرسل:
ومرسل قولة غير من صحب؟ |
قال إمام الأعجمين والعرب. |
هذا اصطلاح عند بعض أهل العلم، وهو اصطلاح الأصوليين مطلقًا، يعني حينما يقول البخاري مثلاً: قال النبي ﷺ فهذا عندهم مرسل، يعني لا يشترط أن يكون من قول التابعي، أن يكون سقط منه الصحابي فقط، وإنما إذا أرسل من قبل من يكون دون التابعي، فعندهم هو مرسل، وبعضهم يقيده كما هو معلوم، إذا سقط منه الصحابي.