الضمير في يَعْرِفُونَهُ من قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ [سورة الأنعام:20] إما أن يرجع إلى النبي ﷺ، وإما أن يرجع إلى ما جاءهم به النبي ﷺ من الوحي والقرآن، أي: إنهم يعرفون هذا القرآن أنه من عند الله حثاً وليس بمختلق كما يعرفون أبناءهم، أو يعرفون أن محمداً رسول الله إلى العالمين كما يعرفون أبناءهم الذين من أصلابهم، بل قد قال له بعضهم: "والله إنا نعرفك أكثر مما نعرف أبناءنا"؛ يعني أنه لا يدري هل ولده هذا من صلبه فعلاً أم لا، مع أن المقصود بمعرفتهم أبنائهم أنهم ينسبونهم إليهم من بين سائر الناس دون أن يشتبه ذلك عليهم.
يقول ابن كثير - رحمه الله - في الآية: "أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم" يعني أنه يرى أن الضمير يرجع إلى القرآن.
والقول بأنه الرسول - عليه الصلاة والسلام -، أو أنه القرآن الذي جاء به؛ بينهما ملازمة، فهم يعرفون النبي ﷺ، وهو - عليه الصلاة والسلام - قد جاءهم بالقرآن.
وهناك احتمال ثالث في عود الضمير في قوله: يَعْرِفُونَهُ؛ وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة الأنعام:19-20] فيحتمل أن يرجع الضمير أيضاً إلى الله - تبارك وتعالى - ليكون المعنى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفون وحدانية الله، وذلك أن هذه السورة مكية فهي تقرر توحيد الله ، وإفراده بالوحدانية، فهذا احتمال أيضاً يضم إلى ما سبق.
وقد حمل كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - الضمير في يَعْرِفُونَهُ على المعاني الثلاثة أي: يعرفون الله، ويعرفون الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ويعرفون الوحي الذي جاء به النبي - عليه الصلاة والسلام -.
وعلى كل حال فالآيات في سياقها تتحدث عن الوحدانية، وتتحدث أيضاً عن صدق النبي ﷺ، فهذه القضايا الثلاث مذكورة قبل ضمير يَعْرِفُونَهُ فالله يقول: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [سورة الأنعام:19] يعني على صحة ما جئت به، ثم قال: قُلِ اللّهِ يعني يشهد على صدقي، وصدق رسالتي، ثم بعد ذلك قال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [سورة الأنعام:20] أي: يعرفون هذا الحق الذي جئت به، وأنه صدق من الله - تبارك وتعالى -، وهذا المعنى هو الذي تدل عليه الآيات الأخرى، ولهذا قال الله في موضع آخر: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] فقوله: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة:146] يعني أنهم يكتمون وحدانية الله وهم يعلمون، أو أن أنبياءهم أخبروهم عن النبي ﷺ، وعن صفته؛ فكتموا ذلك، فالثاني هو المتبادر - والله تعالى أعلم -.
هل يمكن ترجمة هذه الآية إلى لغات أخرى حرفياً؟
لا بد من معرفة أن المترجم للقرآن إلى لغة أخرى لا يمكن أن يترجم الآية ترجمة صحيحة إلا أن يكون قد فسرها؛ لأن الترجمة الحرفية مستحيلة، أعني لا يمكن أن تنقل كلام الله - تعالى - بحروفه بكل معانيه الأصلية، والخادمة؛ إلى لغة أخرى إلا بأن تفهم معاني هذه الآية.
فإذا أردت أن تترجم قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ [سورة الأنعام:20] إلى لغة أخرى فلا بد أن تفهم تفسيرها أولاً، ولذلك فإنك إذا كنت تعتقد أن معنى قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ أي اليهود والنصارى، وأن الضمير في قوله: يَعْرِفُونَهُ يعني الرسول ﷺ فإنك ستقول في ترجمتك للآية: اليهود، والنصارى؛ يعرفون الرسول ﷺ، وأنه من عند الله كما يعرف الواحد منهم ابنه.
وإذا كنت تعتقد أن الضمير في يَعْرِفُونَهُ يرجع إلى الله ستقول: اليهود، والنصارى؛ يعرفون وحدانية الله كما يعرفون أبناءهم.
وإذا كنت تعتقد أن الضمير يرجع إلى القرآن ستقول: اليهود، والنصارى؛ يعرفون أن هذا القرآن حق من عند الله .
وكذلك لو فهمت أن الآية تحمل على المعاني الثلاثة فإنك تنقلها عند الترجمة بناء على الفهم الذي فهمته منها.
والمقصود أنه لا بد من فهم معنى الآية أولاً، ثم بعد ذلك ينقل هذا الفهم إلى اللغة الأخرى سواء كان صواباً، أو خطأً، وهذا هو ما يحصل، ولذلك تجد كثيراً من الترجمات فيها أخطاء كثيرة جداً، وانحرافات بحسب فهم المترجم، فالمترجم ليس مترجماً فحسب بل هو مفسر في الدرجة الأولى، ولذلك لا بد في المترجم أن يعرف اللغتين الأصلية والمنقول إليها معرفة تامة، وأن يعرف معاني القرآن وتفسيره، وكلما كان أحذق كانت ترجمته أقرب إلى الإصابة، لكن أين تجد من يفهم اللغتين ويكون حاذقاً في التفسير في نفس الوقت؟ فالله المستعان.