الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذْ وُقِفُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُوا۟ يَٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ۝ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ۝ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [سورة الأنعام:27-30].
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل، والأغلال، ورأَوا بأعينهم تلك الأمور العظام، والأهوال، فعند ذلك قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27]".

فقوله - تبارك وتعالى -: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ [سورة الأنعام:27] أي: إذ حبسوا، حيث يقال: وُقِف الرجل يعني حبس، ومنه قيل للوقف: وقف؛ لأنه تحبيس الأصل مع تسبيل المنفعة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا هو الفصيح في كلام العرب، لا أن يقال: أوقف الإنسان بمعنى حبس.
وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ [سورة الأنعام:27] بعضهم يقول: أي حبسوا في النار باعتبار أن "على" بمعنى "في" - فحروف الجر تتناوب كما هو معروف -، وهذا الذي مشى عليه ابن جرير - رحمه الله -، ويشبه هذا قول من قال: إن قوله: إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ أي: أُدخِلوها، فهذا القول راجع إلى المعنى الذي قبله.
وبعضهم يفسر "على" بمعنى الباء، والمعنى: وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ [سورة الأنعام:27] أي: حبسوا قريباً منها فرأوها يحطم بعضُها بعضاً، ورأوا بأم أعينهم ما فيها من الأهوال، والأوجال، فقالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27].
وهذه الآية: فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27] فيها ثلاثة أفعال هي: "نرد، ونكذب، ونكون"، وهذه الأفعال في الآية قرأها الجمهور من القراء ما عدا حفص وحمزة برفع الأفعال الثلاثة هكذا يا ليتنا نردُّ ولا نكذبُ بآيات ربنا ونكونُ من المؤمنين [سورة الأنعام:27] وهذه القراءة على أنهم تمنوا تلك الأمور جميعاً، أي: تمنوا الرد، وعدم التكذيب، وتمنوا أن يكونوا من المؤمنين.
وقرأ حفص وحمزة - قراءتنا هذه -: فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27]، وعلى هذه القراءة يكون الذي تمنوه هو الرجوع إلى الدنيا، وانتصبت الأفعال التي بعد ذلك بـ"أن" مضمرة بعد الواو هكذا: "وأن لا نكذبَ وأن نكونَ من المؤمنين".
وهناك قراءة ثالثة على أن النصب يكون في الفعل الأخير فقط، هكذا يا ليتنا نردُّ ولا نكذِّبُ بآيات ربنا ونكونَ من المؤمنين باعتبار أن الأول، والثاني؛ داخلان في التمني، وأما الثالث فغير داخل فيه.
واختار بعضهم أن قولهم: وَلاَ نُكَذِّبَ - بالنصب - مقطوع غير داخل في التمني، والمعنى أنهم يثبتون على ترك التكذيب سواء رُدُّوا أو لم يُرَدوا كما تقول: لن أعود إلى هذا الأمر سواء قبلت عذري أو لم تقبل، فكذلك هؤلاء يقولون: يا ليتنا نردُّ ولا نكذِّبَ سواء حصلت لنا الرجعة أو لم تحصل.
"فعند ذلك قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27] يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً، ولا يكذبوا بآيات ربهم، ويكونوا من المؤمنين".

مرات الإستماع: 0

"وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: 27] جواب لو محذوف هنا، وفي قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30] وإنما حُذف ليكون أبلغ مما يقدره السامع."

ذكر ابن جرير أن الفصيح أن يقال: وقفوا، ولا يقال: أوقفوا على ربهم[1] أن يقال: وقفوا، ولا يقال: أوقفوا.

[في جميع النسخ ليكون أبلغ ما يقدره السامع] بدل مما.

ما يقدره السامع، وليست مما، يعني: ليذهب الذهن كل ما ذهب بالتقدير، أبلغ ما يكون من ذلك هو وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ يعني لرأيت أمرًا شنيعًا، هائلاً، عظيمًا؛ ولهذا قال: بأن حذف جواب لو في مقامات الوعيد يدل على التهويل، والتعظيم، يعني الجواب مقدر محذوف، يعني: لرأيت أمرًا هائلاً.

"وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع: أي لو ترى لرأيت أمرا شنيعًا هائلا، ومعنى وقفوا: حبسوا، قاله ابن عطية، ويحتمل أن يريد بذلك إذا دخلوا النار، وإذا عاينوها، وأشرفوا عليها. [بجميع النسخ: أو إذا عاينوها]."

وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بذلك: إذا دخلوا النار، أو إذا عاينوها، فهذان معنيان:

يعني أوقفوا على النار، هل معنى ذلك أنهم دخلوها ؟ أو أنهم عاينوها، فلما رأوها قالوا ذلك، يحتمل أن يريد بذلك إذا دخلوا النار، يعني باعتبار أن على بمعنى في وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: 27] يعني: في النار، هذا إذا دخلوها، أو أنها على بمعنى الباء باعتبارها من حروف الجر، وأنها تتناوب، أن على بمعنى الباء، يعني بقربها، وابن جرير يقول: "حبسوا في النار"[2] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام: 27] في النار، على النار؛ يعني: في النار، يعني: حبسوا في النار.

"قوله: أو إذا عاينوها، وأشرفوا عليها، ووضع إذ موضع إذا لتحقق، وقوع الفعل حتى كأنه ماض."

إذ يكون في الماضي، وإذا في المستقبل، فوضع هذا مكان هذا، لتحقق الوقوع، هو أمر مستقبل، إذ ما قال: إذا وقفوا على النار، باعتبار أنه أمر متحقق، مثل: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] فعبر بالماضي؛ لأنه متحقق الوقوع.

"قوله تعالى: (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ) قرئ برفع نكذبُ، ونكون على الاستئناف، والقطع على التمني."

قراءة (وَلا نُكَذِّبُ)؛ بالرفع هي قراءة، ونكونُ أيضًا، هذه قراءة الجمهور وَلا نُكَذِّبَ [الأنعام: 27] هذه قراءة حمزة، وحفص في الموضعين، وفي الثاني الذي هو نكونَ فقط، هذه عند ابن عامر، صار فيها ثلاثة أوجه في القراءة.

"قوله: والقطع على التمني [في جميع النسخ عن التمني]."

ونكونُ على الاستئناف، والقطع عن التمني، ضعوا عن بدل على، فهنا على قراءة الرفع على هذا الوجه في الإعراب: (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ)؛ الأمنية هي التمني يا لَيْتَنا نُرَدُّ ثم يبدأ كلام مستأنف جديد، مقطوع عن التمني السابق، يعني ليس داخلاً في الأمنية، الأمنية هي الرد يا لَيْتَنا نُرَدُّ ثم أضافوا قالوا: (وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؛ فهو مقطوع عن التمني غير داخل في أمنيتهم، الأمنية فقط الرد يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام: 27] ونحن وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27].

يقول: ومثله سيبويه بقولك: "دعني، ولا أعود" أي: وأنا لا أعود، يعني سواء تركتني، أو لم تتركني، يعني هو، وعد منهم بعدم التكذيب، وبالكون مع المؤمنين، ولهذا كذبهم بقوله: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام: 28] يعني في هذه الدعوى، والإخبار عن أنفسهم، ليكون من قبيل الخبر، وليس التمني؛ لأن الكلام خبر، وإنشاء، والتمني من باب الإنشاء، وليس من باب الخبر، فإنهم يقولون: في التعريف المشهور عن الخبر، وعليه اعتراضات كثيرة.

وبعضهم يذكر في الخبر كما ذكر صاحب شرح مختصر التحرير، نحو اثنى عشر تعريفًا، وذكر عليها الاعتراضات، فالمشهور في تعريف الخبر، أنه من حيث هو، لذاته يعني، وإلا فما يتطرق هذا لكلام الله، ولا لكلام رسوله ﷺ أنه ما يحتمل الصدق، والكذب لذاته، فالتمني لا يحتمل هذا، والأمر لا يحتمل هذا، والنهي لا يحتمل هذا، من قبيل الإنشاء، فيكون قوله هنا: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ)؛ فيكون (وَلا نُكَذِّبُ) كلام مستأنف، يعني هم تمنوا الرد، ثم أخبروا عن أنفسهم على سبيل الوعد بأنهم لن يحصل منهم تكذيب، وأنهم سيكونون مع المؤمنين، هذا وجه هذا الإعراب، فهو قطع عن التمني، يعني غير داخل فيه.

"ومثّله سيبويه بقولك: دعني، ولا أعود، أي: وأنا لا أعود."

ويحتمل أن يكون حالاً تقديره: نرد غير مكذبين، أو عطف على نرد، [وفي جميع النسخ "أو عطفًا"].

قوله هنا: ويحتمل أن يكون حالاً تقديره: نرد غير مكذبين، أو عطف على نرد؛ فيكون عدم التكذيب، والكون مع المؤمنين داخلين في التمني، كالرد، يعني تمنوا الرد، وعدم التكذيب، ويكونون قد تمنوا ثلاثة أشياء.

"وقرئ بالنصب بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني."

النصب، بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني؛ فلا يكون التكذيب على هذا، وكونهم من المؤمنين، داخلين في التمني، والواو بمعنى الفاء، حينئذ تكون أبدلت من الفاء، التقدير: يا ليتنا نرد فلا نكذب، ونكون.. كقوله: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 58] ويحتمل غير هذا، يحتمل أن يكون النصب بإضمار أن بعد الواو التي بمعنى مع، وتكون أن هذه المضمرة مصدرية ينسبك منها، ومن الفعل بعدها مصدر، والواو حرف عطف، فيقدر المعطوف عليه مصدرًا متوهمًا، يعطف هذا المصدر المنسبك من أن، وما بعدها عليه، فيكون التقدير: يا ليتنا نرد، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا، وكون يعني، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا، وكونٌ مع المؤمنين، يعني: يا ليتنا لنا رد مع هذين الشيئين، فصارت الثلاثة أيضًا متمناه على هذا الوجه، لكن مجتمعة، لا أن كل واحدة متمناه على حِدة، يقولون: لأن هذه الواو بهذا الاعتبار شرط إضمار أن بعدها أن تصلح مع في مكانها، مع فيكون هذا مجتمعًا، وهناك وجوه أخرى في الإعراب.

  1. تفسير الطبري (9/207).
  2. المصدر السابق (9/208).