الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا۟ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا۟ لَعَادُوا۟ لِمَا نُهُوا۟ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قال الله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28] أي: بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر، والتكذيب، والمعاندة، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة، كما قال قبله بيسير: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ۝ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:23-24].
ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كقوله مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ الآية [سورة الإسراء:102]، وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14]".

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر معنيين في قوله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28]:
المعنى الأول: أنه ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يخفونه من الكفر، والتكذيب، وحمل إخفاءهم المقصود في الآية على أنه وقع منهم في الدنيا، ويقع منهم في الآخرة أيضاً قبل هذا الظهور.
المعنى الثاني: أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه يعني مما عرفوه في الدنيا، وجحدوه من صدق ما جاء به الرسول ﷺ، وأنهم على باطل، وليسوا على شيء في عبادتهم للأصنام.
والقول الأول عليه مأخذ وهو كيف يقال: إنهم أخفوا الكفر، والتكذيب في الدنيا؛ وهم قد جاهروا به، وحاربوا الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- غاية المحاربة.
وأما القول بأنهم أخفوا ذلك في الآخرة فهذا ممكن باعتبار أن الآخرة على أطوار، وأحوال؛ فهم في بداية الأمر عندما يرون الأهوال، والعذاب الذي سيحل بهم يكذبون، ويجحدون أنهم كانوا مشركين كما قال الله قبله: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23].
والمقصود أنه يمكن حمل إخفائهم الكفر، والتكذيب؛ على أنه في وقت من أوقات الآخرة، وأما حمل ذلك على أنه كان في الدنيا فليس سائغاً لما سبق.
وقال بعضهم: إن قوله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28] أي: من أعمالهم القبيحة كما قال الله : وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [سورة الزمر:47] وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، لكن كيف يقال: إنهم كانوا يخفون أعمالهم القبيحة، وأعظم الأعمال القبيحة ذلك الكفر الذي كانوا يجاهرون به، ويحاربون في سبيله؟
وقال بعضهم: المعنى بدا لهم ما كانوا يخفونه من جزاء الكفر الذي في الآخرة، أي أن في الآية مقدراً محذوفاً هو جزاء، والمعنى بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل، ويرد هذا بأن الأصل عدم التقدير.
وأبعد الأقوال قول من قال: إن المعنى: بل بدا للأتباع ما كان يخفيه عنهم الرؤساء، أي: أن الرؤساء كانوا يعرفون صدق ما جاء به النبي ﷺ، وكذب ما كانوا يدَّعونه من أنه سحر، وكذب، فبدا للأتباع ما كان يخفيه الرؤساء، وهذا القول في غاية البعد؛ لأن فيه تفريقاً للضمائر من غير حاجة، ولا قرينة، ولا دليل.
والخلاصة أن المعنى الثاني هو الأقرب أي أنهم عرفوا حقيقة ما جاء به النبي ﷺ، وصدقه، وأمانته، وردوا ذلك، وكذبوه، واتهموه - عليه الصلاة والسلام -، أو اتهموا الأنبياء عموماً بأنهم سحرة، ومجانين، وكذبة على الله - تبارك وتعالى -؛ فهم كما قال الله : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14] فيوم القيامة يعرفون أو يبدوا لهم هذا الأمر الذي كانوا يخفونه من قبل.
وهذا المعنى نصره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - بقوة، وردَّ على جميع المعاني السابقة، وضعّفها - والله تعالى أعلم -.
"وأما معنى الإضراب في قوله: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28] فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان؛ بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28] أي: في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان.
ثم قال مخبراً عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر، والمخالفة: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28] أي: في قولهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27]".

يعني إنهم بقولهم هذا لم تتحول حالهم إلى صلاح، ومحبة لله، ومحبة للخير وما أشبه ذلك، وإنما أرادوا الخلاص - لمّا رأوا العذاب - بذكر مثل هذا الذي ظنوا أنه يخلصهم، فقالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا [سورة الأنعام:27].
وقد مثَّل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - قولهم هذا بمثال يوضح المراد مما يوافق كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقال: هذا مثله كإنسان كان يحب إنساناً وهو يخفي هذه المحبة، ويعلم أنه لو اطُّلِع على ذلك منه لعوقب أشد العقوبة، يعني كرجل يحب امرأة، ويحاول أن يخفي هذا على الناس؛ لأنه لو اطَّلَع وليُّها على هذا لعاقبه أشد العقوبة، فإذا أُخذ قال: دعني ولا أرجع إلى شيء من ذلك، فهو بهذا يريد الخلاص والنجاة من هذا الموقف، وإلا فإن حبه لها مستقر في قلبه؛ إذ لو تُرك وحصلت له الفرصة فإنه باق على حاله الذي كان عليه؛ لأن ما قبله من حبها لم يتغير إلى بغض، وهكذا من كان يهوى شيئاً فأُخذ به فإنه قد يقول: دعني ولن أعود، ولكن لما كان هذا الأمر مستقراً في نفسه، متجذِّراً فيها، فإنه إذا تُرِك، وحصلت له العافية؛ رجع إلى حالته الأولى، ويكون إنما قال تلك المقولة في ذلك المقام ليعتق نفسه فقط، وكذلك هؤلاء الكفار قد تعمق الكفر في نفوسهم، ولن يرجعوا عنه حتى لو رُدُّوا إلى الدنيا، ولهذا قال - تبارك وتعالى -: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28].

مرات الإستماع: 0

"بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام: 28] المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم، وقبائحهم.

وقيل: هي في أهل الكتاب، أي: بدا لهم ما كانوا يخفون من أمر محمد ﷺ."

قال: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام: 28] المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم، وقبائحهم هذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[1] والآية تخاطب المشركين، وكما ذكرنا بأن السورة مكية، وقيل في أهل الكتاب، لكن الأول أقرب.

"وقيل: هي في المنافقين أي: بدا لهم ما كانوا يخفون من الكفر، وهذان القولان بعيدان، فإن الكلام من أوله ليس في حق المنافقين، ولا أهل الكتاب، وقيل: إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي ﷺ خافوا، وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بها أتباعهم، فظهر لهم ذلك يوم القيامة."

هناك معنى آخر غير هذا، غير الذي ذكره اختاره ابن القيم[2] ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور[3] والسعدي[4] أن المعنى ما زعموه من أنهم لو ردوا إلى الدنيا لآمنوا بدعوى أنه ظهر لهم الآن صدق النبي ﷺ فهذا غير صحيح؛ لأنهم كانوا يعلمون صحة رسالته، ولكنهم كانوا يخفون ذلك في الدنيا ظلمًا، فيوم القيامة لم يظهر لهم جديد، فحصل لهم العلم فيكونون معذورين، بل ظهر لهم ما كان معلومًا لديهم من قبل، لا جديد لكن كانوا يخفونه، فتمنوا العودة ليس رغبةً في الإيمان، لكن لما رأوا العذاب، وإلا هم قد عرفوا الإيمان، ودلائله، وصحة ما جاء به النبي ﷺ

والحافظ ابن كثير يقول: "ظهر لهم ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر، والتكذيب، والمعاندة، وإن أنكروها في الدنيا، أو في الآخرة، وأن معنى الإضراب في قوله: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا [الأنعام: 28] لكونهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبةً، ومحبةً في الإيمان؛ بل خوفًا من العذاب الذي عاينوه؛ فسألوا الرجعة؛ ليتخلصوا مما شاهدوا من النار"[5] وهذا معنى قول ابن القيم - رحمه الله -[6] وهذا وجه حسن.

فهم كانوا يعرفون هذا كما قال الله : فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام: 28] أنهم يعلمون أنه صادق، وأن ما جاء به فهو من عند الله - تبارك، وتعالى - وليست الآية في أهل الكتاب، ولا في المنافقين - والله أعلم - وليس معناها: ما كانوا يخفونه من الخوف، إذا تليت عليهم الآيات.

"قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا [الأنعام: 28] إخبار بأمر لا يكون لو كان كيف كان يكون، وذلك مما انفرد الله بعلمه، قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: 28] يعني في قولهم: وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ولا يصح أن يرجع إلى قولهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ لأن التمني لا يحتمل الصدق، ولا الكذب."

وهذا أيضًا ليس بمسلم؛ لأن هذا التمني لا يحتمل الصدق، ولا الكذب، باعتبار أنه إنشاء؛ وإنما يتعلق الصدق، والكذب بالخبر، بالخبر من هذا الباب، لكن إذا كان هذا الإنشاء، يتضمن خبرًا، أو بمعنى الخبر، أو نحو ذلك ففي هذه الحال يمكن أن يوجه إلى هذا المعنى، ولذلك فإن بعضهم وجهه إلى نحو من هذا، ورد على مثل هذا التعليل، فعلى سبيل المثال مثلاً في قوله هنا: والتمني إنشاء، والإنشاء لا يدخله الصدق، والكذب إلى آخره، فأجيب عن هذا: بأن قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام: 28] ليس متعلقًا بالمتمنى، بل هو محض إخبار من الله - تعالى - بأن ديدنهم الكذب، واجترارهم ذلك، فيكون ذلك حكايةً، وإخبارًا عن حالهم في الدنيا، أن ذلك لا يرجع للتمني، وإنما وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ يعني: من شأنهم الكذب أصلاً، لكن هذا لا يخلو من بعد - والله أعلم - لأن الله يرد عليهم ما قالوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ إلى آخره.

التوجيه الثاني: أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر، والعدة الوعد، فإذا كانت سجية الإنسان شيئًا، ثم تمنى ما يخالف السجية، وما هو بعيد أن يقع منها؛ صح أن يوصف بالكذب على سبيل التجوز، لو قال إنسان: ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك، وأعطيك.. الخ، فهذا متمنًا بمعنى الواعد، هي أمنية ليت الله يرزقني فأعطيك، فهذا يتضمن وعدًا، والوعد خبر، فإذا رزقه الله مالاً، ولم يفعل يكون كاذبًا؛ فيكون تمنيه هذا بمنزلة إن رزقني الله مالاً أعطيتك، فهؤلاء حينما قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ [الأنعام: 27] كأنهم قالوا: إن رددنا لا نكذب، فأكذبهم الله باعتبار أن هذا من قبيل الوعد، يعني أن التكذيب عائد إلا ما تضمنه التمني - والله أعلم - .ومناقشات النحاة لا تنتهي، وما يذكر هنا فهو قليل مما في كتب الإعراب.

  1.  تفسير الطبري (9/211).
  2.  انظر: مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (1/93) وعدة الصابرين، وذخيرة الشاكرين (ص: 185).
  3.  انظر: التحرير، والتنوير (7/185).
  4.  انظر: تفسير السعدي (ص: 254).
  5.  تفسير ابن كثير (3/249).
  6.  عدة الصابرين، وذخيرة الشاكرين (ص: 185).