ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كقوله مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ الآية [سورة الإسراء:102]، وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14]".
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر معنيين في قوله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28]:
المعنى الأول: أنه ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يخفونه من الكفر، والتكذيب، وحمل إخفاءهم المقصود في الآية على أنه وقع منهم في الدنيا، ويقع منهم في الآخرة أيضاً قبل هذا الظهور.
المعنى الثاني: أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه يعني مما عرفوه في الدنيا، وجحدوه من صدق ما جاء به الرسول ﷺ، وأنهم على باطل، وليسوا على شيء في عبادتهم للأصنام.
والقول الأول عليه مأخذ وهو كيف يقال: إنهم أخفوا الكفر، والتكذيب في الدنيا؛ وهم قد جاهروا به، وحاربوا الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- غاية المحاربة.
وأما القول بأنهم أخفوا ذلك في الآخرة فهذا ممكن باعتبار أن الآخرة على أطوار، وأحوال؛ فهم في بداية الأمر عندما يرون الأهوال، والعذاب الذي سيحل بهم يكذبون، ويجحدون أنهم كانوا مشركين كما قال الله قبله: ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23].
والمقصود أنه يمكن حمل إخفائهم الكفر، والتكذيب؛ على أنه في وقت من أوقات الآخرة، وأما حمل ذلك على أنه كان في الدنيا فليس سائغاً لما سبق.
وقال بعضهم: إن قوله تعالى: بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ [سورة الأنعام:28] أي: من أعمالهم القبيحة كما قال الله : وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [سورة الزمر:47] وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، لكن كيف يقال: إنهم كانوا يخفون أعمالهم القبيحة، وأعظم الأعمال القبيحة ذلك الكفر الذي كانوا يجاهرون به، ويحاربون في سبيله؟
وقال بعضهم: المعنى بدا لهم ما كانوا يخفونه من جزاء الكفر الذي في الآخرة، أي أن في الآية مقدراً محذوفاً هو جزاء، والمعنى بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون من قبل، ويرد هذا بأن الأصل عدم التقدير.
وأبعد الأقوال قول من قال: إن المعنى: بل بدا للأتباع ما كان يخفيه عنهم الرؤساء، أي: أن الرؤساء كانوا يعرفون صدق ما جاء به النبي ﷺ، وكذب ما كانوا يدَّعونه من أنه سحر، وكذب، فبدا للأتباع ما كان يخفيه الرؤساء، وهذا القول في غاية البعد؛ لأن فيه تفريقاً للضمائر من غير حاجة، ولا قرينة، ولا دليل.
والخلاصة أن المعنى الثاني هو الأقرب أي أنهم عرفوا حقيقة ما جاء به النبي ﷺ، وصدقه، وأمانته، وردوا ذلك، وكذبوه، واتهموه - عليه الصلاة والسلام -، أو اتهموا الأنبياء عموماً بأنهم سحرة، ومجانين، وكذبة على الله - تبارك وتعالى -؛ فهم كما قال الله : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14] فيوم القيامة يعرفون أو يبدوا لهم هذا الأمر الذي كانوا يخفونه من قبل.
وهذا المعنى نصره الحافظ ابن القيم - رحمه الله - بقوة، وردَّ على جميع المعاني السابقة، وضعّفها - والله تعالى أعلم -.
ثم قال مخبراً عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر، والمخالفة: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28] أي: في قولهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام:27]".
يعني إنهم بقولهم هذا لم تتحول حالهم إلى صلاح، ومحبة لله، ومحبة للخير وما أشبه ذلك، وإنما أرادوا الخلاص - لمّا رأوا العذاب - بذكر مثل هذا الذي ظنوا أنه يخلصهم، فقالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا [سورة الأنعام:27].
وقد مثَّل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - قولهم هذا بمثال يوضح المراد مما يوافق كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقال: هذا مثله كإنسان كان يحب إنساناً وهو يخفي هذه المحبة، ويعلم أنه لو اطُّلِع على ذلك منه لعوقب أشد العقوبة، يعني كرجل يحب امرأة، ويحاول أن يخفي هذا على الناس؛ لأنه لو اطَّلَع وليُّها على هذا لعاقبه أشد العقوبة، فإذا أُخذ قال: دعني ولا أرجع إلى شيء من ذلك، فهو بهذا يريد الخلاص والنجاة من هذا الموقف، وإلا فإن حبه لها مستقر في قلبه؛ إذ لو تُرك وحصلت له الفرصة فإنه باق على حاله الذي كان عليه؛ لأن ما قبله من حبها لم يتغير إلى بغض، وهكذا من كان يهوى شيئاً فأُخذ به فإنه قد يقول: دعني ولن أعود، ولكن لما كان هذا الأمر مستقراً في نفسه، متجذِّراً فيها، فإنه إذا تُرِك، وحصلت له العافية؛ رجع إلى حالته الأولى، ويكون إنما قال تلك المقولة في ذلك المقام ليعتق نفسه فقط، وكذلك هؤلاء الكفار قد تعمق الكفر في نفوسهم، ولن يرجعوا عنه حتى لو رُدُّوا إلى الدنيا، ولهذا قال - تبارك وتعالى -: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28].