"إن" في قوله تعالى: وَقَالُواْ إِنْ هِيَ بمعنى "ما" النافية أي ما هي إلا حياتنا الدنيا، وهذه الآية تابعة لما قبلها فهي ليست جملة جديدة، والمعنى أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، ولقالوا ما كانوا يقولون من قبل: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، مع أنهم قد عاينوا حقائق الآخرة، وهذا غاية الكفر، والإعراض، والجحود، والانغماس في هذا الوحل، وهذا من أعجب الأشياء - نسأل الله العافية -، وإلا كيف يرى حقائق الآخرة أمام عينه وإذا رجع - لو رُدَّ - لقال: إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [سورة الأنعام:29].
هذا المعنى عليه عامة المفسرين، بل لا تكاد تجد من يخالف فيه، وهو معنى يفسر كيف أن من أراد الله خذلانه فإنه لو رأى الآيات التي يؤمن بها الجماد ما آمن، والله المستعان.
إنك تستغرب يوم ترى بعضهم يشاهد آية من آيات الله منذرة بعذابه؛ فيستهزئون بها بدلاً من اللجوء إلى الله - تبارك وتعالى - لكشف الضر، والتوبة مما وقع منهم من الشرك ونحوه من الذنوب.
وقد حكى الله تعالى عن قوم هود كيف كان جوابهم وهم يرون عذاب الله نازلاً بهم فقال تعالى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الأحقاف:21] إلى أن قال سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا فرد عليهم: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأحقاف:24-25].
ومن العجائب أن يقوم الناس بأداء صلاة الاستسقاء طلباً لرحمة الله تعالى بإنزال الغيث، فينزل المطر، فإذا بالصحفيين يكتبون في الصحف: هؤلاء درسوا الأحوال الجوية، وعلموا أنه يوجد منخفض جوي، فوقَّتوا للاستسقاء، وضحكوا على الناس، وقالوا: نزل المطر يوم استسقينا!!
والأعجب من ذلك أنه حدث زلزال في بعض البلاد بعد كسوف الشمس بأيام فيقول بعضهم: دخلنا المسجد وليس فيه أحد، والناس في الساحات الضخمة حول المسجد حيث خرجوا في ليلهم شبه عراة، ثم أذَّن المؤذن - كأنه لصلاة الفجر - يقول: ولم يصلِّ إلا أنا، وصاحبي، والمؤذن، والإمام، فالزلزال دمرهم تدميراً، وهم ممن ينتسبون إلى الإسلام، ومع ذلك ما قالوا: هذه آية ينبغي أن تكون لنا عبرة فنرجع إلى الله، بل عوقب من خطب أو تكلم فقال: هذه عقوبة من الله؛ أي أنهم أنكر عليهم كيف يسمون ذلك عقوبة؟!
وهكذا لو فتشت عن يمينك، وشمالك، ومن حولك من البلاد التي أنزل الله عليهم بأسه في ليلة فإنك تجدهم رجعوا إلى أسوأ مما كانوا عليه بعد أن كنَّا نظن أنهم سيتوبون، ويرجعون إلى الله مما جرى، فنسأل الله العافية.
إنك إذا رأيت هذه الآيات التي يرسلها الله على عباده من الفيضانات، والتدمير ونحوها فإنك تقول: إن هؤلاء الذين نجوا قد رأوا الموت بأم أعينهم، ونجاهم الله، وأحياهم حياة جديدة، وسيكونون من العباد الذين لا يخرجون من المساجد؛ لكن الواقع أنك تراهم أشد مما كانوا عليه من الضلال - إلا من رحم الله - ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس والقلوب الميتة لو قيل لأحدهم: إنك ستموت غداً لما كان عنده من مزيد خير وطاعة، فالله المستعان.