يقول تعالى مخبراً عن خسارة من كذب بلقائه، وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة، وعن ندامته على ما فرط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعل، ولهذا قال: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31]".
قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] الخسارة تكون في البيع، والشراء، وأعظم ما تكون الخسارة هي في خسارة الإنسان لحظِّه، ونصيبه عند الله - تبارك وتعالى -، هذا أعظم الخسار وهو أعظم الغبن، ولهذا سمى الله يوم القيامة بيوم التغابن لما يحصل فيه من الغبن العظيم؛ لأن الله قد أعطى كل إنسان رأس مال في هذه الحياة الدنيا وهي هذه الأنفاس، وهي متقضية لا محالة، فمن الناس من سعى، وجدّ، واجتهد، وقضاها من أجل أن يحجز مقعداً في النار، ومنهم من جدّ، واجتهد، واستغلها من أجل أن يشتري مقعداً في الجنة، فإذا جاء يوم القيامة دخل هؤلاء الجنة، ودخل هؤلاء النار التي وطَّئوها لأنفسهم، وعملوا من أجل دخولها، وقضوا فيها الأعمار، من أجل الوصول إليها - نسأل الله العافية -، وعندئذ يتوارث أهل الجنة مقاعد ومنازل أهل النار من الجنة، وأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة التي في النار؛ لأنه كما في الحديث لكل إنسان مقعد في الجنة، ومقعد في النار، فهذا في غاية الغبن؛ لأنها صفقة خاسرة بعد أن أنفق أموالاً، وجهوداً، وأوقاتاً، وأعمالاً في هذه الحياة الدنيا، فهو قضى سبعين سنة أو أكثر أو أقل من أجل أن يشتري منزلاً في النار، ولذلك كان هذا اليوم يوم التغابن.
يقول تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] "قد" في الآية للتحقيق، ولهذا يقول: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27]، والمراد بلقاء الله في الآية هي القيامة.
قوله: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [سورة الأنعام:31] من أهل العلم من يقول: إن الساعة سميت بهذا الاسم لسرعة الحساب فيها، ومنهم من يقول: سميت بالساعة لسرعة قيامها، فهي تقوم لحظة كما ورد في الحديث: لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها[1] ولهذا قال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورة الحـج:1-2].
وقيل: إنها سميت ساعة؛ لأنها الساعة العظيمة فصار ذلك علماًَ عليها.
يقول تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31] يعني نادوا: يا حسرتنا احضري، والحسرة هي الندم الشديد، فغاية الندم يقال له: حسرة.
ذكر - رحمه الله - بشأن الضمير في قوله تعالى عن الخاسرين: عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31] ثلاثة أقوال، وجعلها احتمالات؛ لأن الآية تحتملها فقال: "وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة الدنيا، وعلى الأعمال، وعلى الدار الآخرة، أي في أمرها" فعلى عود الضمير إلى الحياة الدنيا يكون المعنى يا حسرتنا على ما ضيعنا في الحياة الدنيا حتى صرنا إلى هذه الحال، وعلى عوده إلى الأعمال يكون المعنى يا حسرتنا على ما فرطنا في الأعمال، وعلى عوده إلى الدار الآخرة يكون المعنى يا حسرتنا على ما فرطنا في الآخرة.
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا الخلاف هو من قبيل اختلاف التنوع فلا حاجة للترجيح بين هذه الأقوال؛ لأن التفريط وقع منهم في الدنيا، وكان هذا التفريط في حقيقته هو تضييع للعمل الصالح، ومقارفة العمل السيئ، وهذا التفريط كائن، وواقع في عمل الآخرة.
وقال بعضهم ككبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: إن الضمير يعود إلى الصفقة، ويدل على ذلك أنه ذكر الخسارة قبلُ بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] فهي صفقة حصل فيها خسارة، فيقولون: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها أي: في هذه الصفقة التي صارت خاسرة.
وهذا أيضاً تحتمله الآية فلا حاجة للترجيح أيضاً؛ لأن من فرط في العمل فرط في الحياة الدنيا، وفرط في عمل الآخرة؛ فصفقته خاسرة، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ يعني ألا ساء ما يحملون؛ فالأوزار جمع وِزر وهو الحمل، فيقال للرجل إذا بسط ثوبه، ووضع فيه المتاع: احمل وزرك؛ يعني حملك، ومنه الوزير؛ لأنه يتحمل أعباء المهام التي توكل إليه، والمقصود بالأوزار في الآية الأثقال التي يحملونها من الذنوب، ويشبه هذه الآية قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة العنكبوت:13].
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب خروج النار (6704) (ج 6 / ص 2605).