الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا۟ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا۟ يَٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ۝ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [سورة الأنعام:31-32].
يقول تعالى مخبراً عن خسارة من كذب بلقائه، وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة، وعن ندامته على ما فرط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعل، ولهذا قال: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31]".

قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] الخسارة تكون في البيع، والشراء، وأعظم ما تكون الخسارة هي في خسارة الإنسان لحظِّه، ونصيبه عند الله - تبارك وتعالى -، هذا أعظم الخسار وهو أعظم الغبن، ولهذا سمى الله يوم القيامة بيوم التغابن لما يحصل فيه من الغبن العظيم؛ لأن الله قد أعطى كل إنسان رأس مال في هذه الحياة الدنيا وهي هذه الأنفاس، وهي متقضية لا محالة، فمن الناس من سعى، وجدّ، واجتهد، وقضاها من أجل أن يحجز مقعداً في النار، ومنهم من جدّ، واجتهد، واستغلها من أجل أن يشتري مقعداً في الجنة، فإذا جاء يوم القيامة دخل هؤلاء الجنة، ودخل هؤلاء النار التي وطَّئوها لأنفسهم، وعملوا من أجل دخولها، وقضوا فيها الأعمار، من أجل الوصول إليها - نسأل الله العافية -، وعندئذ يتوارث أهل الجنة مقاعد ومنازل أهل النار من الجنة، وأهل النار يتوارثون منازل أهل الجنة التي في النار؛ لأنه كما في الحديث لكل إنسان مقعد في الجنة، ومقعد في النار، فهذا في غاية الغبن؛ لأنها صفقة خاسرة بعد أن أنفق أموالاً، وجهوداً، وأوقاتاً، وأعمالاً في هذه الحياة الدنيا، فهو قضى سبعين سنة أو أكثر أو أقل من أجل أن يشتري منزلاً في النار، ولذلك كان هذا اليوم يوم التغابن.
يقول تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] "قد" في الآية للتحقيق، ولهذا يقول: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:27]، والمراد بلقاء الله في الآية هي القيامة.
قوله: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [سورة الأنعام:31] من أهل العلم من يقول: إن الساعة سميت بهذا الاسم لسرعة الحساب فيها، ومنهم من يقول: سميت بالساعة لسرعة قيامها، فهي تقوم لحظة كما ورد في الحديث: لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها[1] ولهذا قال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [سورة الحـج:1-2].
وقيل: إنها سميت ساعة؛ لأنها الساعة العظيمة فصار ذلك علماًَ عليها.
يقول تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31] يعني نادوا: يا حسرتنا احضري، والحسرة هي الندم الشديد، فغاية الندم يقال له: حسرة.
"عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31] وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة الدنيا، وعلى الأعمال، وعلى الدار الآخرة، أي في أمرها".

ذكر - رحمه الله - بشأن الضمير في قوله تعالى عن الخاسرين: عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [سورة الأنعام:31] ثلاثة أقوال، وجعلها احتمالات؛ لأن الآية تحتملها فقال: "وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة الدنيا، وعلى الأعمال، وعلى الدار الآخرة، أي في أمرها" فعلى عود الضمير إلى الحياة الدنيا يكون المعنى يا حسرتنا على ما ضيعنا في الحياة الدنيا حتى صرنا إلى هذه الحال، وعلى عوده إلى الأعمال يكون المعنى يا حسرتنا على ما فرطنا في الأعمال، وعلى عوده إلى الدار الآخرة يكون المعنى يا حسرتنا على ما فرطنا في الآخرة.
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن هذا الخلاف هو من قبيل اختلاف التنوع فلا حاجة للترجيح بين هذه الأقوال؛ لأن التفريط وقع منهم في الدنيا، وكان هذا التفريط في حقيقته هو تضييع للعمل الصالح، ومقارفة العمل السيئ، وهذا التفريط كائن، وواقع في عمل الآخرة.
وقال بعضهم ككبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: إن الضمير يعود إلى الصفقة، ويدل على ذلك أنه ذكر الخسارة قبلُ بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ [سورة الأنعام:31] فهي صفقة حصل فيها خسارة، فيقولون: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها أي: في هذه الصفقة التي صارت خاسرة.
وهذا أيضاً تحتمله الآية فلا حاجة للترجيح أيضاً؛ لأن من فرط في العمل فرط في الحياة الدنيا، وفرط في عمل الآخرة؛ فصفقته خاسرة، والله تعالى أعلم.
"وقوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [سورة الأنعام:31]: أي: يحملون".

قوله تعالى: أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ يعني ألا ساء ما يحملون؛ فالأوزار جمع وِزر وهو الحمل، فيقال للرجل إذا بسط ثوبه، ووضع فيه المتاع: احمل وزرك؛ يعني حملك، ومنه الوزير؛ لأنه يتحمل أعباء المهام التي توكل إليه، والمقصود بالأوزار في الآية الأثقال التي يحملونها من الذنوب، ويشبه هذه الآية قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة العنكبوت:13].
"وقال أسباط عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الريح، وعليه ثياب دنسه، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك؟ قال: كذلك كان عملك قبيحاً، قال: ما أنتن ريحك؟ قال: كذلك كان عملك منتناً؟ قال: ما أدنس ثيابك؟ قال: فيقول: إن عملك كان دنساً، قال له: من أنت؟ قال: عملك، قال: فيكون عمله في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات، والشهوات، وأنت اليوم تحملني، قال: فيركب على ظهره، فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [سورة الأنعام:31]".
  1. أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب خروج النار (6704) (ج 6 / ص 2605).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها [الأنعام: 31] الضمير فيها [هنا كلمة في جميع النسخ سقطت هي "في" الضمير في فيها]."

لا بأس، الضمير "في فيها".

"للحياة الدنيا لأن المعنى يقتضي ذلك، وإن لم يجر لها ذكر."

يكون مثل: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] يرجع إلى القرآن، ولم يجرِ له ذكر، فذلك معلوم من السياق يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام: 31] يعني تركنا، وأغفلنا، وضيعنا، وهم يتحسرون، يقولون: يا ندامتنا على ما فاتنا، فالحسرة هي الندم الشديد.

"وقيل: الساعة [وفي جميع النسخ للساعة]."

وقيل: الساعة على ما فرطنا فيها، أي: الساعة في شأنها، والاستعداد لها.

" أي: فرطنا في شأنها، والاستعداد لها، والأول أظهر."

وهذا القول بأنه الساعة يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام: 31] أي: الساعة، هذا اختاره ابن جرير[1] أو بمعنى آخر، وهو يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا أي: الصفقة التي دل عليها الخسران، وهذا كله يلتئم منه - والله أعلم - معنى فرطوا في الصفقة يعني بترك العمل في الدنيا، والاستعداد للآخرة يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا - والله أعلم -.

"قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ [الأنعام: 31] كناية عن تحمل الذنوب، وقال: على ظهورهم، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، وقيل: إنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة، وروي في ذلك أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتصوّر له في أحسن صورة."

وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فالأوزار هي الأحمال الثقيلة، ويقال: الرجل إذا بسط ثوبه، فجعل فيه المتاع، احمل، وزرك، يعني: ثقلك، ويقولون: منه الوزير، وهذا مضى في الغريب، الوزير: قالوا: لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية، يتحمل الأعباء، والأثقال، وهنا ما ذكره من أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، والمؤمن يركب عمله.. الخ، هذا جاء في روايات، ولكنها مراسيل، جاء عن السدي، وعمرو بن القيس الملائي، عند أبي حاتم عن عمرو بن قيس[2] ولا يصح إسناده أصلاً.

وعند ابن جرير عن السدي إسناده إلى السدي[3] لا بأس به لكن هو مرسل، في سياق هذا حاصله، يعني ابن جزي - رحمه الله - يذكر المعنى، وحاصل الروايات في الغالب، فهو ذكر حاصل الرواية هنا، وهي لا تصح من أن الكافر يرى عمله بصورة في غاية القبح فينفر من ذلك، ويسأل، يقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك، كنت تركبني في الدنيا، وأنا أركبك اليوم، وأن المؤمن يرى عمله بأحسن صورة، يقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك كنت أركبك في الدنيا، وأنت تركبني اليوم، لكن الرواية لا تصح.

"قوله تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [الأنعام: 31] إخبار عن سوء ما يفعلون من الأوزار."

ساء: يعني قبح ما يزرون.

  1. تفسير الطبري (9/214).
  2. تفسير ابن أبي حاتم (4/1281).
  3. تفسير الطبري (9/217).