هذا الأثر عن السدي لا يقال من جهة الرأي لكن له حكم المرسل، وقد ثبت عن النبي ﷺ ما يدل على هذه المعنى في أصله أي أن عمل الإنسان يصور له إما بأحسن صورة، أو بأسوأ صورة كما في حديث البراء الطويل[1].
يقول تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ [سورة الأنعام:32]: أقوى صيغة من صيغ الحصر هي النفي والاستثناء، فهنا جاء بأسلوب الحصر فقال: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ [سورة الأنعام:32] فهذا أبلغ تصوير لحقيقتها، وما يتنافس عليه الناس فيها من الحطام، والاستكثار من أحجار الذهب، والفضة، وكأنهم خلقوا لذلك حيث يتنافسون في البنيان، ويتنافسون في الحطام، وفي المراكب وما إلى ذلك، ثم لا يمر على ذلك وقت قريب إلا ويتقادم به العهد، وتزهد به نفوسهم، وتتطلب غيره، وهكذا يجرون خلفها حتى يصبّحهم الموت أو يمسِّيهم، ثم بعد ذلك يعرفون أنهم قد ضيعوا الأيام في البحث عن أمور يستكثرون منها استكثاراً لم يأمرهم الله به.
في قوله تعالى: إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ [سورة الأنعام:32] من يقول بوجود الترادف يقول: اللهو، واللعب بمعنى واحد، ومن يمنعون من الترادف حاولوا أن يوجدوا فرقاً بين اللهو، وبين اللعب، وذكروا في هذا أشياء قد لا تخلو من مناقشة، وهذا من الأمثلة التي قد يصعب بيان وجه الفرق بين اللفظتين فيها، يعني إنه توجد أشياء تتشابه في الألفاظ، وتتشابه معاينها، أو تتقارب مما يقال عنها إنها مترادفات، ويظهر وجه الفرق بينها مثل: أقبل وجاء، حيث تقول: أقبل أي بوجهه، وجاء بمعنى حضر، وتقول: الإنسان والبشر، فالأول باعتبار طبيعته، وما قيل في ذلك بأنه من الأنس أو نحو ذلك، والبشر باعتبار أن بشرته بادية ظاهرة وهكذا، لكن ما الفرق بين اللهو، واللعب؟
الفرق بين اللهو واللعب:
بعضهم يقول: اللهو كل شيء شغلك، وألهاك، ويرد على هذا اعتراض فيقال: ألهاه يلهيه لكن لها يلهو كأن المادة أخرى غير مادة ما ذكر.
وبعضهم يقول: اللهو أصله من الصرف عن الشيء، ولهذا قال من قال: اللهو هو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف الهم فيه، واللعب هو طلب الفرح بما لا يحسن طلبه فيه، باعتبار أن اللعب فيه شيء من الفرح، لكن يقال: هذا ليس بلازم؛ لأن اللهو قد يكون فيه فرح أيضاً.
ومنهم من يقول - كأبي هلال العسكري -: إن اللهو أعم من اللعب باعتبار أن اللعب قد يكون حقاً كملاعبة الرجل لأهله، وملاعبته لولده، وأما اللهو فإن أكثره باطل، ولهذا قال النبي ﷺ: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثاً: رمية عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق[2] فهذا اللعب استثني من اللهو الباطل وإلا فهو من جملة اللهو، فاللهو يشمل اللعب سواء كان بحق أو بباطل، وهو أعم من اللعب، فهو قد يكون لعباً، وقد يكون بغير اللعب.
وبعضهم يقول: اللهو هو الاستمتاع بلذات الحياة الدنيا، واللعب هو العبث، وبعضهم يقول: اللهو هو الميل من الجد إلى الهزل، واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع، وبعضهم يقول: اللهو هو الإعراض عن الحق، واللعب هو الإقبال على الباطل.
وابن القيم - رحمه الله - فرَّق بينهما بفرق وهو أن اللهو يكون في القلب، تقول: قلبه في لهو، أو لاهٍ ساهٍ، واللعب يكون بالجوارح، ويكون متسبباً عن لهو القلب.
- أخرجه أحمد (18557) (ج 4 / ص 287) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح.
- أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد - باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله (1637) (ج 4 / ص 174) وأحمد (17375) (ج 4 / ص 148) وقال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن بطرقه وشواهده.