يقول تعالى مسلياً لنبيه ﷺ في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ أي: قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك، وحزنك، وتأسفك عليهم، كقوله: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8] كما قال تعالى في الآية الأخرى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:3] فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6]".
يقول تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33] "قد" إذا دخلت على الفعل المضارع فإن الغالب أنها للتقليل، كما يقولون: قد يجود البخيل، وقد يكبو الجواد فهذا للتقليل.
وإذا دخلت في فعل يتعلق بالله كقوله تعالى هنا: قَدْ نَعْلَمُ وكقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64] وكقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] فليس المراد بها التقليل فهذا لا يمكن أبداً؛ لأن علم الله متحقق ثابت، فعلمه أحاط بكل شيء، ولذلك يكون المعنى أن "قد" إذا دخلت على الفعل المضارع المنسوب إلى الله فهي للتحقيق دائماً، فالقاعدة هي أنك إذا رأيت "قد" دخلت على فعل مضارع مضاف إلى الله فهي للتحقيق، فقوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33] أي: قد علمنا، وقوله: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64] أي: قد علم، وقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] أي: قد علم.
يقول تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33]: الحزن هو التأسف على أمر فائت، وأما الخوف فهو الاغتمام من أمر مستقبل، وهذا هو الفرق بين الحزن والخوف، وقد يستعمل الحزن بمعنى الخوف قليلاً.
يقول تعالى: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ هذه قراءة بالتشديد، وهناك قراءة أخرى بالتخفيف لا يُكْذِبُونَك وهي متواترة أيضاً.
وعلى القراءة الأولى فسرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بقوله: "أي: لا يتهمونك بالكذب" أي: لا ينسبونك إلى الكذب، كما تقول: كذّبته إذا نسبته للكذب، أو أخبرت بأنه جاء بالكذب، أو إذا قلت له: كذَبت، فيكون بهذا مكذَّباً، وتكون قد كذّبته.
لكن على قراءة لا يُكْذِبُونَك هي كما تقول: أكذبتُه أي: وجدتُه كاذباً، لا يُكْذِبُونَك أي: لا يجدونك كاذباً، وبعضهم يقول: أكذبته أي أخبرت أنه كاذب، أو أن ما جاء به كذب، لكن المقصود أنهم يعرفون أنك صادق لا تكذب، وهم لا ينسبونك إلى الكذب، ولكنهم يجحدون هذا الذي جئت به لأمر في نفوسهم كما قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ [سورة النمل:14] كما جاء عن أبي جهل عند أصحاب السير أنه ذكر المنافسة بينهم وبين عبد مناف وقال: "أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا؛ حتى إذا جثونا معهم على الركب، وتساوينا - يعني في المكارم - قالوا: منا نبي، فمن أين نأتي بهذه؟ فو الله لا نؤمن به أبداً"، فهذا يبين أنهم لا يكذبونه - عليه الصلاة والسلام -، بل يعرفون أنه صادق؛ لكنهم يجحدون هذا مكابرة لغلبة أهوائهم.
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة! والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان؛ قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس، وتركه".