الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ۝ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ۝ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [سورة الأنعام:33-36].
يقول تعالى مسلياً لنبيه ﷺ في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ أي: قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك، وحزنك، وتأسفك عليهم، كقوله: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8] كما قال تعالى في الآية الأخرى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:3] فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6]".

يقول تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33] "قد" إذا دخلت على الفعل المضارع فإن الغالب أنها للتقليل، كما يقولون: قد يجود البخيل، وقد يكبو الجواد فهذا للتقليل.
وإذا دخلت في فعل يتعلق بالله كقوله تعالى هنا: قَدْ نَعْلَمُ وكقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64] وكقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] فليس المراد بها التقليل فهذا لا يمكن أبداً؛ لأن علم الله متحقق ثابت، فعلمه أحاط بكل شيء، ولذلك يكون المعنى أن "قد" إذا دخلت على الفعل المضارع المنسوب إلى الله فهي للتحقيق دائماً، فالقاعدة هي أنك إذا رأيت "قد" دخلت على فعل مضارع مضاف إلى الله فهي للتحقيق، فقوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33] أي: قد علمنا، وقوله: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64] أي: قد علم، وقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ [سورة الأحزاب:18] أي: قد علم.
يقول تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ [سورة الأنعام:33]: الحزن هو التأسف على أمر فائت، وأما الخوف فهو الاغتمام من أمر مستقبل، وهذا هو الفرق بين الحزن والخوف، وقد يستعمل الحزن بمعنى الخوف قليلاً.
"وقوله: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ [سورة الأنعام:33] أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ [سورة الأنعام:33] أي: ولكنهم يعاندون الحق، ويدفعونه بصدورهم".

يقول تعالى: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ هذه قراءة بالتشديد، وهناك قراءة أخرى بالتخفيف لا يُكْذِبُونَك وهي متواترة أيضاً.
وعلى القراءة الأولى فسرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بقوله: "أي: لا يتهمونك بالكذب" أي: لا ينسبونك إلى الكذب، كما تقول: كذّبته إذا نسبته للكذب، أو أخبرت بأنه جاء بالكذب، أو إذا قلت له: كذَبت، فيكون بهذا مكذَّباً، وتكون قد كذّبته.
لكن على قراءة لا يُكْذِبُونَك هي كما تقول: أكذبتُه أي: وجدتُه كاذباً، لا يُكْذِبُونَك أي: لا يجدونك كاذباً، وبعضهم يقول: أكذبته أي أخبرت أنه كاذب، أو أن ما جاء به كذب، لكن المقصود أنهم يعرفون أنك صادق لا تكذب، وهم لا ينسبونك إلى الكذب، ولكنهم يجحدون هذا الذي جئت به لأمر في نفوسهم كما قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ [سورة النمل:14] كما جاء عن أبي جهل عند أصحاب السير أنه ذكر المنافسة بينهم وبين عبد مناف وقال: "أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا؛ حتى إذا جثونا معهم على الركب، وتساوينا - يعني في المكارم - قالوا: منا نبي، فمن أين نأتي بهذه؟ فو الله لا نؤمن به أبداً"، فهذا يبين أنهم لا يكذبونه - عليه الصلاة والسلام -، بل يعرفون أنه صادق؛ لكنهم يجحدون هذا مكابرة لغلبة أهوائهم.
"وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي ﷺ من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب، والأخنس بن شريق، ولا يشعر أحد منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هجم الصبح تفرقوا فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك، فذكر له ما جاء به، ثم تعاهدوا ألا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم؛ لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظناً أن صاحبيه لا يجيئان، لما سبق من العهود؛ فلما أصبحوا جمعتهم الطريق، فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضاً فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة! والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان؛ قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس، وتركه".

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام: 33] قرأ نافع يُحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن، إلا قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103]."

يعني في هذا الموضع فقط عند نافع، لا يَحزنُهم، وإلا الباقي يُحزِنهم في قراءة نافع.

"وقرأ الباقون بفتح الياء من حزُن."

فتح الياء، وضم الزاي، فتح الياء من حزُن الثلاثي.

الثلاثي، وهو أشهر في اللغة، والذي يقولون: قولهم إنه ساحر، شاعر، كاهن.

هذا الذي يقولون، فإذًا على قراءة نافع، يُحزنك هذا المتعدي الرباعي، أحزن يُحزن، وتقول: حزن يَحزن.

"قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] من قرأ بالتشديد فالمعنى: لا يكذبونك معتقدين لكذبك، وإنما هم يجحدون بالحق مع علمهم به، [في جميع النسخ يجحدون الحق]."

وإنما يجحدون بالحق، يصح هذا، ويصح هذا، وفي المطبوع الحق، ولا إشكال فيه، يجحدون الحق، مع علمهم به فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ فهذه قراءة الجمهور، (فَإِنَّهُمْ لا يُكْذِبُونَكَ)؛ هذه قراءة نافع، والكسائي.

ومن قرأ بالتخفيف، فقيل: معناه لا يجدونك كاذبا، يقال: أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا، كما يقال: أحمدته إذا وجدته محمودًا، وقيل: هو بمعنى التشديد، يقال: كذب فلان فلانًا، وأكذبه بمعنًى واحد، أو كذَّب فلان فلانًا، وأكذبه، وهو الأظهر؛ لقوله بعد هذا يجحدون، ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل؛ فإنه قال لرسول الله ﷺ: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به[1] وأنه قال للأخنس بن شريق: والله إن محمدًا لصادقٌ، ولكني أحسده على الشرف[2]."

الأولى: ما روي أنها نزلت في أبي جهل فإنه قال للنبي ﷺ: فإنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به في الرواية فأنزل الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ[3] فأنزل الله، لكن هذه الرواية لا تصح، هي عند الترمذي، ورجح إرساله عن سفيان الثوري[4] وضعفها الجماعة من أهل العلم، وضعف الألباني الموصول، والمرسل[5].

وجاء نحو هذا أيضًا عن علي عند الحاكم في المستدرك[6] ولكنه أيضًا ضعيف، فهذا لا يصح في سبب النزول، وكذلك في ما قاله هنا، قال للأخنس، هذه رواية أخرى: والله إن محمدًا لصادق، ولكني أحسده على الشرف؛ هذا مرسل أيضًا عن السدي[7] فلا يصح في سبب النزول شيء - والله أعلم - .

"قوله تعالى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ أي: ولكنهم، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم."

يعني: ما قال: فإنهم لا يكذبونك، ولكنهم بآيات الله يجحدون، يصح هنا وضع الضمير اختصارًا، ولكنه أظهر في موضع يصح فيه الإضمار، قال: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ لإبراز هذا الوصف، وصف هؤلاء بالظلم.

  1.  أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب، ومن سورة الأنعام، برقم (3064) والحاكم في المستدرك، برقم (3230) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" وضعف إسناده الألباني في ضعيف الترمذي، برقم (3271).
  2.  انظر: تفسير الطبري (9/222) وتفسير ابن كثير (3/252).
  3.  أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب، ومن سورة الأنعام، برقم (3064) والحاكم في المستدرك، برقم (3230) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" وضعف إسناده الألباني في ضعيف الترمذي، برقم (3271).
  4.  الرواية المتقدمة.
  5.  ضعيف الترمذي، برقم (3271) و(3272).
  6.  أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (3230) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
  7.  انظر: تفسير الطبري (9/222) وتفسير ابن كثير (3/252).