الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
وَقَالُوا۟ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ ۚ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ۝ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام:37-39].
يقول تعالى مخبراً عن المشركين أنهم كانوا يقولون: لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ أي: خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون كقولهم: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا الآيات [سورة الإسراء:90].
قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:37] أي: هو تعالى قادر على ذلك، ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك؛ لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا، ثم لم يؤمنوا؛ لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة، كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [سورة الإسراء:59] وقال تعالى: إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [سورة الشعراء:4]".

فقوله - تبارك وتعالى - عن قولهم: وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ [سورة الأنعام:37] أي: أنهم اقترحوا أن ينزل عليه آية تلجئهم إلى الإيمان إلجاءً كما فعل الله لبني إسرائيل حينما رفع فوقهم الجبل فصار فوقهم كأنه ظله، وأمرهم بأن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة، وهكذا ما وقع من الآيات العظام التي تلجئ من رآها إلى الإيمان إن كان كتب الله له الإيمان في سابق علمه، وأما إذا حصل منه التكذيب بعد ذلك فإنها تأتي العقوبات المستأصلة كما وقع للأمم السابقة كقوم صالح حينما اقترحوا آية فأخرج الله لهم الناقة مبصرة، كما قال تعالى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:59] أي: إنها آية مبصرة - وليس المعنى إنها ناقة مبصرة - فظلموا بها، فأهلكهم الله - تبارك وتعالى - وهكذا كان حال سائر الأمم.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً [سورة الأنعام:37] أي كما اقترحوا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:37] أي: ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه قادر، أو ولكن أكثرهم لا يعلمون ما عليهم من التبعة، والبلاء إذا نزلت الآيات ولم يؤمنوا بها، وهذا المعنى الأخير هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، فالله قادر على تنزيل الآيات، ولكن هؤلاء المقترحين لا يعلمون تبعة هذا الأمر حيث إذا أنزل عليهم آية كما اقترحوا ولم يؤمنوا بها نزل بهم العذاب المستأصل.
ومن حكمة الله أيضاً أنه يرسل الرسل، ويري الناس من آيات، ودلائل صدقهم ما تقوم عليهم به الحجة، وأما الآيات الملجئة فإنها إن ظهرت للناس فإن حكمة الابتلاء قد تكون منتفية، فالله - تبارك وتعالى - لم يقدّر ذلك في بعث نبيه محمد ﷺ، وله في ذلك حكمة بالغة، فهو لم يقدر إهلاك هذه الأمة بالعذاب المستأصل كما كان الحال مع الأمم السابقة، ولذلك كانت هذه الأمة باقية، ورسالتها هي الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة، والله تعالى أعلم.

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام: 37] الضمير في "وقالوا" للكفار، ولولا عرض."

عرض، يعني بمعنى هلا.

"والمعنى: أنهم طلبوا أن يأتي النبي ﷺ بآية على نبوّته، فإن قيل: فقد أتى بآيات، ومعجزات كثيرة، فلم طلبوا آية؟ فالجواب من وجهين:

أحدهما: أنهم لم يعتدوا بما أتى به، فكأنه لم يأت بشيء عندهم لعنادهم، وجحدهم.

والآخر: أنهم إنما طلبوا آية تضطر إلى الإيمان من غير نظر، ولا تفكر."

هنا عندنا تضطرهم، أحسن تضطرهم إلى الإيمان، أحسن هذا أوضح، تضطرهم إلى الإيمان كما عندنا، تضطرهم إلى الإيمان، مع أن تضطر إلى الإيمان يصح، لكن هذا أوضح تضطرهم إلى الإيمان.

"فإن قيل: فقد أتى بآيات، ومعجزات."

مكتوب عندنا بآيات، أنا سأقرأ في النسخة القديمة إلى نهاية سورة الأنعام، ثم سأقرأ في النسخة الجديدة إن شاء الله، لكن لن نستمر على الوقوف بهذه الطريقة، نملي عليكم ما قاله مما يفارق هذه النسخة القديمة، فانتبهوا أنتم للفروقات، وعدلوا بناءً عليها.

"قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الأنعام: 37] جواب على قولهم، وقد حكي هذا القول عنهم في مواضع من القرآن، وجوبوا عليه بأجوبة مختلفة."

وفي الطبعة، وأجيب، هو يقول: وجوبوا، لكن هل هذا يصح في اللغة؟ جوب.

القارئ: ليس بالتشديد؛ إنما بالمد بعده، واو مكسورة، جوبوا.

الشيخ: جوبوا! يعني أجاب متعدية، وجاب، وجوب، جاب بمعنى جاب المكان، أو الأرض، أو نحو ذلك، بمعنى أنه سار فيها، أو نحو ذلك، فجوبوا من جاب البناء لما لم يسم فاعله، غير أجاب.

القارئ: لو قيل: جوب، بني على ما لم يسم فاعله جوب.

الشيخ: لكن الآن جوب، هل هي بمعنى أجاب؟ المادة أخرى، المادة تختلف؛ ولهذا في النسخة الأخرى هذه الطبعة العصرية، أجيب، لكن هذا على كل حال يحتاج مراجعة لجزر الكلمة المادة، وهل يأتي منها في الجواب عن الطلب، أو السؤال يقال: جوب؟ يحتاج مراجعة، تراجع أصل المادة، مادتين: شوف أجاب، وشوف جاب تحقق منها.

على كل حال فيما يتعلق بالأول، نعم أجاب عنه بجوابين: يعني أن الله قد أظهر على يد النبي ﷺ آيات، فلماذا طلبوا؟ ماذا قصدوا؟ إما أنهم قالوا ذلك على سبيل العناد، والتكذيب، والإعراض، لا يريدون إلا هذا، أو أنهم قالوا: يريدون بذلك آية تضطرهم إلى الإيمان، يعني لا مجال للمكابرة بعد ذلك، ويمكن أن يكون المراد من الآيات التي اقترحوها، الآيات التي كانوا يقترحونها، هذا يحتمل كانوا يقترحون آيات، أن يتحول الصفا إلى ذهب، أن يفجر الله لهم من الأرض ينبوعًا، أو تكون له جنة يأكل منها، أو يرقى في السماء، ويأتي بكتاب، ويأتي بالملائكة يشهدون.

"منها ما يقتضي الردّ عليهم في طلبهم للآيات."

في طلبهم الآيات يصح، وفي طلبهم للآيات يصح، لا إشكال.

"فإنهم، قال في نسخة: بأنهم."

على كل حال لا إشكال، لا يقتضي الرد عليهم في طلبهم، والأحسن بالباء، بأنهم قد أتاهم بآيات؛ لأن الفاء هذه ليس في الكلام الذي قبلها شرط، ولا ما يدل على الشرط؛ فلو كانت بالباء فهذا أولى، بأنهم قد أتاهم بآيات.

"وتحصيل الحاصل لا يبتغى."

يعني: تحصيل الحاصل أن الآيات قد نزلت فماذا يطلبون؟

"كقوله: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ [البقرة: 118] وكقوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] ومنها ما يقتضي الإعراض عنهم؛ لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته ويحتمل أن يكون من هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الأنعام: 37] ويحتمل أيضا أن يكون معناه قادر على أن ينزل آية تضطرهم إلى الإيمان."

هنا هذا الجواب الأخير إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الأنعام: 37] ما ذكره أخيرًا كأنه هو الأقرب - والله تعالى أعلم -أن يكون من هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً يحتمل أيضًا أن يكون معناه: قادر على أن ينزل آية تضطرهم إلى الإيمان إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً كما طلبوا، سواء كان ذلك مما يضطرهم إلى الإيمان، أو مما اقترحوه، وطلبوه.

"قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام: 37] حذف مفعول يعلمون، وهو يحتمل، وجهين:

أحدهما: لا يعلمون أن الله قادر.

والآخر: لا يعلمون أن الله إنما منع الآيات التي تضطر إلى الإيمان لمصالح العباد، فإنهم لو رأوها، ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب."

وعلى كل حال، القاعدة: أن حذف المقتضى، الذي هو المعمول، يفيد العموم النسبي، يعني المناسب في كل موضع بحسبه، كما قال في المراقي:

والمقتضى عمَّ جل السلف.

يعني: عممه جل السلف، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر أن المعنى أنه قادر على ذلك، ولكن حكمته تقتضي تأخيره؛ لأنه لو أنزل كما طلبوا، ثم لم يؤمنوا؛ لعاجلهم بالعقوبة[1].

هذا المعنى الثاني الذي ذكره المؤلف، وحمله ابن جرير - رحمه الله - على أنهم لا يعلمون ما عليهم من البلاء آن إنزالها، ولو علموا لم يسألوه[2] ما عليهم من البلاء، يعني من مقتضى هذا الإنزال لو كفروا، فيرجع إلى قول ابن كثير، ولكنهم لا يعلمون.

ابن كثير يقول: إنه قادر على ذلك، لكن حكمته اقتضت التأخير؛ لأنه لو نزلت فلم يؤمنوا لعوجلوا بالعقوبة، ابن جرير يقول: لكن لا يعلمون؛ ما يعلمون ما فيها من إنزالها من البلاء الواقع عليهم، والمقصود به: العقوبة في حال عدم الإيمان، وهذا كما قلت على كل حال، باعتبار، أو هذا الاختلاف، أو الاحتمالات بسبب أن حذف المقتضى، هنا يبقى فيه إبهام، فحمله على العموم، لا يعلمون ما عليهم لو نزلت، لا يعلمون أن حكمته تقتضي عدم ذلك؛ لأنها لو نزلت فلم يؤمنوا لعذبهم، لا يعلمون أنه قادر، كل ذلك صحيح - والله أعلم - ولا دليل على تحديد، واحد من هذه المعاني. 

 

  1. تفسير ابن كثير (3/253).
  2. تفسير الطبري (11/343).