يقول تعالى مخبراً عن المشركين أنهم كانوا يقولون: لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ أي: خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون كقولهم: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا الآيات [سورة الإسراء:90].
قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:37] أي: هو تعالى قادر على ذلك، ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك؛ لأنه لو أنزل وفق ما طلبوا، ثم لم يؤمنوا؛ لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة، كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [سورة الإسراء:59] وقال تعالى: إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [سورة الشعراء:4]".
فقوله - تبارك وتعالى - عن قولهم: وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ [سورة الأنعام:37] أي: أنهم اقترحوا أن ينزل عليه آية تلجئهم إلى الإيمان إلجاءً كما فعل الله لبني إسرائيل حينما رفع فوقهم الجبل فصار فوقهم كأنه ظله، وأمرهم بأن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة، وهكذا ما وقع من الآيات العظام التي تلجئ من رآها إلى الإيمان إن كان كتب الله له الإيمان في سابق علمه، وأما إذا حصل منه التكذيب بعد ذلك فإنها تأتي العقوبات المستأصلة كما وقع للأمم السابقة كقوم صالح حينما اقترحوا آية فأخرج الله لهم الناقة مبصرة، كما قال تعالى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:59] أي: إنها آية مبصرة - وليس المعنى إنها ناقة مبصرة - فظلموا بها، فأهلكهم الله - تبارك وتعالى - وهكذا كان حال سائر الأمم.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً [سورة الأنعام:37] أي كما اقترحوا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:37] أي: ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه قادر، أو ولكن أكثرهم لا يعلمون ما عليهم من التبعة، والبلاء إذا نزلت الآيات ولم يؤمنوا بها، وهذا المعنى الأخير هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، فالله قادر على تنزيل الآيات، ولكن هؤلاء المقترحين لا يعلمون تبعة هذا الأمر حيث إذا أنزل عليهم آية كما اقترحوا ولم يؤمنوا بها نزل بهم العذاب المستأصل.
ومن حكمة الله أيضاً أنه يرسل الرسل، ويري الناس من آيات، ودلائل صدقهم ما تقوم عليهم به الحجة، وأما الآيات الملجئة فإنها إن ظهرت للناس فإن حكمة الابتلاء قد تكون منتفية، فالله - تبارك وتعالى - لم يقدّر ذلك في بعث نبيه محمد ﷺ، وله في ذلك حكمة بالغة، فهو لم يقدر إهلاك هذه الأمة بالعذاب المستأصل كما كان الحال مع الأمم السابقة، ولذلك كانت هذه الأمة باقية، ورسالتها هي الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة، والله تعالى أعلم.