يمكن أن نربط بين هذه الآية وبين ما قبلها بما ذكر بعض أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - وهو أن الله يقول لهؤلاء المقترحين لنزول الآيات المكذبين للرسول ﷺ: لا تظنوا أن الله - تبارك وتعالى - غافل عن أعمالكم، وعن مجازاتكم، إذ كيف يكون ذلك ويقع والله - تبارك وتعالى - لم يغفِل أمر هذه المخلوقات على كثرتها، وصنوفها، ومعايشها وما أشبه ذلك؟!، فهو قد أحصاها عدداً، وهو الذي خلقها ، وقدر أقواتها، وأرزاقها، وآجالها، وكتب كل ما يتعلق بها في تقلبها، وأحوالها، وأطوراها المختلفة، وجميع ما يصدر منها من الحركات، والسكنات، وكيف يغفل عن أعمالكم وأنتم محل التكليف، وقد خلقكم لعبادته!.
الأمة - كما هو معروف في الوجوه والنظائر - تأتي لمعانٍ متعددة، فتأتي بمعنى الجماعة من الناس كما قال الله عن موسى ﷺ حينما ورد ماء مدين: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [سورة القصص:23] ويقال للمدة الزمنية أيضاً كما قال تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [سورة يوسف:45] وهذا لا تعلق له بهذه الآية.
ويقال ذلك أيضاً للطائفة المجتمعة على دين كقوله عن هذه الأمة: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المؤمنون:52] فهذه الأمة هي طائفة مجتمعة على دين.
ويقال: فلان أمَّة، للرجل الذي جمع أوصاف الكمال التي تفرقت في غيره كقوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [سورة النحل:120].
والحاصل أن المراد بقوله تعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] يعني جماعاتٍ وأصنافاً خلقها الله .
والمثلية هنا اختلف أهل العلم فيها، فمنهم من قال: إن المراد بالمثلية أي: أن في هذه المخلوقات شبهاً ببني آدم من جهة أن من الناس من فيه دناءة الخنزير، ومن فيه عقوق الضب، ومن فيه خفة أحلام الطير، ومن فيه غدر الذئب، وحيلة الثعلب، وما أشبه ذلك من الأوصاف الموجودة في هذه المخلوقات سواء كانت حسنة أو سيئة، وهذا وإن قال به بعض السلف إلا أنه قول بعيد في تفسير الآية.
وبعضهم يقول: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: يذكرون الله مثلكم، وبعضهم يقول: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: أنهم يحشرون كما تحشرون في الآخرة.
وبعضهم يقول: وجه المثلية هو أن الله خلقها، وقدر لها أرزاقاً، وآجالاً، ويبعثها يوم القيامة كما يبعث البشر كما في قوله في آخر هذه السورة: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38]، وكما دل عليه الحديث الآخر - الذي سيأتي - وما أشبه ذلك مما قضاه الله وقدره في شأن هذه المخلوقات، وهذا هو أرجح هذه الأقوال.
ويدخل في المثلية كل ما يوجد من المشابهة بين الناس وبين هذه المخلوقات، فالله يرزقهم كما يرزقكم، وداخلون تحت علمه وقدرته - والله تعالى أعلم -.
وقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ [سورة الأنعام:38] مضى فيما سبق تفسير الدابة أنها كل ما يدب على الأرض، وقد تطلق في عرف الاستعمال على نوع خاص مما يدب على الأرض كذوات الأربع مثلاً، وهذا من تخصيص العرف، وقد يكون العرف أخص من هذا كإطلاق الدابة على الحمار، أو إطلاق الدابة على الحية، والخلاصة أن كل ما دب على الأرض فهو دابة.
ثم عطف عليها الطير فقال: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] فدل على أن المراد بالدابة هنا ليس المعنى العرفي كذوات الأربع مثلاً، وإنما المقصود كل ما يدب على الأرض، ويقابله ما يطير في السماء.
في قوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] معلوم أن الطائر إنما يطير بجناحيه، وقد سبق الكلام على مثل هذا المعنى، وذلك أن من أهل العلم من يقول: إن ذكر الجناحين مع أنه معلوم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه إنما جرى على طريقة العرب لتأكيد الكلام، فالعرب تقول: قال بفمه - أو بفيه -، وكتب بيده، ومشى إليه برجله، ونظر يعينه؛ وما أشبه هذا.
ومنهم من يقول: لما كانت العرب تعبر عن السرعة بمثل هذا فتقول: اقض حاجتي على وجه الطيران، أو طِر بحاجتي، أو طِر بهذا الخبر، أو فلان طار بهذا؛ بمعنى أسرع فيه، وكما قال الشاعر:
قومٌ إذا الشّر أبدى ناجذيه لهم | طاروا إليه زرافاتٍ ووحدَانا |
الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً أن المراد بالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي يدل عليه السياق في هذه الآية، حيث ذكر الكائنات بقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: خلقها، وقدر أقواتها، وآجالها، وأعمالها وما أشبه ذلك، ثم يحشرها يوم القيامة، فالسياق كله يدل على أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه هذه الأشياء، وأحصيت، وجمعت.
والقول الآخر هو أن الكتاب في الآية يراد به القرآن، وبناء على هذا المعنى يكون المراد بقوله: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38] أي مما تحتاجون إليه في هدايتكم، ونجاتكم.
وبهذا يظهر أنه حتى على هذا التفسير قالوا - أي المحققون من أهل العلم -: إن المراد ما يتعلق به النجاة، والخلاص، والهداية ولم يقولوا: إن المقصود اشتمال القرآن على جميع العلوم كما قال بعض المتكلفين: إن القرآن تبيان لكل شيء باعتبار أنه يحتوي على جميع العلوم، فهؤلاء قد تكلفوا غاية التكلف، كالرجل الذي اسمه كوك لما قال لآخر: تقول إن القرآن فيه كل شيء فأين اسمي في القرآن؟ قال: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11] فانظر كيف لم تعيه الحيلة أن يستخرج اسمه من القرآن!.
وسئل بعضهم عن الطب في القرآن فقال: جُمِع في آية واحدة هي قوله تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأعراف:31] فهذه اشتملت على الطب بكامله من الغذاء الصحيح، والحمية، فالطب يقوم على هذا، وهذا الكلام له وجه، لكن الكلام أو النظر إلى القرآن بأنه يحتوي جميع العلوم فهذا كلام غير صحيح.
ومن كلام المتكلفين قولهم: ما من علم إلا ويدل عليه القرآن ولو بالإشارة أو بالإجمال، ومن ذلك علوم الفلك، والفلسفة، والطب، والصيدلة، وعلم الأثر، والخط بالرمل، بل قالوا: إنه ذكر أو أشار إلى كل العلوم، وهذا الكلام فيه نظر؛ فالقرآن لم ينزل لهذا الأمر، وهو ليس موسوعة في الجغرافيا، أو في الحساب، أو في العلوم أو غير ذلك، وإنما هو كتاب هداية فينبغي أن ينظر إليه بهذا الاعتبار، وبهذا نعرف خطأ من أسرف في تحميل القرآن ما لا يحتمل من النظريات التي يصل إليها العلم الحديث، والاكتشافات، والمخترعات وما أشبه ذلك في العلوم المختلفة، فالقرآن ما أنزل لهذا، فلا داعي أن نشتط بهذا الطريق الخطر، ونحمل القرآن ما لا يحتمل، ولكن ما لاح وجهه وظهر فلا إشكال إن كان ذلك ثابتاً ويُفهم من ظاهر القرآن، وأما ما لا يثبت، أو لا يدل عليه ظاهر القرآن؛ فإنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يحمل القرآن عليه؛ لأن هذا التصرف في النظر البعيد، والعاقبة خطير، ومردوده كبير على القرآن؛ حيث سينسب إليه الخطأ بعد ذلك حينما يُكتشف أن هذه النظريات غير صحيحة، أو إذا جاء ما يبطلها.
على كل حال من فسر الكتاب في قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38] بأن المراد به القرآن قال: يعني ما من شيء يُحتاج إليه في هدايات الخلق إلا قد ذكرناه فيه إما تفصيلاً، وإما إجمالاً، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل:89][1].
يعني أن الله أحصى هذه المخلوقات من الحيوانات البرية، والبحرية، وما يعيش تحت الأرض، وما يعيش فوق الأرض، ودبر أقواتها، وأعمالها، وأماكن عيشها، وما يصلح لمثلها، وأين تموت، والأطوار التي تمر بها، كل ذلك قدره الله وأحصاه.
وهذه الآية لو أن الناس عقلوها، وتدبروا معناها؛ فإنهم سيكونون في غاية التوكل على الله في الرزق، وفي كل أمر من أمورهم، فهذه المخلوقات على كثرة أنواعها - منها ما يرى بالعين، ومنها ما لا يرى بالعين - أحصى الله كل حركاتها، وسكناتها، وما يتصل بها من أعمال، وأرزاق، وآجال، فنحن خلْق من خلقه قدر الله لنا مثل هذه الأمور، ولن يسبق الإنسان رزقه، ولا أجله؛ مهما عمل، ومهما كان حذراً متوقياًَ، بل إذا جاء أجله سقط على أم رأسه، وهكذا الأرزاق مهما كان حذقه، وذكاؤه، ومهارته، وجلده، وكده؛ ليلاً ونهاراً لا يمكن أن يحصِّل أكثر مما كتب له، ولن يفوته من رزقه شيء، ولن يأكل رزقه أحد غيره إطلاقاً، ولهذا ينبغي ألا يحزن على ما فات، وألا تذهب نفسه حسرات، وذلك أن ما خرج من يده فإن الله لم يقدره، ولم يكتبه له، وإنما هو مكتوب لغيره، فالله قد يرزق غيره بسببه، وعن طريقه، فالتأسف على الدنيا، وذهاب النفس حسرات عليها؛ لا معنى له إطلاقاً، فالله قد أحصى كل شيء، ولا يخرج من هذا الإحصاء شيء؛ لأن علمه - تبارك وتعالى - قد أحاط بكل شيء، فمن تأمل في هذا الأمر كان ذلك نافعاً له في باب المراقبة لله تعالى، وهذه الآية تحتاج إلى وقوف، وتأمل طويل؛ فلو حصل ذلك لانتفع العبد بها غاية الانتفاع.
وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة: البهائم، والدواب،، وكل شيء، فيبلغوا من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجمَّاء من القرناء ثم يقول: كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40][2]، وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور".
ويدل على هذا أيضاً الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء[3] يعني التي نطحتها في الدنيا.
فالله يحشر هذه الدواب جميعاً، ويقتص لبعضها من بعض ثم يقال لها: كوني تراباً، فتكون تراباً، فعندئذ إذا رآها الكافر قال: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40].
وقوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاًَ أن الحشر المراد هنا هو حشر الآخرة، والقول الآخر أن الحشر هو الموت، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن هذين المعنيين لم يوجد دليل على ترجيح أحدهما على الآخر، فيقول: الآية تحتمل المعنيين، وهذه هي طريقته - رحمه الله - عندما لا يوجد دليل للترجيح بين الأقوال.
وعلى كل حال فالحشر معناه الجمع، وحمله على الجمع في الآخرة هو الأقرب، وهو الظاهر المتبادر والله أعلم، ثم إن الإخبار بأنهم يحشرون بالموت ليس فيه فائدة جديدة؛ لأن هذا شيء مشاهد، ومعلوم، ثم إن وجه كونهم يجتمعون في الموت فيه إشكال، لكن كونهم يجتمعون في الحشر والنشر في الآخرة هو المقصود، والله تعالى أعلم.
- من أهل العلم من ذكر حجج هؤلاء وحجج هؤلاء كالحافظ ابن القيم - رحمه الله - فمن شاء فليراجع كلامه في كتاب إعلام الموقعين.
- أخرجه الحاكم (3231) (ج 2 / ص 345) وقال الألباني: هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات رجال مسلم غير ابن ثور وهو محمد الصنعاني وهو وإن كان موقوفاً فإنه شاهد قوي للمرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، انظر السلسلة الصحيحة (ج 4 / ص 465).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الظلم (2582) (ج 4 / ص 1997).