الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا طَٰٓئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلْكِتَٰبِ مِن شَىْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها، وقال قتادة: الطير أمة".

يمكن أن نربط بين هذه الآية وبين ما قبلها بما ذكر بعض أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - وهو أن الله  يقول لهؤلاء المقترحين لنزول الآيات المكذبين للرسول ﷺ: لا تظنوا أن الله - تبارك وتعالى - غافل عن أعمالكم، وعن مجازاتكم، إذ كيف يكون ذلك ويقع والله - تبارك وتعالى - لم يغفِل أمر هذه المخلوقات على كثرتها، وصنوفها، ومعايشها وما أشبه ذلك؟!، فهو قد أحصاها عدداً، وهو الذي خلقها ، وقدر أقواتها، وأرزاقها، وآجالها، وكتب كل ما يتعلق بها في تقلبها، وأحوالها، وأطوراها المختلفة، وجميع ما يصدر منها من الحركات، والسكنات، وكيف يغفل عن أعمالكم وأنتم محل التكليف، وقد خلقكم لعبادته!.
"وقال قتادة: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة، وقال السدي: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: خلقٌ أمثالكم".

الأمة - كما هو معروف في الوجوه والنظائر - تأتي لمعانٍ متعددة، فتأتي بمعنى الجماعة من الناس كما قال الله عن موسى ﷺ حينما ورد ماء مدين: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [سورة القصص:23] ويقال للمدة الزمنية أيضاً كما قال تعالى: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [سورة يوسف:45] وهذا لا تعلق له بهذه الآية.
ويقال ذلك أيضاً للطائفة المجتمعة على دين كقوله عن هذه الأمة: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المؤمنون:52] فهذه الأمة هي طائفة مجتمعة على دين.
ويقال: فلان أمَّة، للرجل الذي جمع أوصاف الكمال التي تفرقت في غيره كقوله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [سورة النحل:120].
والحاصل أن المراد بقوله تعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] يعني جماعاتٍ وأصنافاً خلقها الله .
والمثلية هنا اختلف أهل العلم فيها، فمنهم من قال: إن المراد بالمثلية أي: أن في هذه المخلوقات شبهاً ببني آدم من جهة أن من الناس من فيه دناءة الخنزير، ومن فيه عقوق الضب، ومن فيه خفة أحلام الطير، ومن فيه غدر الذئب، وحيلة الثعلب، وما أشبه ذلك من الأوصاف الموجودة في هذه المخلوقات سواء كانت حسنة أو سيئة، وهذا وإن قال به بعض السلف إلا أنه قول بعيد في تفسير الآية.
وبعضهم يقول: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: يذكرون الله مثلكم، وبعضهم يقول: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: أنهم يحشرون كما تحشرون في الآخرة.
وبعضهم يقول: وجه المثلية هو أن الله خلقها، وقدر لها أرزاقاً، وآجالاً، ويبعثها يوم القيامة كما يبعث البشر كما في قوله في آخر هذه السورة: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38]، وكما دل عليه الحديث الآخر - الذي سيأتي - وما أشبه ذلك مما قضاه الله وقدره في شأن هذه المخلوقات، وهذا هو أرجح هذه الأقوال.
ويدخل في المثلية كل ما يوجد من المشابهة بين الناس وبين هذه المخلوقات، فالله يرزقهم كما يرزقكم، وداخلون تحت علمه وقدرته - والله تعالى أعلم -.
وقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ [سورة الأنعام:38] مضى فيما سبق تفسير الدابة أنها كل ما يدب على الأرض، وقد تطلق في عرف الاستعمال على نوع خاص مما يدب على الأرض كذوات الأربع مثلاً، وهذا من تخصيص العرف، وقد يكون العرف أخص من هذا كإطلاق الدابة على الحمار، أو إطلاق الدابة على الحية، والخلاصة أن كل ما دب على الأرض فهو دابة.
ثم عطف عليها الطير فقال: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] فدل على أن المراد بالدابة هنا ليس المعنى العرفي كذوات الأربع مثلاً، وإنما المقصود كل ما يدب على الأرض، ويقابله ما يطير في السماء.
في قوله: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] معلوم أن الطائر إنما يطير بجناحيه، وقد سبق الكلام على مثل هذا المعنى، وذلك أن من أهل العلم من يقول: إن ذكر الجناحين مع أنه معلوم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه إنما جرى على طريقة العرب لتأكيد الكلام، فالعرب تقول: قال بفمه - أو بفيه -، وكتب بيده، ومشى إليه برجله، ونظر يعينه؛ وما أشبه هذا.
ومنهم من يقول: لما كانت العرب تعبر عن السرعة بمثل هذا فتقول: اقض حاجتي على وجه الطيران، أو طِر بحاجتي، أو طِر بهذا الخبر، أو فلان طار بهذا؛ بمعنى أسرع فيه، وكما قال الشاعر:
قومٌ إذا الشّر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافاتٍ ووحدَانا
 فحتى لا يتوهم أن المراد بذكر الطائر الإسراع قال: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] والله أعلم.
"وقوله: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38] أي: الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه، وتدبيره؛ سواء كان برياً، أو بحرياً".

الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً أن المراد بالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي يدل عليه السياق في هذه الآية، حيث ذكر الكائنات بقوله: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم [سورة الأنعام:38] أي: خلقها، وقدر أقواتها، وآجالها، وأعمالها وما أشبه ذلك، ثم يحشرها يوم القيامة، فالسياق كله يدل على أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه هذه الأشياء، وأحصيت، وجمعت.
والقول الآخر هو أن الكتاب في الآية يراد به القرآن، وبناء على هذا المعنى يكون المراد بقوله: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38] أي مما تحتاجون إليه في هدايتكم، ونجاتكم.
وبهذا يظهر أنه حتى على هذا التفسير قالوا - أي المحققون من أهل العلم -: إن المراد ما يتعلق به النجاة، والخلاص، والهداية ولم يقولوا: إن المقصود اشتمال القرآن على جميع العلوم كما قال بعض المتكلفين: إن القرآن تبيان لكل شيء باعتبار أنه يحتوي على جميع العلوم، فهؤلاء قد تكلفوا غاية التكلف، كالرجل الذي اسمه كوك لما قال لآخر: تقول إن القرآن فيه كل شيء فأين اسمي في القرآن؟ قال: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11] فانظر كيف لم تعيه الحيلة أن يستخرج اسمه من القرآن!.
وسئل بعضهم عن الطب في القرآن فقال: جُمِع في آية واحدة هي قوله تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ [سورة الأعراف:31] فهذه اشتملت على الطب بكامله من الغذاء الصحيح، والحمية، فالطب يقوم على هذا، وهذا الكلام له وجه، لكن الكلام أو النظر إلى القرآن بأنه يحتوي جميع العلوم فهذا كلام غير صحيح.
ومن كلام المتكلفين قولهم: ما من علم إلا ويدل عليه القرآن ولو بالإشارة أو بالإجمال، ومن ذلك علوم الفلك، والفلسفة، والطب، والصيدلة، وعلم الأثر، والخط بالرمل، بل قالوا: إنه ذكر أو أشار إلى كل العلوم، وهذا الكلام فيه نظر؛ فالقرآن لم ينزل لهذا الأمر، وهو ليس موسوعة في الجغرافيا، أو في الحساب، أو في العلوم أو غير ذلك، وإنما هو كتاب هداية فينبغي أن ينظر إليه بهذا الاعتبار، وبهذا نعرف خطأ من أسرف في تحميل القرآن ما لا يحتمل من النظريات التي يصل إليها العلم الحديث، والاكتشافات، والمخترعات وما أشبه ذلك في العلوم المختلفة، فالقرآن ما أنزل لهذا، فلا داعي أن نشتط بهذا الطريق الخطر، ونحمل القرآن ما لا يحتمل، ولكن ما لاح وجهه وظهر فلا إشكال إن كان ذلك ثابتاً ويُفهم من ظاهر القرآن، وأما ما لا يثبت، أو لا يدل عليه ظاهر القرآن؛ فإنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يحمل القرآن عليه؛ لأن هذا التصرف في النظر البعيد، والعاقبة خطير، ومردوده كبير على القرآن؛ حيث سينسب إليه الخطأ بعد ذلك حينما يُكتشف أن هذه النظريات غير صحيحة، أو إذا جاء ما يبطلها.
على كل حال من فسر الكتاب في قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ [سورة الأنعام:38] بأن المراد به القرآن قال: يعني ما من شيء يُحتاج إليه في هدايات الخلق إلا قد ذكرناه فيه إما تفصيلاً، وإما إجمالاً، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ [سورة النحل:89][1].
"كقوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سورة هود:6] أي: مفصح بأسمائها، وأعدادها، ومظانِّها، وحاصر لحركاتها، وسكناتها، وقال تعالى: وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة العنكبوت:60]".

يعني أن الله أحصى هذه المخلوقات من الحيوانات البرية، والبحرية، وما يعيش تحت الأرض، وما يعيش فوق الأرض، ودبر أقواتها، وأعمالها، وأماكن عيشها، وما يصلح لمثلها، وأين تموت، والأطوار التي تمر بها، كل ذلك قدره الله وأحصاه.
وهذه الآية لو أن الناس عقلوها، وتدبروا معناها؛ فإنهم سيكونون في غاية التوكل على الله في الرزق، وفي كل أمر من أمورهم، فهذه المخلوقات على كثرة أنواعها - منها ما يرى بالعين، ومنها ما لا يرى بالعين - أحصى الله كل حركاتها، وسكناتها، وما يتصل بها من أعمال، وأرزاق، وآجال، فنحن خلْق من خلقه قدر الله لنا مثل هذه الأمور، ولن يسبق الإنسان رزقه، ولا أجله؛ مهما عمل، ومهما كان حذراً متوقياًَ، بل إذا جاء أجله سقط على أم رأسه، وهكذا الأرزاق مهما كان حذقه، وذكاؤه، ومهارته، وجلده، وكده؛ ليلاً ونهاراً لا يمكن أن يحصِّل أكثر مما كتب له، ولن يفوته من رزقه شيء، ولن يأكل رزقه أحد غيره إطلاقاً، ولهذا ينبغي ألا يحزن على ما فات، وألا تذهب نفسه حسرات، وذلك أن ما خرج من يده فإن الله لم يقدره، ولم يكتبه له، وإنما هو مكتوب لغيره، فالله قد يرزق غيره بسببه، وعن طريقه، فالتأسف على الدنيا، وذهاب النفس حسرات عليها؛ لا معنى له إطلاقاً، فالله قد أحصى كل شيء، ولا يخرج من هذا الإحصاء شيء؛ لأن علمه - تبارك وتعالى - قد أحاط بكل شيء، فمن تأمل في هذا الأمر كان ذلك نافعاً له في باب المراقبة لله تعالى، وهذه الآية تحتاج إلى وقوف، وتأمل طويل؛ فلو حصل ذلك لانتفع العبد بها غاية الانتفاع.
"وقوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - في قوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] قال: حشْرها الموت، وقيل: إن حشرها هو يوم بعثها يوم القيامة؛ لقوله: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [سورة التكوير:5].
وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله: إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة: البهائم، والدواب،، وكل شيء، فيبلغوا من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجمَّاء من القرناء ثم يقول: كوني تراباً، فلذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40][2]، وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور".

ويدل على هذا أيضاً الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء[3] يعني التي نطحتها في الدنيا.
فالله يحشر هذه الدواب جميعاً، ويقتص لبعضها من بعض ثم يقال لها: كوني تراباً، فتكون تراباً، فعندئذ إذا رآها الكافر قال: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [سورة النبأ:40].
وقوله: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [سورة الأنعام:38] الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاًَ أن الحشر المراد هنا هو حشر الآخرة، والقول الآخر أن الحشر هو الموت، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن هذين المعنيين لم يوجد دليل على ترجيح أحدهما على الآخر، فيقول: الآية تحتمل المعنيين، وهذه هي طريقته - رحمه الله - عندما لا يوجد دليل للترجيح بين الأقوال.
وعلى كل حال فالحشر معناه الجمع، وحمله على الجمع في الآخرة هو الأقرب، وهو الظاهر المتبادر والله أعلم، ثم إن الإخبار بأنهم يحشرون بالموت ليس فيه فائدة جديدة؛ لأن هذا شيء مشاهد، ومعلوم، ثم إن وجه كونهم يجتمعون في الموت فيه إشكال، لكن كونهم يجتمعون في الحشر والنشر في الآخرة هو المقصود، والله تعالى أعلم.
  1. من أهل العلم من ذكر حجج هؤلاء وحجج هؤلاء كالحافظ ابن القيم - رحمه الله - فمن شاء فليراجع كلامه في كتاب إعلام الموقعين.
  2. أخرجه الحاكم (3231) (ج 2 / ص 345) وقال الألباني: هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات رجال مسلم غير ابن ثور وهو محمد الصنعاني وهو وإن كان موقوفاً فإنه شاهد قوي للمرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، انظر السلسلة الصحيحة (ج 4 / ص 465).
  3. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب -  باب تحريم الظلم (2582) (ج 4 / ص 1997).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] تأكيد، وبيان، وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة، فقد يقال: طائر للسعد، والنحس."

للسعد نعم، يقول: وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] يعني هنا يرد سؤال، وهو معلوم أن الطائر إنما يطير بجناحيه، يطير بجناحيه فلماذا قال ذلك؟ قال: يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ وهو أمر معلوم، فهذا الجواب، جواب لسؤال مقدر، فقال هذا من باب التوكيد.

قال: وبيان، وإزالة للاستعارة، الاستعارة هي تشبيه حذف أحد طرفيه، وأداته، ووجه الشبه، فيقول: إزالةً للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة، فقد يقال: طائر السعد، والنحس، لاحظ طائر السعد، هنا حذف أحد الطرفين، يعني المشبه، أو المشبه به، وحذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه، كذلك أيضًا يستعمل مثل هذا للتعبير عن الإسراع، يعبر عن الإسراع بالطائر، ونحو ذلك، كما يعبر به أيضًا عن السعد، والنحس، وقوله - تبارك، وتعالى -: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] هنا فسر بالعمل.

وفي قوله - تبارك، وتعالى - في الرد على المتشائمين بنبيهم: أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131] فهنا فُسر بالشؤم، والشيء الذي تشاءموا به، فذلك عند الله - تبارك، وتعالى - وليس في نبيهم هذا فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ [الأعراف: 131] وفي المقابل: إذا جاءت السيئة تطيروا بنبيهم يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131].

وهنا بعضهم يقول إنه قال ذلك وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38] للدلالة على أن القصد من اللفظ: الجنس، لا بعض الأفراد، فهو لتأكيد العموم، ولا طائر يطير بجناحيه - لاحظ - طائر، ويطير، وبجناحيه، يطير بماذا؟ يطير بجناحيه، فهذان اللفظان بعضهم يقول: جيء بهما؛ مع أن أحدهما قد يكفي عن الآخر، ويدل عليه، من أجل بيان أن المراد الجنس لا بعض الأفراد؛ فهو لتأكيد العموم وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۝ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام: 37 - 38].

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ [الأنعام: 38] لئلا يفهم أن المقصود نوع من الطيور، طائر معين بسبب الإفراد، وإنما المقصود الجنس، كل ما يطير.

"قوله تعالى: أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38] أي في الخلق، والرزق، والحياة، والموت، وغير ذلك.

هذا القول نسبه الشنقيطي - رحمه الله - إلى عامة العلماء[1] وذكر أن مما يكون من تلك المماثلة، يعني إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام: 38] أن الله يحشرهم إليه، كما صح عن النبي ﷺ بأن الشاة الجلحاء تقتص من الشاة القرناء[2].

الجلحاء التي ليس لها قرون، من الشاة القرناء التي كانت تنطحها في الدنيا، فإذا حصل مثل هذا القصاص، قيل لها: كوني ترابًا.

وكذلك يقول الله - تبارك، وتعالى -: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] على القول المشهور، وهو الأرجح، أن المقصود حشر القيامة، يعني بعد النفخة الثانية، أنها تحشر، وليس ذلك قرب قيام الساعة، فالجميع يحشرون إلى الله - تبارك، وتعالى -.

وجاء عن مجاهد في قوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ قال: أصناف مصنفة، تعرف بأسمائها، فكل صنف له قسم يخصه[3].

وجاء عن قتادة: الطير أمة، والإنس أمة، والجن أمة[4] وجاء عن السدي خلق أمثالكم[5] وذكر بعضهم أن المثلية هنا في ذكر الله، والدلالة عليه، أنها تدل على الخالق، بما فيها من إحكام الصنعة، ونحو ذلك.

وبعضهم يقول: من جهة المشابهة في بعض الأخلاق، والصفات.

وعلى كل حال: هي أمم الله - تبارك، وتعالى - إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ أن الله خلقها، وأوجدها، وأن الله تكفل بأرزاقها، وأن الله - تبارك، وتعالى - يدبرها، ويصرفها، وأن هذه الأمم تعرف ربها، وخالقها - سبحانه، وتعالى - وتدل عليه أيضًا بما فيها من إحكام الصنعة، وكذلك فإن الله يحشرها أيضًا يوم القيامة، إلى غير ذلك من المعاني التي يذكرها أهل العلم.

فهذا قد أطلقه الله - تبارك، وتعالى - وهذه الوجوه كلها مما يحتمله اللفظ، ولا دليل على تحديد واحد منها، فكأن ذلك - والله أعلم - يدخل في معنى الآية - والله أعلم -.

"قال رحمه الله: ومناسبة ذكر هذا لما قبله من وجهين:

أحدهما: أنه تنبيه على مخلوقات الله تعالى، فكأنه يقول: تفكروا في آياته، في مخلوقاته، ولا تطلبوا غير ذلك من الآيات.

والآخر: أنه تنبيه على البعث، كأنه يقول: جميع الدواب، والطير يحشر يوم القيامة كما تحشرون أنتم، وهو أظهر لقوله بعده: ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38]."

هذان، وجهان في المناسبة، والمؤلف يذكر المناسبة في مواضع، ولكنه لا يعتني بذلك دائمًا؛ فهنا يقول: ومناسبة ذكر هذا لما قبله؛ يعني: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام: 38] ما مناسبة ذكر هذا بعد ما ذكر من طلبهم الآيات، وأن الله قادر على أن ينزل آية، فالوجه الأول في الجواب: ذكر المناسبة، أنه يقول لهم: تفكروا في هذه المخلوقات، ولا تتعنتوا في طلب الآيات، يعني اشتغلوا بما أنتم بصدده.

والمعنى الآخر: أنه تنبيه على البعث، كأنه يقول: جميع هذه الطير، والدواب يحشر يوم القيامة كما تحشرون أنتم.

وعند ابن جرير - رحمه الله - في وجه المناسبة قال: قل للمكذبين: لا تظنوا أن الله غافلاً عن أعمالكم، وكيف ذلك، وهو غير غافل عن كل شيء دب على الأرض[6].

يعني كأنه توعدهم، هؤلاء الذين يتعنتون في طلب الآيات، فالله  - تبارك، وتعالى - محيط بهم، قادر عليهم لا يفوته شيء وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام: 38] فهم تحت قدرته، وتصرفه هو الذي خلقهم، ويدبر شؤونهم، ويحشرهم، وما إلى ذلك، كأن، وجه المناسبة أقرب - والله تعالى أعلم - للقول بأن ذلك فيه إشارة إلى هذه الآيات التي يشاهدونها، ويرونها ففيها لمريد الحق، وطالبه الكفاية عن هذا التعنت الذي هم عليه بسبب التكذيب - والله أعلم -.

"قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] أي ما غفلنا، والكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، والكلام على هذا عام، وقيل: هو القرآن، والكلام على هذا خاص: أي ما فرطنا فيه من شيء فيه هدايتكم.، والبيان لكم."

قوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أي: ما أغفلنا، والكتاب هنا: اللوح المحفوظ، وهذا الذي ذهب إليه المحققون، أو عامة المحققين من المفسرين، المقصود: اللوح المحفوظ، وهو اختيار ابن كثير[7]

يقول: (وهو على هذا عام) عام بمعنى أن اللوح كتب فيه كل شيء أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة[8].

فهذا معنى العموم هنا باعتبار أن ذلك يراد به اللوح المحفوظ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فلاحظ أن شيء نكرة جاءت في سياق النفي، وسبقت بمن، التي تنقلها من الظهور في العموم، إلى التنصيص الصريح في العموم، فهذا يشمل كل شيء؛ لأن كل شيء كتب في اللوح المحفوظ، كل شيء من حركة، وإيجاد، وخلق، وتصرف، وما إلى ذلك، كل ذلك في اللوح المحفوظ، والمعنى: أي ما أهملنا، ولا أغفلنا في اللوح شيئًا، بل كل شيءٍ مثبت فيه، حتى أصناف الدواب، وغيرها، وعلم ذلك جميعًا عند الله - تبارك، وتعالى - ولا ينسى أحدًا من رزقه، وتدبيره، كما قال الله - عز، وجل -: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: يعني كل ذلك، يعني يعلمه مضبوط بهذا اللوح، يعلم بأسمائها، وأعدادها، ومظانها، وهو حاصر لحركاتها، وسكناتها، فلا يفوت من ذلك شيء[9].

يقول: وقيل هو القرآن، والكلام على هذا خاص، يعني إذا قيل: بأن ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أنه القرآن، فهنا القرآن ليس فيه كل شيء، من حركات المخلوقات، وسكناتها، وإيجادها، وإعدامها، ورزقها، وما إلى ذلك، فيكون ذلك من قبيل العام ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ظاهر اللفظ العموم، ونص صريح في العموم كما سبق، فيكون من قبيل العام المراد به الخصوص، يعني: ما فرطنا فيه من شيء فيه هدايتكم، والبيان لكم، يعني: مما تحتاجون إليه في تحقيق النجاة، والوصول إلى الله، والدار الآخرة، ما يتصل بالهداية، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ظاهره العموم، لكل شيء، لكن المقصود به مما يتعلق بما نزل الكتاب لأجله، وهو الهداية.

والحافظ ابن القيم تكلم على حجة كل قول من هذه الأقوال[10] والراجح هو القول الأول، أنه اللوح المحفوظ.

"قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] أي: تبعث الدواب، والطيور يوم القيامة للجزاء، والفصل بينها."

ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ تبعث للفصل، كما جاء عن ابن عباس، أن حشرها موتها[11] ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ لكن هنا قال: (تبعث الدواب) وهذا الذي دل عليه الحديث، ودل عليه قوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] وحمله ابن جرير - رحمه الله - على المعنيين، بأن حشرها موتها، وكذلك بعثها، أنها تموت، وتبعث، باعتبار أنه لا يحصل البعث إلا بعد الموت، فجمع بينهما ابن جرير - رحمه الله -[12].

والحديث مشهور في صحيح مسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء[13] يعني الشاة القرناء التي كانت تنطحها في الدنيا، فإذا كان هذا بين الدواب، فلا شك أن الناس أولى بذلك.

  1.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/260).
  2.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2582).
  3.  تفسير ابن كثير (3/253).
  4.  المصدر السابق.
  5.  المصدر السابق
  6.  انظر: تفسير الطبري (11/344).
  7.  انظر: تفسير ابن كثير (3/253).
  8.  أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم: (4700).
  9. تفسير ابن كثير (3/254).
  10.  شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 40)
  11.  تفسير ابن كثير (8/331).
  12.  انظر: تفسير الطبري (11/349).
  13.  أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2582).