يقول تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ [سورة الأنعام:42] يعني فكذبوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة الأنعام:42] على ما ذكره ابن جرير - رحمه الله - يكون فيه مقدر محذوف معلوم من السياق أي أن البأساء، والضراء وقعت لهم بعد التكذيب كما قال تعالى عن آل فرعون: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ [سورة الأعراف:130].
إذن: هذه الأمور وقعت لهم بعد تكذيبهم، وإلا لو آمنوا لأغدق الله عليهم الأرزاق كما قال الله : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [سورة الأعراف:96]، هذا المعنى تحتمله الآية - والله تعالى أعلم -.
ولو قال قائل: قوله: إن ذلك واقع حتى مع الإيمان فإن هذا قد يدل عليه قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهٌِ [سورة البقرة:214] فهي سنته في الابتلاء.
لكن قوله: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [سورة الأنعام:42] يمكن أن يفهم منه أنهم لما كذبوا أخذهم بالبأساء والضراء من أجل أن يتضرعوا، وإن كان هذا أيضاً ليس بلازم؛ لأن الله يحب من عباده التضرع إليه سواء كانوا من أهل الإيمان، أو كانوا من الكافرين، ولكن قوله بعده: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الأنعام:43] يدل على ما ذكره ابن جرير - رحمه الله - أي أن هؤلاء كذبوا، وما تضرعوا حينما أخذهم بالبأساء، والضراء، ولذلك يقال: ليس المخبر عنهم هنا أهل الإيمان الذين يبتليهم الله تعالى، وإنما هو على الأمم المعذبة المهلكة، والله أعلم.
قال: "وهي الأمراض، والأسقام، والآلام" وقيل غير ذلك لكنها أقوال بعيدة، ومنها أن المقصود بالبأساء تسليط السلطان عليهم، لكن الظاهر الذي عليه عامة أهل العلم أن البأساء هو الضر المتعلق بالأموال من الفقر، وضيق العيش، والضراء ما يتعلق بالأجسام من المرض، والألم وما أشبه ذلك، هذا هو التفسير المشهور، والله أعلم.
قوله: لَعَلَّهُمْ أي: من أجل أن، وقد سبق في "لعل" أنها تأتي للترجي، وأن الله لا يقع منه ذلك، فهنا تفسر بأنها تعليلية، وقد سبق أن قلنا: إنها في جميع المواضع - في القرآن - تفيد التعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] فإن معناها كأنكم تخلدون.
والتضرع هو الانكسار والتذلل لله - جل وعلا -، والله من حكمته في ابتلاء الخلق بالمكاره أنه يحب من عباده أن ينكسروا، وأن يذلوا بين يديه، وأن يدعوه؛ فيكشف عنهم ذلك إن شاء.
ومن التذلل والتضرع إلى الله تعالى صلاة الاستسقاء التي يفعلها الناس إذا حصل لهم القحط، وأجدبوا، ولم ينزل المطر، ولذلك على كثرة التقصير حتى في هذه الصلاة، وفي الحضور لها، وفي صفتها، وفي التضرع في الدعاء؛ إلا أن مع ذلك كله يلاحظ أنه لا يكاد الناس يستسقون حتى ينزل المطر بفضل الله ورحمته بخلقه، بل عرف عن بعض أهل العلم قديماً، وحديثاً؛ أنه إذا استسقى لم ينزل من المنبر حتى ينزل المطر من شدة تضرعه، وإلحاحه على الله بالدعاء.
فالله - تبارك وتعالى - يحب من عباده التذلل، والتضرع؛ مع كثرة ما يقع منهم من التقصير، والظلم، والمعصية؛ إلا أنه يلطف بهم، ويرحمهم، ولو عاملهم بأعمالهم، وذنوبهم؛ لما أنزل قطرة واحدة من السماء؛ فهم يُمعنون في الفساد، والشر، وهو يلطف بهم، ويرحمهم، وفي الحديث: ولولا البهائم لم يمطروا[1].
- أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن - باب العقوبات (4019) (ج 2 / ص 1332) والحاكم (8623) (ج 4 / ص 582) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7978).