النسيان هنا يفسر بالترك كما في قوله تعالى: نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67] وكما في قوله: فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، وهذا هو المشهور عند أهل العلم في هذا الموضع خلافاً لمن قال: إنه الذهول؛ لأن الله لا يؤاخذ بالنسيان الذي هو زوال المعلوم من الذهن، والله أعلم.
قوله: "أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون" هذا المعنى تحتمله الآية، وليس لغبي أن يقول: توجد أشياء ما أعطاهم الله إياها مثل الهداية؛ لأن قوله: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] يقصد به أبواب كل شيء مما يدل عليه المقام والسياق من إدرار الأرزاق عليهم، وصحة الأبدان وما أشبه ذلك مما يحصل به الاستدراج، وإلا فإن هناك أشياء في الدنيا من ألوان النعيم لم يعطوا إياها، لكن أراد ما يحصل لمثلهم كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25] فإن معناها تدمر كل شيء مما جاءت لتدميره، فلا يقول أحد: إنها لم تدمر السماوات، والأرض، ولا الجبال.
ويقال ذلك أيضاً في قوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57] فلا يقول عاقلٌ: هناك ثمرات رأيتها في المشرق والمغرب لم أرها في مكة؛ لأن المقصود بالآية ما يحصل جبايته لمثلها، وهكذا يقال في قوله تعالى عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [(23) سورة النمل] لا يقال: إنها لم تؤتَ لحية سليمان، أو ملك سليمان مثلاً؛ لأن هذا ليس مراداً في الآية، وهذا يسميه الشاطبي - رحمه الله - "العموم الاستعمالي" يعني أن اللفظ يكون عاماً في كل مقام بحسب استعماله مما يصلح له.
وقوله: أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] أي: مما أغلق عليهم كما يقول ابن جرير - رحمه الله - والمعنى أن الله قلّبهم في الأحوال المختلفة، فتارة يأخذهم بالبأساء والضراء - أي الشدة -، وتارة بالتوسعة عليهم، ثم إن الأبواب التي سدها عليهم، وأدت إلى حصول البأساء والضراء؛ فتحت عليهم فصحت أجسامهم، ونمت أموالهم، وحصل لهم ما يحتاجون إليه من نزول المطر، وذهاب القحط وما أشبه ذلك.
قال الوالبي عن ابن عباس - ا -: المبلس الآيس، وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم يرَ أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتّر عليه فلم يرَ أنه ينظر له فلا رأي له، ثم قرأ: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44] قال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. [رواه ابن أبي حاتم]".
المبلس هو الذي قد يئس، وانقطع أي سكن وهمد، ولم يتحرك ليبحث عن المخرج، والحيلة من شدة يأسه، ولهذا قال بعضهم: إن اسم إبليس مأخوذ من الإبلاس.
وقوله: أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44] أي: أخذناهم بغتة فإذا هم ساكنون لا حراك لهم؛ لأنه قد أهلكم.