الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَآ أُوتُوٓا۟ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة الأنعام:44] أي: أعرضوا عنه، وتناسوه، وجعلوه وراء ظهورهم".

​​​​​​​النسيان هنا يفسر بالترك كما في قوله تعالى: نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67] وكما في قوله: فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، وهذا هو المشهور عند أهل العلم في هذا الموضع خلافاً لمن قال: إنه الذهول؛ لأن الله لا يؤاخذ بالنسيان الذي هو زوال المعلوم من الذهن، والله أعلم.
"فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون".

قوله: "أي: فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون" هذا المعنى تحتمله الآية، وليس لغبي أن يقول: توجد أشياء ما أعطاهم الله إياها مثل الهداية؛ لأن قوله: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] يقصد به أبواب كل شيء مما يدل عليه المقام والسياق من إدرار الأرزاق عليهم، وصحة الأبدان وما أشبه ذلك مما يحصل به الاستدراج، وإلا فإن هناك أشياء في الدنيا من ألوان النعيم لم يعطوا إياها، لكن أراد ما يحصل لمثلهم كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [سورة الأحقاف:25] فإن معناها تدمر كل شيء مما جاءت لتدميره، فلا يقول  أحد: إنها لم تدمر السماوات، والأرض، ولا الجبال.
ويقال ذلك أيضاً في قوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [سورة القصص:57] فلا يقول عاقلٌ: هناك ثمرات رأيتها في المشرق والمغرب لم أرها في مكة؛ لأن المقصود بالآية ما يحصل جبايته لمثلها، وهكذا يقال في قوله تعالى عن ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ [(23) سورة النمل] لا يقال: إنها لم تؤتَ لحية سليمان، أو ملك سليمان مثلاً؛ لأن هذا ليس مراداً في الآية، وهذا يسميه الشاطبي - رحمه الله - "العموم الاستعمالي" يعني أن اللفظ يكون عاماً في كل مقام بحسب استعماله مما يصلح له.
وقوله: أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:44] أي: مما أغلق عليهم كما يقول ابن جرير - رحمه الله - والمعنى أن الله قلّبهم في الأحوال المختلفة، فتارة يأخذهم بالبأساء والضراء - أي الشدة -، وتارة بالتوسعة عليهم، ثم إن الأبواب التي سدها عليهم، وأدت إلى حصول البأساء والضراء؛ فتحت عليهم فصحت أجسامهم، ونمت أموالهم، وحصل لهم ما يحتاجون إليه من نزول المطر، وذهاب القحط وما أشبه ذلك.
"وهذا استدراج منه تعالى، وإملاء لهم عياذاً بالله من مَكْره، ولهذا قال: حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ [سورة الأنعام:44] أي: من الأموال، والأولاد، والأرزاق أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً [سورة الأنعام:44] أي: على غفلة فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44] أي: آيسون من كل خير.
قال الوالبي عن ابن عباس - ا -: المبلس الآيس، وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه فلم يرَ أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتّر عليه فلم يرَ أنه ينظر له فلا رأي له، ثم قرأ: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44] قال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. [رواه ابن أبي حاتم]".

المبلس هو الذي قد يئس، وانقطع أي سكن وهمد، ولم يتحرك ليبحث عن المخرج، والحيلة من شدة يأسه، ولهذا قال بعضهم: إن اسم إبليس مأخوذ من الإبلاس.
وقوله: أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ [سورة الأنعام:44] أي: أخذناهم بغتة فإذا هم ساكنون لا حراك لهم؛ لأنه قد أهلكم.

مرات الإستماع: 0

"فَلَمَّا نَسُوا [الأنعام: 44] الآية: أي لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من الشدائد، فتح عليهم أبواب الرزق، والنعم ليشكروا عليها، فلم يشكروا فأخذهم الله."

هذا الفتح لأبواب الرزق من باب الاستدراج، كما قال الله : وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ۝ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا [الأعراف: 95] عفوا فسر بكثروا، وفسر بغير هذا حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف: 95] فيكون ذلك استدراجًا لهم.

يقول: (فتح عليهم أبواب الرزق، والنعم ليشكروا عليها فلم يشكروا) وحمله ابن جرير على أبواب ما أغلق عليهم[1] أبواب كل شيء هذا ظاهره العموم، فابن جرير حمله على معنى خاص بقرينة ما قبله، أن أبواب كل شيء مما أغلق عليهم من ضيق العيش، ومرض الأجسام.

يعني أعيدت لهم عافيتهم، وحصل لهم الغناء بهذا الاعتبار، (أبواب كل شيء) وإبقاء اللفظ على عمومه - والله أعلم - أولى، وليس المقصود العموم الذي يكون المراد به أعم المعاني، وإنما العموم الاستعمالي، فهذا يرفع الإشكال، يعني كأن ابن جرير - رحمه الله - قال بأن فتح الأبواب هنا كل شيء، أنه الأبواب التي أغلقت عليهم، وليس على ظاهره في العموم؛ لأنهم ما أعطوا كل شيء، لكن إذا استحضرنا هذا المعنى، وهو العموم الاستعمالي لانحل الإشكال، وهذا في غاية الأهمية، وينحل به إشكالات في كتاب الله وفي السنة النبوية أيضًا، العموم الاستعمالي كما يسميه الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات[2].

يعني على سبيل المثال في قوله - تبارك، وتعالى - عن مكة: حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] "كل" هذه أقوى صيغة من صيغ العموم، في اللغة، وعند الأصوليين، كل، وجميع، كل شيء، هل مكة يجبى إليها ثمرات كل المثمرات التي في الدنيا؟ يعني قل عند نزول الآية، وحتى الآن، هل يجبى إليها الثمرات الموجودة في مشارق الأرض، ومغاربها؟ هل يجبى إليها؟ لا، فهل اعترض أحد من المشركين، قال: ما عندنا كمثرى، ولا عندنا مانجو، ولا عندنا يعني كيوي، ما أحد اعترض بهذا الاعتراض، وهم عرب خلَّص فصحاء، فيفهم من هذا العموم الاستعمالي، وليس العموم الذي يحيط بكل الأفراد، وإنما العموم الاستعمالي، يعني الذي يصلح في كل موضع بحسبه، مما يفهم من سياق الكلام حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] مما يصلح أن يجبى لمثله، وفي ملكة سبأ قال: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] يقول ما أوتيت، يعني لو جاء من يريد أن يتمحل بالسؤال، فيقال: هذه عجبة بالفهم، كما يقول بعضهم يعني: ما أوتيت لحية سليمان ما أوتيت عرش سليمان، ما أوتيت ملك سليمان، ما سخر لها الجن كما سخروا لسليمان، ما سخر لها الريح كما سخر لسليمان، فهذا غير وارد، وإنما أوتيت من كل شيء مما يصلح لمثلها، ويقيم ملكها، وليس كل شيء على الإطلاق، وكذلك في نظائره تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: 25] وفي الآية نفسها قال: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] فالمساكن ما دُمرت، مع أنه قال: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء وهذه صيغة صريحة، وقوية في العموم، قالوا: وما دمرت السماوات، ولا الأرض، ولا الجبال، بدليل أننا نشاهدها، لم تدمر، إذًا تدمر كل شيء مما سيقت، وأرسلت لتدميره فقط، ولذلك لم يعترض أحد، قال: ما دمرت السماوات، ولا الأرض، ولا الجبال، فهذا من قبيل العموم الاستعمالي فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 44] مما يصلح لمثلهم من الغنى، والرفاهية، وكثرة الأموال، والأولاد، والمراكب، والزروع، والحروث، والدواب، وغير ذلك فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ وهكذا عافية الأبدان، وطول الأعمار، ونحو هذا.

"قوله تعالى: مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] آيسون من الخير.
  1. تفسير الطبري (11/356).
  2. الموافقات (4/19).