الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الأنعام:52] أي: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك بل اجعلهم جلساءك، وأخصَّاءك، كقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [سورة الكهف:28].
وقوله: يَدْعُونَ رَبَّهُم [سورة الأنعام:52] أي: يعبدونه، ويسألونه".

في قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُم [سورة الأنعام:52] قال الحافظ: "أي يعبدونه، ويسألونه" وهو بهذا جمع بين المعنيين؛ وذلك أن الدعاء نوعان: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، ولهذا قال بعض السلف: إن المراد بالدعاء في هذه الآية الصلاة مطلقاً، وبعضهم فسره ببعض الصلوات أي التي تكون بالغداة، والعشي، وبعضهم فسره بذكر الله أي أن قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُم [سورة الأنعام:52] يعني يذكرونه في أول النهار، وفي آخره، والصحيح أن كل ذلك داخل فيه أعني يدخل فيه دعاء المسألة، ودعاء العبادة بصلاتهم، وذكرهم، وقراءتهم، وسؤالهم وغير ذلك مما يتقربون به إلى الله - تبارك وتعالى -.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الأنعام:52] دليل على إخلاصهم لله تعالى في عبادتهم.
سبب نزول الآية:
سبب نزول هذه الآية هو ما أخرجه الإمام مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال: إنها نزلت في ستة نفر منهم سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود وأرضاهم، وذلك أن المشركين من الكبراء يطلبون من النبي ﷺ أن ينحي هؤلاء عنهم لئلا يجترئوا عليهم، بمعنى أن هؤلاء من الضعفة، والفقراء، وأولئك يأنفون من الجلوس معهم، فكرهوا أن يجلسوا إلى النبي ﷺ ومعه هؤلاء خوفاً من أن يجترئوا عليهم، فتسقط منزلتهم وهيبتهم في نفوسهم بالمجالسة، فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما وقع، وحدث نفسه بذلك، فأنزل الله: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهَُ [سورة الأنعام:52][1].
والنبي ﷺ حينما فكر في هذا أو همّ به كان مقصوده هو استصلاح هؤلاء القادة والسادة من كبراء المشركين، فيسلم قومهم، فنهاه الله عن ذلك كما قال تعالى في السورة الأخرى: عَبَسَ وَتَوَلَّى ۝ أَن جَاءهُ الْأَعْمَى ۝ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ۝ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ۝ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ۝ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [سورة عبس:1-6] أي: تتصدى لدعوته، ومجالسته، واستقباله، فالمقصود أن الله تعالى عاتبه بذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير وهو مخرّج أيضاً في ابن ماجه أن ذلك وقع بسبب أن بعض الكبراء من غير قريش كالأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن مروا بالنبي ﷺ وعنده بعض الضعفة مثل: خباب، وبلال، وعمار، وصهيب ، فطلبوا من النبي ﷺ أن يطرد هؤلاء من أجل أن يجلسوا معه، ويسمعوا منه، وهذه الرواية صححها الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله -، وهي غريبة[2]؛ لأن هذه السورة مكية، ولهذا قال بعضهم: إن هذه الآية من الآيات المدنية.
والجواب عن هذا - إن صحت الرواية - أنه يمكن أن يقال: إن الآية قد تنزل أكثر من مرة - كما ذكرنا في مناسبات شتى -، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126] فإنها نزلت في يوم أحد لما مُثِّل بحمزة، والروايات في هذا كثيرة جداً - وإن كانت لا تخلو من ضعف، لكن تتقوى بمجموعها - ونزلت كذلك في عام الفتح لما قال سعد بن عبادة - وكان يحمل راية الخزرج -: اليوم ذهبت قريش، فبلغ ذلك النبي ﷺ فأخذ الراية منه، وأعطاها لابنه قيس، فنزلت الآية.
ومن الأمثلة أيضاً أن المشركين قالوا: صف لنا ربك فنزلت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، وورد أن اليهود قالوا ذلك أيضاً فنزلت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1].
وكذلك قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [سورة الإسراء:85] ورد أنها نزلت بمكة بسبب سؤال المشركين، وورد أنها نزلت بعد سؤال اليهود في المدينة، وكل ذلك من الأسباب الصحيحة الصريحة، فالآية قد تنزل أكثر من مرة، ولذلك فهذه الآية قد تكون نزلت مرتين - ولا إشكال في هذا - بأن طلب رؤساء المشركين في مكة من النبي ﷺ أن يطرد عنهم هؤلاء الضعفة، ووقع أيضاً من غيرهم كالأقرع بن حابس إلى آخره، وإنما نقول ذلك لتباعد الزمان، وإلا لو كان متقارباً لقيل لعله حصل هذا وهذا فنزلت الآية بعده.
وأظن أن هذا الذي أشرت إليه آنفاً هو أحسن من الترجيح، وأحسن من رد هذه الرواية بالكلية، أو القول بأن السورة مكية، وأن الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن لم يسلما ولم يأتيا النبي ﷺ إلا في المدينة، والمقصود أن هذا الوجه من الجمع لا إشكال فيه.
ومن أوضح ما يدل على أن الآيات قد تنزل أكثر من مرة أن السور المكية التي فيها أوجه من الأحرف لا شك أنها نزلت مرة أخرى في المدينة، وهذا أمر لا إشكال فيه إطلاقاً - أعني الأحرف الستة -، وبهذا الاعتبار يمكن أن يقال: إن الآية نزلت مرتين، مرة بسبب قول المشركين، ومرة بسبب قول اليهود.
وهذه الآية تشبه ما ذكره الله عن نوح ﷺ، وما قال له قومه، وما أجابهم به، حيث طلبوا منه أن يطرد الضعفاء، واتهموهم بأنهم ما يأتون إلا لحاجة من الدنيا، فنوح ﷺ قال لهم: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:114]، وقال: وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة هود:29]، وهؤلاء كانوا يتهمون جلساء النبي ﷺ الضعفاء أنهم جاءوا من أجل طعام يأكلونه، أو شيء من متاع الدنيا، ولهذا قال بعده: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:52]، وهناك قال: إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي [سورة الشعراء:113] أي: أنا لست الذي أحاسبهم، وإنما الله هو الذي يعلم نيات الخلق، ويجازيهم على مقاصدهم، وأعمالهم، فنحن ليس لنا إلا الظاهر وهو أن هؤلاء أناس دخلوا في الإيمان، ولا يجوز إبعادهم من أجل السادة، والكبراء.
"بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الأنعام:52] قال سعيد بن المسيب، ومجاهد والحسن، وقتادة: المراد به الصلاة المكتوبة، وهذا كقوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر:60] أي: أتقبل منكم.
وقوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [سورة الأنعام:52] أي: يريدون بذلك العمل وجهَ الله الكريم، وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات، والطاعات.
وقوله: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:52] كقول نوح في جواب الذين قالوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ۝ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [سورة الشعراء:111-113] أي: إنما حسابهم على الله ، وليس عليَّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.
وقوله: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:52] أي: إن فعلت هذا والحالة هذه".
  1. أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (2413) (ج 4 / ص 1878).
  2. أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد - باب مجالسة الفقراء (4127) (ج 2 / ص 1382) والطبراني (3694) (ج 4 / ص 75) وابن أبي شيبة (ج 1 / ص 318).