الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوٓا۟ أَهَٰٓؤُلَآءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنۢ بَيْنِنَآ ۗ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:53] أي: ابتلينا، واختبرنا، وامتحنا بعضهم ببعض".

يقول: "وقوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:53] أي: ابتلينا، واختبرنا، وامتحنا بعضهم ببعض" يعني أن الله ابتلى الفقراء بالأغنياء، وابتلى الأغنياء بالفقراء، وابتلى الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، فإذا رأى الأقوياءُ الضعفاءَ قد سبقوهم للإيمان استنكفوا، واستكبروا، وقالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11]، والفقراء حينما يرون الأغنياء، وما أعطاهم الله من الإمكانات، والأموال وما أشبه ذلك؛ قد يفتنون بهذا، فالله ابتلى الناس بعضهم ببعض كما قال في آخر سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [سورة الأنعام:165] ففاوت بين الخلق في الأرزاق، والقدر، والإمكانات من أجل أن يبتلي بعضهم ببعض، فهؤلاء يبتلون بهؤلاء، وهؤلاء يبتلون بهؤلاء، فالغني يأتيه الفقير فيكون قد ابتلي به؛ حيث ينظر الله كيف يرد عليه، والفقير قد ابتلي بالغني يراه يُنَعَّم وهو يتشحط في الفقر لا يجد شيئاً يأكله، فينظر الله في صبره، ورضاه عنه، وثقته بما عنده، وهل يحسن ظنه بربه - تبارك وتعالى - أم لا، وكل هذا من الابتلاء الذي يبتلى به الخلق.
يقول تعالى: فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ [سورة الأنعام:53] وكأن اللام هذه لام العاقبة كقوله - تبارك وتعالى -: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8] وذلك أنهم ما أخذوه من أجل أن يكون لهم عدواً، بل لو علموا بهذا لقتلوه من البداية، لكن العاقبة هي التي كانت كذلك.
ومن أمثلة ذلك أن تقول لإنسان: تأخذ هذا معك أو تشتري هذا ليشغلك عما أنت بصدده؛ فهو ما أخذه ليشغله عما هو بصدده، لكنك تريد أن العاقبة ستكون هكذا.
ومن ذلك قولك: تصحب فلاناً ليقعدك عن معالي الأمور؛ فهو ما صحبه ليقعده، لكنك تريد أيضاً أن العاقبة ستكون هكذا.
ومن ذلك قوله تعالى: وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76] فقولهم: لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76] اللام للعاقبة بمعنى أن تلك المحاجة ستكون في العاقبة.
والخلاصة أن اللام في قوله تعالى: لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53] إما أن تكون للعاقبة بمعنى أنهم يقولون ذلك في النهاية، وإما أن تكون للتعليل، والعلم عند الله .
"لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53] وذلك أن رسول الله ﷺ كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال، والنساء، والعبيد، والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوح لنوح : وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ الآية [سورة هود:27]، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل فقال له: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟" فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل"".

وبهذا يحصل الابتلاء، وإلا لو آمن الرؤساء، والكبراء؛ من أول الأمر لتبعهم مَن تحت أيديهم، وتحت ولايتهم، أما وقد آمن الضعفاء، وبقي الكبراء؛ يخافون على رئاساتهم، ومراتبهم، ومكانتهم، وما كانوا يتعاطونه من أخذ أموال الناس بالباطل وما أشبه ذلك فبهذا حصل الابتلاء، ولذلك كان أكثر أهل الجنة من الضعفاء، وأكثر أهل النار من الكبراء، والله المستعان.
"والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53] أي: ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير - لو كان ما صاروا إليه خيراً -، ويدعنا، كقولهم: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11] وكقوله تعالى: وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [سورة مريم:73] قال الله - تعالى - في جواب ذلك: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [سورة مريم:74] وقال في جوابهم حين قالوا: أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53]: أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [سورة الأنعام:53] أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم، وأفعالهم، وضمائرهم، فيوفقهم، ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [سورة العنكبوت:69]، وفي الحديث الصحيح: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم[1]".
  1. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره، ودمه، وعرضه، وماله (2564) (ج 4 / ص 1986).

مرات الإستماع: 0

"وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام: 53] أي: ابتلينا الكفار بالمؤمنين، وذلك أن الكفار كانوا يقولون: هؤلاء العبيد، والفقراء منّ الله عليهم بالتوفيق للحق، والسعادة دوننا، ونحن أشراف أغنياء، وكان هذا الكلام منهم على جهة الاستبعاد لذلك."

في بعض النسخ (أهؤلاء) وفي بعضها (هؤلاء) و(أهؤلاء) أوضح، فيمكن تعدل هذه، قال: أهؤلاء، ويصح من غير همزة، باعتبار أنه يراد به الاستفهام، والتعجب، لكن هذا أوضح، وهو الموافق للفظ الآية أَهَؤُلاءِ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام: 53] يقول: ابتلينا الكفار بالمؤمنين فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام: 53] يعني: فتن الكفار بالمؤمنين، وفتن المؤمنين بالكفار، فتن هؤلاء الكبراء بهؤلاء الضعفاء، وهكذا يبتلي الله الناس بعضهم ببعض، بما فاوت بينهم في الهدى، والضلال، والإيمان، والكفر، والصحة، والمرض، والغنى، والفقر، وما إلى ذلك، فيفتن هذا بهذا، يفتن الفقير بالغني، والغني بالفقير، والقوي بالضعيف، والعكس.

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام: 53] فالسياق هنا في خصوص هذا، فتنة الكفار بضعفاء المؤمنين.

"قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: 53] ردّ على الكفار في قولهم المتقدّم."