يقول: "وقوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:53] أي: ابتلينا، واختبرنا، وامتحنا بعضهم ببعض" يعني أن الله ابتلى الفقراء بالأغنياء، وابتلى الأغنياء بالفقراء، وابتلى الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، فإذا رأى الأقوياءُ الضعفاءَ قد سبقوهم للإيمان استنكفوا، واستكبروا، وقالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف:11]، والفقراء حينما يرون الأغنياء، وما أعطاهم الله من الإمكانات، والأموال وما أشبه ذلك؛ قد يفتنون بهذا، فالله ابتلى الناس بعضهم ببعض كما قال في آخر سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [سورة الأنعام:165] ففاوت بين الخلق في الأرزاق، والقدر، والإمكانات من أجل أن يبتلي بعضهم ببعض، فهؤلاء يبتلون بهؤلاء، وهؤلاء يبتلون بهؤلاء، فالغني يأتيه الفقير فيكون قد ابتلي به؛ حيث ينظر الله كيف يرد عليه، والفقير قد ابتلي بالغني يراه يُنَعَّم وهو يتشحط في الفقر لا يجد شيئاً يأكله، فينظر الله في صبره، ورضاه عنه، وثقته بما عنده، وهل يحسن ظنه بربه - تبارك وتعالى - أم لا، وكل هذا من الابتلاء الذي يبتلى به الخلق.
يقول تعالى: فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ [سورة الأنعام:53] وكأن اللام هذه لام العاقبة كقوله - تبارك وتعالى -: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8] وذلك أنهم ما أخذوه من أجل أن يكون لهم عدواً، بل لو علموا بهذا لقتلوه من البداية، لكن العاقبة هي التي كانت كذلك.
ومن أمثلة ذلك أن تقول لإنسان: تأخذ هذا معك أو تشتري هذا ليشغلك عما أنت بصدده؛ فهو ما أخذه ليشغله عما هو بصدده، لكنك تريد أن العاقبة ستكون هكذا.
ومن ذلك قولك: تصحب فلاناً ليقعدك عن معالي الأمور؛ فهو ما صحبه ليقعده، لكنك تريد أيضاً أن العاقبة ستكون هكذا.
ومن ذلك قوله تعالى: وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76] فقولهم: لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76] اللام للعاقبة بمعنى أن تلك المحاجة ستكون في العاقبة.
والخلاصة أن اللام في قوله تعالى: لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [سورة الأنعام:53] إما أن تكون للعاقبة بمعنى أنهم يقولون ذلك في النهاية، وإما أن تكون للتعليل، والعلم عند الله .
وبهذا يحصل الابتلاء، وإلا لو آمن الرؤساء، والكبراء؛ من أول الأمر لتبعهم مَن تحت أيديهم، وتحت ولايتهم، أما وقد آمن الضعفاء، وبقي الكبراء؛ يخافون على رئاساتهم، ومراتبهم، ومكانتهم، وما كانوا يتعاطونه من أخذ أموال الناس بالباطل وما أشبه ذلك فبهذا حصل الابتلاء، ولذلك كان أكثر أهل الجنة من الضعفاء، وأكثر أهل النار من الكبراء، والله المستعان.
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره، ودمه، وعرضه، وماله (2564) (ج 4 / ص 1986).