الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـَٔايَٰتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُۥ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِۦ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُۥ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:54] أي: فأكرمهم برد السلام عليهم، وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم".

قوله تعالى: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:54] لا يختص بالضعفاء الذين طلب الكبراء طردهم، وإنما هذا في عموم أهل الإيمان، يعني ليس المراد: وإذا جاءك هؤلاء الذين نهيتك عن طردهم فقل: سلام عليكم، وإنما ذلك في عموم المؤمنين؛ لأنه لو كان المراد أولئك الضعفاء الذين قال له عنهم: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الأنعام:52] لقال: وإذا جاءوك فقل سلام عليكم، ولكنه قال: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:54] يعنى أن ذلك في عموم أهل الإيمان.
"ولهذا قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الأنعام:54] أي: أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه، وإحساناً، وامتناناً أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] كل من عصى الله فهو جاهل".

على هذه القراءة - بفتح الهمزة - في قوله أَنَّهُ مَن عَمِلَ [سورة الأنعام:54] تكون هذه الجملة بدلاً من الرحمة هكذا: "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة..." الخ،  وقراءة الفتح هي قراءة الثلاثة عاصم، وابن عامر، ونافع.
وعلى قراءة بقية السبعة - بكسر الهمزة - كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إنَّهُ مَن عَمِلَ تكون جملة إنَّهُ مَن عَمِلَ.. الخ جملة استئنافية؛ لكنه استئناف بياني مبين للرحمة هكذا: "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، والمراد بهذه الرحمة إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة..." الخ.
وفي قوله: أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] يقول الحافظ - رحمه الله -: "كل من عصى الله فهو جاهل"، وهذا أحسن ما تفسر به - والله تعالى أعلم - وذلك أنه لا يصلح أن يكون المقصود به هنا انعدام العلم؛ لأن الجهل بهذا المعنى من أسباب عدم المؤاخذة؛ فالتكليف من شروطه العامة البلوغ، والعقل، وفهم الخطاب، وإن شئت فقل: العلم، وإن شئت فقل: بلوغ الحجة، فإذا كان الإنسان لم يعلم بذلك فهو غير مؤاخذ ما لم يكن مفرطاً.
وإذا أردنا أن نربط الجهل في الآية بالمعنى المعروف فإنه يأتي بمعنى التعدي كما قال القائل:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فقوله: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا أي: لا يتعدى أحد علينا، كما أن مجاوزة حدود الله  تُعدُّ من الجهل أيضاً.
وإذا أردنا أن نربط الجهل بالمعنى الأول الذي هو ذهاب العلم فيقال: كل من عصى الله فهو جاهل؛ لأنه لو عرف عظمة الله - تبارك وتعالى - على الحقيقة ما اجترأ على معصيته، ولذلك كان كل من عصاه جاهلاً بهذا الاعتبار.
فقوله: أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] أي: عصى الله ولو كان يعلم أنها معصية.
وقوله: ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ [سورة الأنعام:54] يقبل منه ذلك؛ لأن التوبة تجبّ ما كان قبلها، أما إذا فعل الإنسان الشيء وهو لا يعلم أنه محرم فهذا لا يحتاج إلى توبة؛ لأن وقوع ذلك منه لا يصيره عاصياً، لأن هناك فرقاً بين فعل المعصية وبين أن يكون الإنسان عاصياً بفعلها، ولذلك فإن في إنكار المنكر إذا شرب الطفل الخمر فإن الذي يُحاسب على ذلك هو وليه، ولكن لا يترك الطفل يشربها بحجة أنه غير مكلف، بل يؤخذ على يديه، ويمنع منها؛ لأن المعصية يُطلب رفعها، ودفعها، وليس بالضرورة أن تكون تلك المعصية قد صدرت من عاصٍ، أو مَن يُحكم عليه بالمعصية أو الفسوق، ومثال ذلك أن يأكل ويشرب في نهار رمضان ناسياً أنه صائم؛ فإنّ فعله هذا منكر، لكن فاعله غير عاص، ومع ذلك فإن على من رآه يأكل، ويشرب؛ أن يذكره الصيام، ولا يتركه بحجة أنه أطعمه الله، وسقاه؛ لأن الأكل، والشرب؛ في نهار رمضان يعتبر منكراً.
ومن أمثلة ذلك أيضاً أنه لا يصح أن يترك الصبي يسبل ثيابه، أو يلبس بنطلون جينز، ويظهر في هيئة منكرة بحجة أنه طفل صغير، بل يؤمر أن يلبس فوق الكعبين، ويمنع من لبس الأشياء التي يتشبه فيها بأعداء الله ؛ لأن وجود هذه الأمور منكر يجب رفعه ولو كان الطفل لا يزال صغيراً، والمحاسب على هذا هو وليه، والله أعلم.
"ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ [سورة الأنعام:54] أي: رجع عما كان عليه من المعاصي، وأقلع، وعزم على أن لا يعود، وأصلح العمل في المستقبل".

يقول: "أي: رجع عما كان عليه من المعاصي، وأقلع، وعزم على أن لا يعود" هذه قيود مهمة في التوبة الصادقة؛ وهي من علامات التوبة الصحيحة التي لا يكون فيها تردد.
قوله: "وأصلح العمل في المستقبل" أي أن عليه أن يصلح العمل بعد هذه التوبة، فإذا كان الذنب فيه إفساد متعدٍّ فإنه يصلح ما أفسده، بحيث إذا كان العمل بدعة نشرها، أو مجوناً نشره، أو ضلل الناس بأي طريق من طرق الشبهات، أو الشهوات؛ فعليه أن يصلح ما أفسده.
"فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:54] روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي [أخرجاه في الصحيحين][1]".

قوله: فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:54] على هذه القراءة - بالفتح - وهي قراءة ابن عامر وعاصم تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، ويمكن أن يقدر فيقال: فأمْره أن الله غفور رحيم.
وعلى قراءة الكسر فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهي قراءة بقية السبعة تكون جملة استئنافية، والله أعلم.
  1. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27] (3022) (ج 3 / ص 1166) ومسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه (2751) (ج 4 / ص 2107).

مرات الإستماع: 0

"وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 54] هم الذين نهي النبي ﷺ عن طردهم، أمر بأن يسلم عليهم إكراما لهم، وأن يؤنسهم بما بعد هذا."

وهذا على قول الجمهور وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أنه في خصوص هؤلاء بدلالة السياق، مع أن اللفظ عام، كما هو ظاهر، ولذلك حمله بعضهم على عمومه في المؤمنين وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا كما ذهب إلى ذلك أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[1].

وبعضهم كالواحدي[2] جمع بين المعنيين، فقال: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فهؤلاء الذين طلب الكبراء من المشركين طردهم، يدخلون في ذلك لأن السياق يدل عليه؛ وكذلك سائر المؤمنين؛ لأن ظاهر اللفظ العموم؛ فعلى قول الأولين، يعني الذين قالوا: بأنه في خصوص من جاء السياق فيهم، يكون قوله هنا: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ هذا عام، قالوا: هذا من العام المراد به الخصوص، فهذا وجه يدل عليه السياق، والآخر يدل عليه ظاهر اللفظ من العموم، والجمع بينهما كأنه حسن - والله أعلم - فيكون من جاء السياق فيهم يدخلون فيه دخولاً أوليًا، وكما ذكرت في بعض المناسبات، أن الأفراد الداخلة في العموم على ثلاث درجات من حيث القوة: وأن أقوى ذلك ما جاء في سبب النزول، كما هو معروف أن العبرة بعموم اللفظ، والمعنى لا بخصوص السبب، ثم يليه ما دل عليه السياق، ما يتصل بذلك المناسبة، الارتباط؛ فيلحق به، فيكون مرتبةً دون سبب النزول، وأقوى من الأفراد الداخلة في العموم، من جهة اللغة، من جهة اللفظ.

والمرتبة الثالثة: عموم الأفراد، هذا من حيث القوة، يعني مراتب الأفراد الداخلة تحت العموم، من حيث قوة الدخول فيه، هذا يفيد في التخصيص، وإخراج بعض الأفراد، يعني مثلاً سبب النزول، صورة السبب، قطعية الدخول في العام، ولا يصح إخراجها منه بالاجتهاد، لكن باقي الأفراد يمكن أن تخرج.

"قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] أي: حتّمها، وفي الصحيح."

إيه يعني أوجبها، في الصحيح، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة مخرج في الصحيحين.

"إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي[3].

قوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا [الأنعام: 54] الآية، وعد بالمغفرة، والرحمة لمن تاب، وأصلح، وهو خطاب للقوم المذكورين قبل، وحكمها عام فيهم، وفي غيرهم، والجهالة قد ذكرت في النساء."

الجهالة التي أشار إليها، قال: ذكرت في النساء؛ يعني الجهل فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، فهذا الذي أقدم على المعصية، لو استحضر نظر الله، وعظمته، عظم من عصى، وعاقبة هذه الجناية؛ لما أقدم عليها، فإقدامه عليها جهل، فكل من عصى الله فهو جاهل بهذا الاعتبار، لا أنه يجهل الحكم بأن هذا حرام، وإنما كل من عصى.

"وقيل: نزلت بسبب أن عمر بن الخطاب أشار على رسول الله ﷺ أن يطرد الضعفاء عسى أن يسلم الكفار، فلما نزلت: وَلا تَطْرُدِ ندم عمر على قوله، وتاب منه فنزلت الآية[4]."

هذا جاء في سياق طويل، في قوله تعالى: وَأَنذِرْ بِهِ [الأنعام: 51] وفيه جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرضة بن عمر، في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: "يا أبا طالب لو أن ابن أخيك يطرد عنا موالينا، وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا، وعسفاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدعى لاتباعنا إياه، وتصديقنا له، قال: فأتى أبو طالب النبي ﷺ فحدثه بالذي كلموه، فقال عمر بن الخطاب : لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلى ما يصيرون، يعني من قولهم، فأنزل الله: وَأَنذِرْ بِهِ [الأنعام: 51] ونزلت في أئمة الكفر: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام: 53] ولما نزلت أقبل عمر فاعتذر عن مقالته؛ فأنزل الله: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 54]"[5].

وهذه الرواية مرسلة لا تصح في سبب النزول، أن ذلك نزل بسبب قول عمر .

"وقرئ أنه بالفتح على البدل من الرحمة، وبالكسر على الاستئناف، وكذلك فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 54] بالكسر على الاستئناف، وبالفتح خبر ابتداء مضمر تقديره: فأمره أنه غفور رحيم، وقيل: تكرار للأولى لطول الكلام."

 

قوله: وقرئ (أَنه) بالفتح؛ هذا في قراءة ابن عامر، وعاصم، في الموضعين، وفي الأول دون الثاني وافقهم نافع، وقراءة الجمهور بالكسر إنه.

يقول: وقرئ (أنه) بالفتح؛ يعني: في موضع نصب، على البدل من الرحمة كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا [الأنعام: 54] يكون منصوبًا؛ لأن الرحمة منصوبة، كتب الرحمة، فيكون هكذا: كتب ربكم على نفسه، أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة، البدل يقوم مقام المبدل منه، وبالكسر على الاستئناف؛ يعني: جملة جديدة كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] وتقف (إنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ)؛ الآية فيكون الكلام تامًا قبلها، ثم هي لا تخلو الجملة على هذا الإعراب، من كونها استئنافًا من أن تكون أيضًا، كالتفسير لقوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54].

ويحتمل أن يكون على إضمار، قال، قال: إنه، لكن هذا خلاف الأصل؛ لأن الأصل عدم الإضمار، إذا دار الكلام بين التقدير - الإضمار - والاستقلال، فالاستقلال أولى، يقدم على الإضمار.

يقول: وكذلك (فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ هذا الذي ذكرت هذا الموضع الثاني "فإنه فأنه" يقول: بالكسر على الاستئناف، كما سبق على الاستئناف، بمعنى أنها صدر جملة وقعت خبرًا لـ"من" الموصولة مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا أو جوابًا لها إن كانت من شرطية مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ يعني: بعد توبته، فأنه، فإنه (فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

يقول: بالفتح في محل خبر؛ يعني مرفوع، خبر ابتداء مضمر تقديره: فأمره، أو شأنه أنه غفور رحيم.

ويحتمل أن يكون مبتدأ، وأن الخبر هو المحذوف، يعني أنه مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 54] يعني: فغفرانه، ورحمته واقعان له، أو فعليه غفران الله، ورحمته، وقيل: تكرار للأولى لطول الكلام، هنا كلام لشيخ الإسلام - رحمه الله - في قوله مثل هذا المعنى في نظائره، يقول مثلاً في قوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون: 35] يقول: "طال الفصل بين أن واسمها، وخبرها فأعاد أن لتقع على الخبر لتأكيده بها، ونظير هذا قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ [التوبة: 63] لما طال الكلام أعاد أن، وهذا قول الزجاج، وطائفة، وأحسن من هذا أن يقال: كل واحدة من هاتين الجملتين جملة شرطية، مركبة من جملتين جزائيتين، فأكدت الجملة الشرطية بأن على حد تأكيدها في قول الشاعر:

إن من يدخل الكنيسة يومًا يلقى فيها جآذرًا وظباء

ثم أكدت الجملة الجزائية، بأن إذ هي المقصودة على حد تأكيدها في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف: 170] ونظير الجمع بين تأكيد الجملة الكبرى المركبة من الشرط، والجزاء، وتأكيد جملة الجزاء، قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] فلا يقال في هذا: إن أعيدت لطول الكلام، ونظيره: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه: 74]"[6] وذكر هذه الآية أيضًا من سورة الأنعام.

قال: "فهما تأكيدان مقصودان لمعنيين مختلفين، ألا ترى تأكيد قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 54] بأن غير تأكيد مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 54] وهذا ظاهرٌ لا خفاء به، وهو كثير في القرآن، وكلام العرب"[7].

  1.  تفسير الطبري (9/272).
  2. التفسير الوسيط للواحدي (2/274) والوجيز للواحدي (ص: 356).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ [هود: 7] وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ [التوبة: 129] برقم (7422) ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله - تعالى - وأنها سبقت غضبه، برقم (2751) واللفظ للبخاري.
  4.  تفسير الطبري (9/262) وتفسير ابن كثير (3/261).
  5.  تفسير الطبري (9/262) وتفسير ابن كثير (3/261).
  6.  مجموع الفتاوى (15/276).
  7.  المصدر السابق (15/277).