قوله تعالى: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام:54] لا يختص بالضعفاء الذين طلب الكبراء طردهم، وإنما هذا في عموم أهل الإيمان، يعني ليس المراد: وإذا جاءك هؤلاء الذين نهيتك عن طردهم فقل: سلام عليكم، وإنما ذلك في عموم المؤمنين؛ لأنه لو كان المراد أولئك الضعفاء الذين قال له عنهم: وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [سورة الأنعام:52] لقال: وإذا جاءوك فقل سلام عليكم، ولكنه قال: وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:54] يعنى أن ذلك في عموم أهل الإيمان.
على هذه القراءة - بفتح الهمزة - في قوله أَنَّهُ مَن عَمِلَ [سورة الأنعام:54] تكون هذه الجملة بدلاً من الرحمة هكذا: "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة..." الخ، وقراءة الفتح هي قراءة الثلاثة عاصم، وابن عامر، ونافع.
وعلى قراءة بقية السبعة - بكسر الهمزة - كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إنَّهُ مَن عَمِلَ تكون جملة إنَّهُ مَن عَمِلَ.. الخ جملة استئنافية؛ لكنه استئناف بياني مبين للرحمة هكذا: "وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، والمراد بهذه الرحمة إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة..." الخ.
وفي قوله: أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] يقول الحافظ - رحمه الله -: "كل من عصى الله فهو جاهل"، وهذا أحسن ما تفسر به - والله تعالى أعلم - وذلك أنه لا يصلح أن يكون المقصود به هنا انعدام العلم؛ لأن الجهل بهذا المعنى من أسباب عدم المؤاخذة؛ فالتكليف من شروطه العامة البلوغ، والعقل، وفهم الخطاب، وإن شئت فقل: العلم، وإن شئت فقل: بلوغ الحجة، فإذا كان الإنسان لم يعلم بذلك فهو غير مؤاخذ ما لم يكن مفرطاً.
وإذا أردنا أن نربط الجهل في الآية بالمعنى المعروف فإنه يأتي بمعنى التعدي كما قال القائل:
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
وإذا أردنا أن نربط الجهل بالمعنى الأول الذي هو ذهاب العلم فيقال: كل من عصى الله فهو جاهل؛ لأنه لو عرف عظمة الله - تبارك وتعالى - على الحقيقة ما اجترأ على معصيته، ولذلك كان كل من عصاه جاهلاً بهذا الاعتبار.
فقوله: أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام:54] أي: عصى الله ولو كان يعلم أنها معصية.
وقوله: ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ [سورة الأنعام:54] يقبل منه ذلك؛ لأن التوبة تجبّ ما كان قبلها، أما إذا فعل الإنسان الشيء وهو لا يعلم أنه محرم فهذا لا يحتاج إلى توبة؛ لأن وقوع ذلك منه لا يصيره عاصياً، لأن هناك فرقاً بين فعل المعصية وبين أن يكون الإنسان عاصياً بفعلها، ولذلك فإن في إنكار المنكر إذا شرب الطفل الخمر فإن الذي يُحاسب على ذلك هو وليه، ولكن لا يترك الطفل يشربها بحجة أنه غير مكلف، بل يؤخذ على يديه، ويمنع منها؛ لأن المعصية يُطلب رفعها، ودفعها، وليس بالضرورة أن تكون تلك المعصية قد صدرت من عاصٍ، أو مَن يُحكم عليه بالمعصية أو الفسوق، ومثال ذلك أن يأكل ويشرب في نهار رمضان ناسياً أنه صائم؛ فإنّ فعله هذا منكر، لكن فاعله غير عاص، ومع ذلك فإن على من رآه يأكل، ويشرب؛ أن يذكره الصيام، ولا يتركه بحجة أنه أطعمه الله، وسقاه؛ لأن الأكل، والشرب؛ في نهار رمضان يعتبر منكراً.
ومن أمثلة ذلك أيضاً أنه لا يصح أن يترك الصبي يسبل ثيابه، أو يلبس بنطلون جينز، ويظهر في هيئة منكرة بحجة أنه طفل صغير، بل يؤمر أن يلبس فوق الكعبين، ويمنع من لبس الأشياء التي يتشبه فيها بأعداء الله ؛ لأن وجود هذه الأمور منكر يجب رفعه ولو كان الطفل لا يزال صغيراً، والمحاسب على هذا هو وليه، والله أعلم.
يقول: "أي: رجع عما كان عليه من المعاصي، وأقلع، وعزم على أن لا يعود" هذه قيود مهمة في التوبة الصادقة؛ وهي من علامات التوبة الصحيحة التي لا يكون فيها تردد.
قوله: "وأصلح العمل في المستقبل" أي أن عليه أن يصلح العمل بعد هذه التوبة، فإذا كان الذنب فيه إفساد متعدٍّ فإنه يصلح ما أفسده، بحيث إذا كان العمل بدعة نشرها، أو مجوناً نشره، أو ضلل الناس بأي طريق من طرق الشبهات، أو الشهوات؛ فعليه أن يصلح ما أفسده.
قوله: فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأنعام:54] على هذه القراءة - بالفتح - وهي قراءة ابن عامر وعاصم تكون أن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، ويمكن أن يقدر فيقال: فأمْره أن الله غفور رحيم.
وعلى قراءة الكسر فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهي قراءة بقية السبعة تكون جملة استئنافية، والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27] (3022) (ج 3 / ص 1166) ومسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه (2751) (ج 4 / ص 2107).