يقول تعالى: إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل وهذا هو التوفي الأصغر كما قال تعالى: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران:55] وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [سورة الزمر:42] فذكر في هذه الآية الوفاتين الكبرى والصغرى، وهكذا ذكر في هذا المقام حكم على الوفاتين الصغرى ثم الكبرى".
سبق الكلام في غير موضع من التفسير أن الوفاة لها معنى لغوي وهو الاستيفاء، ولها معنى شرعي وهو الموت، ويكون الموت بالوفاة الكبرى أي بخروج الروح من الجسد، ويكون بالوفاة الصغرى أي بارتفاعها عن الجسد ارتفاعاً خاصاً غيبياً ينتفي معه الإدراك مع بقاء الحياة، وهذا هو المعنى الشرعي، وقد ذكرنا في قوله - تبارك وتعالى -: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران:55] أن الأصل أن يحمل التوفي على المعنى الشرعي، فإن لم يوجد فإنه يلجأ بعد ذلك إلى العرف أو اللغة، والذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله - هنا هو المعنى الشرعي؛ لأن الله تعالى يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [سورة الزمر:42].
فسر الاجتراح هنا بالكسب، وأصل الاجتراح هو اكتساب الإنسان بالجارحة، أي: باليد، أو بالرجل، أو بالفم، فاكتسابه بالجوارح هو الاجتراح، ثم بعد ذلك تُوسِّع في استعمال هذه اللفظة فصار ذلك يطلق على كل اكتساب ولو كان بغير هذه الجوارح، وعلى هذا فقوله: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم [سورة الأنعام:60] أي: ما كسبتم بأي طريق كان.
وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى فقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [سورة الأنعام:60] أي: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار.
يقول ابن كثير - رحمه الله -: "وهذه جملة معترضة" وعلى هذا يكون المعنى وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم ليُقضى أجل مسمى، وتكون الجملة المعترضة أعني قوله: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [سورة الأنعام:60] لتقرير هذا المعنى وتوضيحه وما إلى ذلك.
قوله: "أي: في النهار" هذا قال به أيضاً كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - وقال ابن كثير: قاله مجاهد، وقتادة، والسدي.
وبعضهم يقول: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير يكون هكذا: وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار، ويعلم ما جرحتم فيه بعد انقضاء الليل، فينتشرون في مصالحهم كما ذكر الله بأنه جعل النهار معاشاً، وأما الليل فهو يسبتون فيه، وينقطعون فيه عن الأشغال والأعمال، ويخلدون فيه إلى الراحة.
وبعضهم يقول: إن قوله: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [سورة الأنعام:60] أي: في المنام.
الأجل المسمى هنا يراد به الموت، وهو أحسن ما يفسر به، وهو اختيار بن جرير - رحمه الله - وما عداه من الأقوال ففيها بعد.