الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰٓ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ۝ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [سورة الأنعام:60-62]
يقول تعالى: إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل وهذا هو التوفي الأصغر كما قال تعالى: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران:55] وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [سورة الزمر:42] فذكر في هذه الآية الوفاتين الكبرى والصغرى، وهكذا ذكر في هذا المقام حكم على الوفاتين الصغرى ثم الكبرى".

سبق الكلام في غير موضع من التفسير أن الوفاة لها معنى لغوي وهو الاستيفاء، ولها معنى شرعي وهو الموت، ويكون الموت بالوفاة الكبرى أي بخروج الروح من الجسد، ويكون بالوفاة الصغرى أي بارتفاعها عن الجسد ارتفاعاً خاصاً غيبياً ينتفي معه الإدراك مع بقاء الحياة، وهذا هو المعنى الشرعي، وقد ذكرنا في قوله - تبارك وتعالى -: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران:55] أن الأصل أن يحمل التوفي على المعنى الشرعي، فإن لم يوجد فإنه يلجأ بعد ذلك إلى العرف أو اللغة، والذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله - هنا هو المعنى الشرعي؛ لأن الله تعالى يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [سورة الزمر:42].
"وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى فقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [سورة الأنعام:60] أي: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار".

فسر الاجتراح هنا بالكسب، وأصل الاجتراح هو اكتساب الإنسان بالجارحة، أي: باليد، أو بالرجل، أو بالفم، فاكتسابه بالجوارح هو الاجتراح، ثم بعد ذلك تُوسِّع في استعمال هذه اللفظة فصار ذلك يطلق على كل اكتساب ولو كان بغير هذه الجوارح، وعلى هذا فقوله: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم [سورة الأنعام:60] أي: ما كسبتم بأي طريق كان.
وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى فقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [سورة الأنعام:60] أي: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار.
"وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم، ونهارهم؛ في حال سكونهم، وحال حركتهم كما قال: سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [سورة الرعد:10] وكما قال تعالى: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [سورة القصص:73] أي: في الليل، وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ أي: في النهار، كما قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ۝ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [سورة النبأ:10-11] ولهذا قال تعالى هاهنا: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [سورة الأنعام:60] أي: ما كسبتم من الأعمال فيه".

يقول ابن كثير - رحمه الله -: "وهذه جملة معترضة" وعلى هذا يكون المعنى وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم ليُقضى أجل مسمى، وتكون الجملة المعترضة أعني قوله: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ [سورة الأنعام:60] لتقرير هذا المعنى وتوضيحه وما إلى ذلك.
"ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [سورة الأنعام:60] أي: في النهار".

قوله: "أي: في النهار" هذا قال به أيضاً كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - وقال ابن كثير: قاله مجاهد، وقتادة، والسدي.
وبعضهم يقول: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير يكون هكذا: وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار، ويعلم ما جرحتم فيه بعد انقضاء الليل، فينتشرون في مصالحهم كما ذكر الله بأنه جعل النهار معاشاً، وأما الليل فهو يسبتون فيه، وينقطعون فيه عن الأشغال والأعمال، ويخلدون فيه إلى الراحة.
وبعضهم يقول: إن قوله: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [سورة الأنعام:60] أي: في المنام.
"وقوله: لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى [سورة الأنعام:60] يعني به أجل كل واحد من الناس".

الأجل المسمى هنا يراد به الموت، وهو أحسن ما يفسر به، وهو اختيار بن جرير - رحمه الله - وما عداه من الأقوال ففيها بعد.
"ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ [سورة الأنعام:60] أي يوم القيامة ثُمَّ يُنَبِّئُكُم [سورة الأنعام:60] أي: فيخبركم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:60] أي: ويجزيكم على ذلك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر".

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] أي: إذا نمتم، وفي ذلك اعتبار، واستدلال على البعث الأخروي."

يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فهذا يشير إلى، يعني يبعثهم في النار، فهذه إماتة، وبعث تتكرر، تدل على قدرته - تبارك، وتعالى - على بعثهم بعد إماتهم في الآخرة، يبعثهم في الآخرة.

"قوله تعالى: ما جَرَحْتُمْ [الأنعام: 60] أي: ما كسبتم من الأعمال."

الاجتراح هو الاكتساب، ويقال: لاكتساب الإثم، لأن أصل الجرح: الكسب، يقال أيضًا: لشق الجلد، وذكر ابن جرير - رحمه الله - أن أصله عمل الرجل بيده، أو رجله، أو فمه[1] وهي الجوارح، ثم قيل: لكل مكتسب عملاً: جارحاً، بأي طريق كان، يجترح، يعني بفمه مثل: الكلام الذي يتكلم به، ونحو ذلك.

"قوله تعالى: يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام: 60] أي: يوقظكم من النوم، والضمير عائد على النهار؛ لأن غالب اليقظة فيه، وغالب النوم بالليل."

هذا الضمير يقول: عائد على النهار يَبْعَثُكُمْ فِيهِ يعني: النهار، هذا قاله مجاهد، وقتادة، والسدي[2] وهو اختيار الإمامين: ابن جرير[3] وابن كثير[4].

وقال: لأن غالب اليقظة فيه، وغالب النوم بالليل، وبعضهم يقول: فيه تقديم، وتأخير، والتقدير: هو الذي يتوفاكم بالليل، ثم يبعثكم بالنهار، ويعلم ما جرحتم فيه، لكن هذا خلاف الأصل؛ لأن الكلام إذا دار بين الترتيب، أو التقديم، والتأخير، فالأصل: الترتيب، الأصل: الترتيب لأنه كما ذكره الله ولا يسار إلى دعوى التقديم، والتأخير؛ إذا أمكن حمل الكلام على معنًى يستقيم بغير ذلك.

وبعضهم يقول: ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام: 60] أي: المنام وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ [الأنعام: 60] هو يعلم، قالوا هذا كله باعتبار أن الله يعلم ما يجترحه الناس بالليل، والنهار، وليس بالنهار فقط، لكن يمكن أن يقال: بأن ذلك خُصَّ بالنهار، باعتبار أن أكثر الكسب، والعمل، والانتشار فيه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام: 60] أي في النهار.

 "قوله تعالى أَجَلٌ مُسَمًّى​​​​​​​ [الأنعام: 60] أجل الموت."

أجل الموت، يعني يقضي الأجل الذي حدده لحياتكم، فتفسير ذلك الأجل المسمى بالموت، هو اختيار ابن جرير - رحمه الله -[5] والحافظ ابن كثير يقول: "هو أجل كل، واحد من الناس"[6].

  1.  تفسير الطبري (9/285).
  2.  تفسير ابن كثير (3/266).
  3.  تفسير الطبري (9/287).
  4.  تفسير ابن كثير (3/266).
  5.  تفسير الطبري (9/287).
  6.  تفسير ابن كثير (3/266).