المقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام، وزجره عنها، ونهاه كما قال: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً [سورة الأنعام:74]".
الله - تبارك وتعالى - هنا سمى أبا إبراهيم بآزر، وهكذا يجب أن يقال لا أن نتعدى القرآن، فهو أصدق الكلام.
والعجيب أن كثيراً من المفسرين، ومن المؤرخين يقولون: إن اسم أبي إبراهيم هو تارَخ، وهذا إنما تلقونه من المرويات عن بني إسرائيل؛ مع أن هذه الكتب - كما هو معلوم - قد دخلها من التحريف الشيء الكثير.
وبعضهم يقول: إن قوله: إن آزر هو عمه، ويزعمون أن القرينة في ذلك هو أنه ذكر الأبوة مع الاسم فقال: لأَبِيهِ آزَرَ [سورة الأنعام:74] يقولون: لو كان اسم أبيه آزر لقال: وإذ قال إبراهيم لأبيه، أو قال: وإذا قال إبراهيم لآزر - هكذا زعموا -؛ وهذا غير صحيح، ولا حاجة إليه؛ لأن الله ذكر أبوته، وذكر اسمه.
وبعضهم يقول: إن اسمه تارخ وأن آزر هو لقب له، وهؤلاء كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين هذا وهذا، ونحن نقول: إذا ثبت في القرآن شيء فلا يُشتغل بغيره، ولا نحاول أن نوفق بين ما جاء في القرآن، وبين ما جاء في كلام الناس - لا سيما أهل التحريف، والتبديل، والكذب على الله ، وعلى الأنبياء عليهم السلام -.
وزعم بعضهم أن الاسم هو تارخ وأن آزر للسب، والذم، ويقولون: إن معناها معوج، وعلى هذا يكون الكلام - هكذا في زعمهم -: وإذ قال إبراهيم لأبيه معوج يعني قال له: أنت معوج أي: منحرف، ويقولون: إن هذه أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه، وهذا غير صحيح، وليس هو المتبادر من القرآن.
وبعضهم يقول: إن آزر هذا اسم صنم، وأطلق على أبي إبراهيم باعتبار أنه عابد له، وهذا من أعجب الأقوال.
وبعضهم يقول: على تقدير محذوف هكذا: يا عابد آزر، وبعضهم يقول: على سبيل الاستفهام تقديره: أتعبد آزر؟
وهذا كله خلاف ظاهر القرآن، وإنما اسمه آزر، وأما تارخ فلا تثبت، ولا نشتغل بمثل هذا، ولا ينبغي أن نحاول التوفيق بين هذا وبين ما في القرآن، فليبحثوا لتارخ هذه تخريجاً، فإن صحت فليقولوا: هي لقب أو غير ذلك؛ أما آزر فلا نتعرض لها من أجل أن نبقي على ما ذكره هؤلاء، فهذا غير صحيح إطلاقاً، ولولا كثرة من ذكره لم نتعرض له - والله تعالى أعلم -.
وقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا [سورة مريم:41-48] فكان إبراهيم يستغفر لأبيه مدة حياته، فلما مات على الشرك، وتبيّن إبراهيم ذلك؛ رجع عن الاستغفار له، وتبرأ منه كما قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة:114].
وثبت في الصحيح أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة، فيقول له آزر: يا بني اليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: أي ربِّ ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي من أبي الأبعد؟ فيقال: يا إبراهيم انظر ما وراءك، فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه؛ فيلقى في النار".