قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82] يحتمل أن يكون من تمام قول إبراهيم ﷺ، أي أن إبراهيم ﷺ قال لهم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:81]، ثم أجاب فقال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82] وإن كانت الآية تحتمل هذا إلا أن غير هذا القول قد يكون أولى منه، أي القول الذي عليه عامة أهل العلم وهو أن ذلك من قول الله - تبارك وتعالى - قاله على سبيل الفصل بين الفريقين، وذلك أنه لما قال لهم إبراهيم ﷺ ما قال، حكم الله بينهم فقال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] وهذا مما يسمونه بالموصول لفظاً المقطوع معنىً، وله نظائر في القرآن ومن ذلك قول الله فيما جرى من امرأة العزيز: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] فهذا الكلام يحتمل أن يكون من تمام كلام امرأة العزيز، فهي قالت: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ [سورة يوسف:51] ثم قالت: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] فهذا يحتمل أن يكون من كلامها وتقصد به زوجها باعتبار أنها تقول: إنها حصلت مراودة فقط، ولم تحصل خيانة بالغيب أكثر من ذلك، كما أنه يحتمل أن يكون من كلامها أيضاً لكن باعتبار أنها أرادت بقولها: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] يوسف ﷺ فهو - عليه الصلاة والسلام - كان في السجن، فحينما طُلِبَ أبى أن يخرج حتى يظهر صدقه، وبراءته، ونزاهته أمام الناس، فقالت: أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [سورة يوسف:51]، وعقبت بقولها: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] أي أنها تقول: لا أقول فيه إلا الصدق، والعدل، والحق، ولا أفتري عليه في غيبته.
ويحتمل أن يكون قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] من كلام يوسف ﷺ والمعنى أنه يقول: ذَلِكَ يعني أنا طلبت هذا التحقيق ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب، أي أني أدخلت السجن بتهمة فلا يمكن أن أخرج من غير أن تظهر براءتي، وينكشف الأمر على حقيقته، بل لا بد أن يعرف أني لم أخنه بالغيب، وعلى هذا القول يكون من الموصول لفظاً المقطوع معنىً.
وهذا الأسلوب أنواع ففي قول الله في سورة الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء [سورة الأعراف:189-190] فقوله: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء إما أن يكون راجعاً إلى ما قبله باعتبار أن هذا حصل من آدم وحواء، أو يكون من الموصول لفظاً المقطوع معنىً باعتبار أن الحديث انتقل إلى الذرية، وما وقع عندهم من الإشراك، وأمثلة هذا كثيرة في القرآن ومنه قوله تعالى هنا في سورة الأنعام: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] فهذا يحتمل أن يكون من قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، ويحتمل أن يكون من قول الله باعتبار أنه حكم بين الفريقين، وهذا هو الأقرب، وهو الذي عليه عامة المحققين كابن جرير، وابن القيم، والشنقيطي، وأبعد الأقوال أنه هذا من قول الكفار الذين ناظرهم إبراهيم كما يقول بعض المفسرين.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82] شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله! أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13] إنما هو الشرك[2].
هذا وقع للصحابة حينما استشكلوا قوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82] فقالوا ما قالوا باعتبار ما فهموه من لغتهم، وذلك أن لفظة "ظُلم" نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي للعموم فقوله: وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82] أي بأي نوع من أنواع الظلم سواء كان ذلك كبيراً أو صغيراً، هذا الذي يفهم من ظاهر الكلام، وهو مقتضى لغة العرب، ولكن بيّن لهم النبي ﷺ أن هذا من قبيل العام المراد به الخصوص أي: أنه نوع خاص من الظلم وهو الشرك، ففسرها لهم النبي ﷺ، وهذا من قبيل التفسير النبوي الذي فسر فيه النبي ﷺ القرآن بالقرآن، حيث فسره بآية لقمان، والقاعدة أن التفسير إذا ثبت عن النبي ﷺ فإنه لا يلتفت إلى قول أحد بعده.
والتفسير النبوي نوعان: نوع منه يدخله الاجتهاد وهو ما لم يتعرض فيه النبي ﷺ للآية، فهذا قد يخطئ المفسر، وقد يصيب بتفسيره به، ونوع لا يدخله الاجتهاد وهو الذي ذكر فيه النبي ﷺ الآية، وفسرها كما في هذه الآية، فهذا من أجلى صوره إذا صحَّ فلا مجال للنظر في قول أحد سواه، وبهذا نعرف جرأة الزمخشري حينما قال عند هذه الآية: إن تفسير الظلم بالشرك مع لفظ اللبس في الآية لا يتأتى - نسأل الله العافية - فهو فهم أن اللبس هو مجرد الخلط، وأنه لا يجتمع الشرك مع الإيمان، وأن الشرك إذا حدث أفسد الإيمان ولم يُبقِ منه شيئاً، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنه يمكن أن يبقى إيمان مخروم لا ينفع صاحبه كما قال الله : وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:106] فيوجد في الإنسان إيمان وشرك، وإيمان ونفاق؛ لكن قد يكون هذا الشرك أو النفاق من النوع الأكبر، فهذا من هذا النوع، والله أعلم.
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - في تفسير قوله: وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82] ذكر كلاماً جيداً فقال: إن النبي ﷺ ما قال: ولم يظلموا أنفسهم؛ لأنه لو قال: لم يظلموا أنفسهم فإن ذلك سيتطرق إلى أي نوع من أنواع الظلم، ولكن قال: وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم ولبس الشيء بالشيء تغطيته، وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمان، ويحيط به، ويلبسه؛ إلا الكفر كما قال الله : بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [سورة البقرة:81] فالخطيئة التي تحيط بالإنسان إنما هي الشرك، فلا يحيط شيء من الذنوب بالإنسان فيكون هالكاً إلا الإشراك بالله - تبارك وتعالى -، فهذا هو القول الذي لا ينبغي العدول عنه بحال من الأحوال، إلا أن يقول قائل: إن هذا المعنى متحقق بلا مرية، لكن قد يكون في الآية أيضاً دلالة على معنىً آخر أعني قوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [سورة الأنعام:82] وذلك فيما يتعلق بالنجاة، وتحقق الخلاص، ووجود شيء من الأمن للإنسان في الدنيا، والآخرة، وأن هذا يحصل للإنسان بالإيمان الصحيح المنجي، ولو وجد عنده ذنوب؛ إذ لا ينتفي عنه الإيمان بالكلية إلا إذا وجد عنده ما يخرم هذا الإيمان من الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، أو الشرك الأكبر؛ فهذا لا يبقى عنده شيء من الأمن لانتفاء الإيمان بالكلية، لكن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فالحكم هنا أن لهم الأمن فهو معلق على وصف هو أنهم آمنوا إيماناً بهذه الصفة بحيث لم يخلطوه بظلم، فهذا الحكم يزيد بزيادة الإيمان، وينقص بنقصانه، فهو يزيد من أمن الإنسان في الدنيا، ويوم القيامة، ويزيد من اهتدائه بقدر ما حقق من الإيمان الذي لم يخالطه ظلم ولو بالمعاصي، وذلك أن المعاصي، والذنوب؛ تؤثر في أمن الإنسان، فالناس يأتون آمنين يوم القيامة بقدر ما عندهم من تقوى لله ، ويكون لهم من الاهتداء بقدر ما عندهم من الإيمان، والاستقامة على الصراط المستقيم، ومعلوم أن الذنوب والمعاصي متفرعة من شجرة الكفر، كما أن الطاعات متفرعة من شجرة الإيمان، فالإنسان إذا عمل المعاصي فإنه لا يكون خارجاً من الإسلام بذلك كما يزعم الخوارج، لكن عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فإذا عمل الإنسان المعاصي نقص إيمانه، وإذا ازداد من الطاعات ازداد إيمانه، فالناس يتفاوتون في الإيمان، وبناء عليه يتفاوتون في الأمن والاهتداء، وقوله: أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] يشمل الأمن والاهتداء في الدنيا، والأمن والاهتداء في الآخرة، والاهتداء منه الاهتداء إلى معرفة الصواب والحق، وما اختلف فيه الناس، والاهتداء على خير الخيرين، والاهتداء بالتوفيق إلى العمل الصالح، والاهتداء إلى العمل بالعلم، والاهتداء أيضاً إلى الثبات على الحق إلى الممات، وأن يختم له بذلك، كل هذا من الاهتداء كما قال تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] ومنه الاهتداء بعد الموت عند سؤال الملكين حينما يسألانه فهو يحتاج إلى هداية وتثبيت كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ [سورة إبراهيم:27] وكذلك الاهتداء عند الحساب، والاهتداء إلى الصراط، ولهذا قال الله : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4-5] أي: يهديهم بعد ما قتلوا إلى الصراط، وعلى الصراط، ويهديهم إلى الجنة، ويهديهم إلى منازلهم في الجنة، فهذه هدايات في الآخرة.
كما أن أهل الإيمان يحصل لهم الأمن في الدنيا بقدر إيمانهم، وأما المشرك، أو الكافر، أو العاصي؛ فإنه يختل أمنه واهتداؤه بقدر ما اختل إيمانه، ولذلك فهو يعيش في قلق، وتساوره الهموم، والأوهام، ويعيش في حال من النكد، والكدر، والتخوف على مستقبله، وعلى مستقبل أولاده، ولا يدري ما ينتابه، وأما المؤمن فإنه مطمئن النفس، قرير العين، وإن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
والخلاصة أن الأمن والاهتداء ينتفيان تماماً من الإنسان إذا وجد عنده الإشراك، وينقص من أمنه، واهتدائه؛ بقدر ما نقص من إيمانه، هذا تفصيل لو قال به قائل فإن ذلك لا يُعدُّ تكذيباًَ ورداً لتفسير النبي ﷺ للآية - والله تعالى أعلم -.
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب ظلم دون ظلم (32) (ج 1 / ص 21).
- أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [سورة لقمان:12] (3246) (ج 3 / ص 1262) ومسلم في كتاب الإيمان - باب صدق الإيمان وإخلاصه (124) (ج 1 / ص 114) وأحمد (3589) (ج 1 / ص 378) واللفظ لأحمد.