يقول تعالى: آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [سورة الأنعام:89] المراد بالكتاب هنا جنس الكتاب، وقد أنزل الله منه التوراة، والإنجيل، والقرآن، وأما الحكم ففسره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - بأنه الفهم بالكتاب، ومعرفة ما فيه من الأحكام.
وقوله: هَؤُلاء يعني أهل مكة، قاله ابن عباس - ا -، وسعيد بن المسيب والضحاك، وقتادة والسدي، وغير واحد".
السورة كما سبق أنها سورة مكية فقوله: فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء [سورة الأنعام:89] يعني من مشركي قومك فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89].
والحافظ ابن القيم - رحمه الله - حمله على هذا المعنى أي فيمن كفر من قومه أصلاً، وقال: "ويدخل فيه تبعاً كل من كفر".
قوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا وكلنا بها قوماً أي ألزمنا بالإيمان بها، وكلفنا ذلك، وحملناهم هذه الرسالة، والأمانة، والتبعة؛ فقاموا بها خير قيام، وحملوها للناس، ودعوا إليها، ونافحوا عنها، وذبوا عنها غاية الذب، وجاهدوا في سبيل ذلك غاية المجاهدة، وهجروا في ذلك القريب والبعيد من أجل ما يعتقدون، فكان ذلك منهم من القيام بحق هذه النعمة على الوجه المطلوب، ومعرفة حقها، وقدرها، بخلاف هؤلاء الذين كفروا بها.
وهؤلاء الذين أشار الله إليهم بقوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] قال: هم المهاجرون، والأنصار، وأتباعهم إلى يوم القيامة، وهذا وجهٌ حسن، وبعضهم يقول هم الأنبياء المذكورون، أي أن قوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] يعني إن كفرتم بها أيها المشركون فقد وكلنا بها قوماً وهم هؤلاء الذين عدهم الله - تبارك وتعالى -، وهذا هو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وبعضهم يقول: هم الملائكة، وهذا في غاية البعد، وبعضهم يقول: هم الصحابة ولا يخص ذلك بالمهاجرين، والأنصار ، وبعضهم يقول: هي في كل مؤمن، وهذا يرجع إلى قول ابن كثير على كل حال حيث قال: "هم المهاجرون، والأنصار، ومن تبعهم إلى يوم القيامة"، وبعضهم يخص ذلك بالأنصار، بمعنى أنه قد كفر بها أهل مكة فآمن بها أهل المدينة من الأوس، والخزرج، وانتقل النبي ﷺ إليهم.
ومثل الحافظ ابن القيم - رحمه الله - يرى أن ما ذكره كبير المفسرين ابن جرير من أنها في الأنبياء الذين ذكرهم الله أنه صحيح، ويدخل فيه من تبعهم من أهل الإيمان، فيدخل فيه من قام بدين الله ، ونصره، ودعا إليه، وذب عنه، وأولى من يدخل بذلك الوصف هم المهاجرون، والأنصار وأرضاهم، وسائر أهل الإيمان داخلون في ذلك تبعاً، ولابن القيم - رحمه الله - كلام جيد في هذا المعنى لعله يحسن قراءته.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
"وأيضاً فإن تحت هذه الآية إشارة، وبشارة بحفظها؛ وأنه لا ضيعة عليها، وأن هؤلاء - وإن ضيعوها، ولم يقبلوها -؛ فإن لها قوماً غيرهم يقبلونها، ويحفظونها، ويرعونها، ويذبون عنها، فكفر هؤلاء بها لا يضيعها، ولا يذهبها، ولا يضرها شيئاً، فإن لها أهلاً ومستحقاً سواهم، فتأمل شرف هذا المعنى، وجلالته، وما تضمنه من تحريض عباده المؤمنين على المبادرة إليها، والمسارعة إلى قبولها، وما تحته من تنبيههم على محبته لهم، وإيثاره إياهم؛ بهذه النعمة على أعدائهم الكافرين، وما تحته من احتقارهم، وازدرائهم، وعدم المبالاة، والاحتفال بهم، وإنكم وإن لم تؤمنوا بها فعبادي المؤمنون بها، الموكلون بها سواكم كثير كما قال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [سورة الإسراء:107-108].
وإذا كان للملك عبيد قد عصوه، وخالفوا أمره؛ فنظر إليهم وقال: إن يكفر هؤلاء نعمي، ويعصوا أمري، ويضيعوا عهدي؛ فإن لي عبيداً سواهم وهم أنتم تطيعون أمري، وتحفظون عهدي، وتؤدون حقي؛ فإن عبيده المطيعين يجدون في أنفسهم من الفرح، والسرور، والنشاط، وقوة العزيمة ما يكون موجباً لهم المزيد من القيام بحق العبودية، والمزيد من كرامة سيدهم، ومالكهم، وهذا أمر يشهد به الحس، والعيان، وأما توكيلهم بها فهو يتضمن توفيقهم للإيمان بها، والقيام بحقوقها، ومراعاتها، والذب عنها، والنصيحة لها؛ كما يوكل الرجل غيره بالشيء ليقوم به، ويتعهده، ويحافظ عليه، وبِهَا الأولى متعلقة بـوَكَّلْنَا [سورة الأنعام:89] وبِهَا الثانية متعلقة بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89]، والباء في بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] لتأكيد النفي، فإن قلت: فهل يصح أن يقال لأحد هؤلاء الموكلين أنه وكيل الله بهذا المعنى كما يقال ولي الله؟
قلت: لا يلزم من إطلاق فعل التوكل المقيد بأمر ما أن يصاغ منه اسم فاعل مطلق، كما أنه لا يلزم من إطلاق فعل الاستخلاف المقيد أن يقال: خليفة الله؛ لقوله: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ [سورة الأعراف:129].
وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [سورة النور:55] فلا يوجب هذا الاستخلاف أن يقال لكل منهم إنه خليفة الله؛ لأنه استخلاف مقيد.
ولما قيل للصديق : يا خليفة الله، قال: "لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله ﷺ، وحسبي ذلك".
ولكن يسوغ أن يقال: هو وكيل بذلك كما قال تعالى: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا [سورة الأنعام:89] والمقصود أن هذا التوكيل خاص بمن قام به علماً، وعملاً، وجهاداً لأعدائها، وذباً عنها، ونفياً لتحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وأيضاً فهو توكيل رحمة، وإحسان، وتوفيق، واختصاص؛ لا توكيل حاجة كما يوكل الرجل من يتصرف عنه في غيبته لحاجة إليه، ولهذا قال بعض السلف: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا [سورة الأنعام:89] يقول: رزقناها قوماً، فلهذا لا يقال لمن رزقها، ورحم بها؛ إنه وكيل الله، وهذا بخلاف اشتقاق ولي الله من الموالاة فإنها المحبة، والقرب، فكما يقال عبد الله، وحبيبه، يقال: والله - تعالى - يوالي عبده إحساناً إليه، وجبراً له، ورحمة؛ بخلاف المخلوق فإنه يوالي المخلوق لتعززه به، وتكثره بموالاته؛ لذل العبد، وحاجته، وأما العزيز الغني فلا يوالي أحداً من ذل، ولا حاجة.
قال تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [سورة الإسراء:111] فلم ينف الولي نفياً عاماً مطلقاً بل نفى أن يكون له ولي من الذل، وأثبت في موضع آخر أن له أولياء بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62]، وقوله: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ [سورة البقرة:257] فهذا موالاة رحمة، وإحسان، وجبر، والموالاة المنفية موالاة حاجة، وذلّ.
ولما ذكر - سبحانه - في سورة الأنعام أعداءه، وكفرهم، وشركهم، وتكذيب رسله؛ ذكر في أثر ذلك شأن خليله إبراهيم ، وما أراه من ملكوت السماوات، والأرض، وما حاج به قومه في إظهار دين الله وتوحيده، ثم ذكر الأنبياء من ذريته، وأنه هداهم، وآتاهم الكتاب، والحكم، والنبوة، ثم قال: فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [سورة الأنعام:89] فأخبر أنه - سبحانه - كما جعل في الأرض من يكفر به، ويجحد توحيده، ويكذب رسله؛ كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك، ويصدق بما كذبوا به، ويحفظ من حرماته ما أضاعوه، وبهذا تماسك العالم العلوي والسفلى، وإلا فلو اتبع الحق أهواء أعدائه لفسدت السماوات، والأرض، ومن فيهن، ولخرب العالم، ولهذا جعل - سبحانه - من أسباب خراب العالم رفع الأسباب الممسكة له من الأرض، وهي كلامه، وبيته، ودينه، والقائمون به، فلا يبقى لتلك الأسباب المقتضية لخراب العالم أسباب تقاومها، وتمانعها، ولو كان اسم الحليم أدخل في الأوصاف، واسم الصبور في الأفعال..." انتهى.
هذا الكلام في غاية النفاسة، ولا تكاد تجد مثله في كتب التفسير، ولذلك نقول: من أراد أن ينمِّي ملكته، وأن يوسِّع مداركه في التفسير؛ فينبغي أن يدمن قراءة كلام شيخ الإسلام، وكلام ابن القيم، وكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وتفسير ابن جرير الطبري، ولا يستغني عن تفسير ابن كثير - رحمهم الله جميعاً -، بل عليه أن يكثر من القراءة في هذه الكتب.