الإثنين 28 / ذو القعدة / 1446 - 26 / مايو 2025
أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ ۗ قُل لَّآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَٰلَمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال - تعالى - مخاطباً عبده ورسوله محمداً ﷺ: أُوْلَئِكَ [سورة الأنعام:89] يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء، والذرية، والإخوان، وهم الأشباه الَّذِينَ هَدَى اللّهُ [سورة الأنعام:90] أي: هم أهل الهدى لا غيرهم".

قوله: "مع من أضيف إليهم من الآباء، والذرية، والإخوان، وهم الأشباه" يعني بذلك قوله تعالى: وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ [سورة الأنعام:87] فالأشباه أو المتشبهون بغيرهم هم إخوان للمتشبه بهم كما هو أحد المعاني في قوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [سورة الإسراء:27] حيث قيل: يعني أشباه الشياطين؛ لأنهم تشبهوا بهم في هذا، وكل من سار على سنة غيره، واتبعه، واقتفى أثره، أو اشترك معه في العاقبة؛ فإنه يقال له ذلك، والله أعلم.
"فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90] أي: اقتدِ واتبع، وإذا كان هذا أمراً للرسول ﷺ، فأمته تبعٌ له فيما يشرعه، ويأمرهم به.
روى البخاري عند هذه الآية أن مجاهداً سأل ابن عباس - ا - أفي "ص" سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [سورة الأنعام:84] إلى قوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90] ثم قال: هو منهم، زاد في رواية عن مجاهد: قلت: لابن عباس فقال: "نبيكم ﷺ ممن أمر أن يقتدي بهم"[1]".

بمعنى أن داود ﷺ سجدها فسجدها النبي ﷺ، فهذا جاء عن النبي ﷺ، فيقال: يفعل اتباعاً للنبي - عليه الصلاة والسلام -.
وقوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [سورة الأنعام:90] بعض أهل العلم حمل ذلك على عبادة الله ، وطاعته، والاستقامة على دينه وما أشبه ذلك.
وبعضهم يحتج بهذه الآية على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم ينسخ، وهذه المسألة فيها قولان مشهوران لأهل العلم، منهم من يقول: هو شرعٌ لنا ما لم ينسخ، وبعضهم يقول: ليس بشرع لنا إلا ما ورد في شرعنا من موافقته، وتقريره مثل سجدة "ص".
والواقع أن هذا يكون من قبيل الاتباع للنبي ﷺ، وليس من اتباع شرع من قبلنا، وبناءً على هذا استنبط العلماء أشياء كثيرة مما ورد في قصص الأنبياء، ففي قوله - تبارك وتعالى -: خَرَقَهَا [سورة الكهف:71] أي: الخضر، قالوا: يؤخذ منه جواز إفساد البعض لإبقاء واستصلاح الكل أو الباقي.
وفي قوله تعالى في قتل الغلام: فَقَتَلَهُ [سورة الكهف:74] ثم بيَّن ذلك، وعلله؛ بأن الغلام له أبوان على الإيمان فقال: فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] فهنا هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه، بمعنى أن القاضي إذا كان يعرف أن هذا الإنسان سيء، وسارق، وفاجر؛ فهل يحكم عليه بناء على هذه المعلومات التي عنده أم لا بد أن يسمع البينات، وكلام الشهود، ثم يحكم بناءً على ما يسمع؟
على كل حال إن جاء في شرعنا ما يوافق شرع من قبلنا فهذا لا إشكال في أنه يعمل به، وإن جاء في شرعنا ما يخالفه فهذا لا إشكال أنه لا يعمل به، لكن يبقى النظر فيما لم يأت في شرعنا ما يوافقه أو يخالفه هل يعمل به أم لا؟
"وقوله تعالى: قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [سورة الأنعام:90] أي: لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجراً أي أجرة، ولا أريد منكم شيئاً".

هذا يؤخذ منه أنه إذا كان هذا قاله الله لنبيه ﷺ، فكذلك الدعاة من بعده لا يأخذون أجراً على دعوتهم وما يقدمونه للناس، لا مباشرةً، ولا بطريقٍ غير مباشر عملاً بقوله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ [سورة سبأ:47] فالدعوة تقدم، وتبذل للناس مجاناً دون أن يطلب من المدعوين مقابلاً على ذلك، فالداعية إلى الله - تبارك وتعالى - ينبغي أن يكون أمره لله في كل شؤونه، لا ينتظر من الناس شيئاً، ولا يأخذ على دعوته أجراً لا مباشرةً بأن يطلب مقابل على هذا، ولا بطريق غير مباشر كأن يكلف الناس أشياء تحتاج إلى نفقات وما أشبه ذلك من أجل أن يتفضل عليهم بدرسٍ، أو محاضرةٍ، أو دورة أو نحو هذا فهذا لا يليق، وكذلك الأمر أيضاً حينما يذهب معهم في حجٍ أو نحو ذلك لا ينبغي يطلب منهم شيئاً، أو يشترط عليهم شيئاً، وإذا أعطي شيئاً لا يليق به أن يأخذه بحالٍ من الأحوال.
وهكذا أيضاً لا يصلح أن يبيع ما يبذله، ويقدمه؛ من محاضرات، وأشرطة؛ فذلك يؤدي إلى أن تنطفئ نور الكلمة، ويذهب أثرها، وتبقى الكلمات ميتة تخرج من فم الإنسان، ولا أثر لها، ولا نفع - نسأل الله العافية -، فالدعوة تبذل للناس مجاناً لا يؤخذ عليها مقابل، وإلا فإن هذا يعني نهاية الداعية، وذلك بأن يقبر وهو حي، بمعنى أنه يتكلم ويلقي؛ لكن كلامه لا يجاوز الأسماع، ولا يكون فيه بركة، ولا نفع؛ مهما تأول في ذلك، نسأل الله العافية.
"إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [سورة الأنعام:90] أي: يتذكرون به، فيرشدوا من العمى إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الكفر إلى الإيمان".
  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة الأنعام (4356) (ج 4 / ص 1695).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [الأنعام: 90] إشارة إلى الأنبياء المذكورين فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] استدل به من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فأما أصول الدين من التوحيد، والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فاتفقت فيه جميع الشرائع، وأما الفروع ففيها وقع الاختلاف بين الشرائع، والخلاف: هل يقتدي النبي ﷺ فيها بمن قبله أم لا ؟ والهاء في اقْتَدِهْ للوقف فينبغي أن تسقط في الوصل، ولكن من أثبتها فيه راعى ثبوتها في خط المصحف."

هذه التي يسمونها هاء السكت، دخلت لتبيين حركة الدال اقْتَدِهْ وهذه اقْتَدِهْ تحذف لفظًا في الوصل دون الوقف، هذا مروي عن حمزة، والكسائي[1] والباقين يثبتونها أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].

يقول: ولكن من أثبتها راعى خط المصحف.

أما مسألة شرع من قبلنا، فالكلام فيها معروف، وسبق في بعض المناسبات، بعضهم يقول: شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم ينسخ، وبعضهم يقول: ليس بشرع لنا إلا ما جاء في شرعنا موافقًا له؛ فيكون المعمول به ما جاء في شرعنا، هذا خلاف بين الأصوليين معروف.

وقوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يمكن أن يحمل على أصول الدين، التي لا تختلف، والمفسرون كثيرًا ما يستنبطون من قصص الأنبياء أحكامًا، يستنبطون أحكامًا، يعني مثل الخضر لما خرق السفينة، في قصة الخضر مع موسى  في مسألة جواز إتلاف البعض في سبيل إبقاء الكل، أو استصلاح الكل، في قتل الغلام، هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه؟.

وفي قصة يوسف وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف: 72] الكفالة، والضمان، والجعالة، حمل بعير، وكذلك أيضًا في باب الحيل المباحة كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] ولكن لا شك أن ما جاء في شرعنا ما يخالفه أنه لا عبرة به، يعني مثلاً السجود: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف: 100] ليوسف جاء في الشرع ما يخالفه قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف: 21] في خلاف من الذين قالوا هذا، وقد مضى في بعض المناسبات في المصباح فهل هم الكفار؟

وبعضهم يقول: الذين قالوا هذا هم المؤمنون؛ لأنهم يعرفون المساجد، فهذا في شرعنا ما يخالفه، والنهي عنه، والتحذير، بل لا يصح القول بأنهم أهل الإيمان؛ لأن النبي ﷺ قال: لعن الله اليهود، والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[2] فلو كان ذلك مباحًا لهم لم يلعنهم - والله أعلم -.

  1.  تفسير القرطبي (7/36).
  2.  أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي ﷺ وأبي بكر، وعمر - ا - رقم: (1390) ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد، على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (529).