الأحد 27 / ذو القعدة / 1446 - 25 / مايو 2025
وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦٓ إِذْ قَالُوا۟ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِى جَآءَ بِهِۦ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُۥ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوٓا۟ أَنتُمْ وَلَآ ءَابَآؤُكُمْ ۖ قُلِ ٱللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ۝ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ [سورة الأنعام:91-92].
يقول الله تعالى: وما عظموا الله حق تعظيمه؛ إذ كذبوا رسله إليهم، قال ابن عباس - ا - ومجاهد، وعبد الله بن كثير: "نزلت في قريش، وقيل نزلت في طائفة من اليهود قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] كما قال: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ [سورة يونس:2]".

قوله: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [سورة الأنعام:91] أي: ما عظموه حق تعظيه؛ لأنهم قالوا: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] فمن عرف الله حق المعرفة، وعرف حكمته، وكمال عدله فإنه يحكم بأن الله - تبارك وتعالى - حكيم في غاية الحكمة، وأن مقتضى عدله أن يرسل الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وأن ينزل الكتب، وهذا أيضاً من كمال رحمته بالخلق.
يقول تعالى: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] من نظر إلى أن السورة مكية، وأن السياق السابق كان في المشركين، وأن السورة نزلت جملة واحدة قال هذه الآية في المشركين من قريش، وهذا اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - قاله لهذا السبب، والله تعالى أعلم.
والقول الآخر إنها في اليهود، وهذا يؤيده سبب النزول الذي جاء عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة - وقد عرفنا أن هذا الإسناد إسناد جيد -، وفيه أن اليهود قالوا: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] فأنزل الله: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ [سورة الأنعام:91] وهذا القول يشكل عليه أن السورة مكية، فكيف تكون نزلت بسبب قول اليهود؟ كما أن القول بأنها نزلت في المشركين يشكل عليه ما ذكر بعده: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] فالذي فعل هذا هم اليهود قطعاً وليس مشركو قريش.
وهذا كله يذكِّر بما ذكرناه في أول السورة أن بعض أهل العلم استثنى بعض الآيات وقال: إنها مدنية نظراً لمثل هذا كما أنه يمكن أن يقال - كما سبق أيضاً - أن الآية قد تنزل مرتين.
وابن جرير - رحمه الله - كان يقرأ بالقراءة الأخرى: يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً فعلى هذه القراءة يكون السياق حكاية عن اليهود هكذا: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدىً للناس يجعلونه قراطيس يبدونها وعلى هذه القراءة تكون الآية نازلة في المشركين دون إشكال، لكن قد عرفنا أن تعدد القراءات ينزَّل منزلة تعدد الآيات، فإذا كان للآية أكثر من قراءة فهما بمنزلة الآيتين، أو الآيات المتعددة.
ولهذا فإن ابن القيم - رحمه الله - في ظاهر كلامه يرى أن هذه الآية في كل من قال ذلك أي قاله المشركون، وقاله اليهود؛ فيدخل فيه هؤلاء وهؤلاء.
وأجاب - رحمه الله - عن الإشكال في قوله: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] بأن هذا من باب الاستطراد، أي أن الله - تعالى - ذكر هذا لإيضاح قضية حيث استطرد من شيء إلى نظيره وشبيهه وما أشبه ذلك بمعنى أنه قال: إذا كان قوله: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] في المشركين، فمعنى ذلك أنه رد عليهم بهذا؛ لأنهم قد لا ينكرون بأن الله أنزل على موسى كتاباً، فالمشركون من قريش يعرفون هذا، فهو احتج عليهم بما يعرفونه، وما يسلمون به فقال: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91]، وعلى فرض أنهم لا يؤمنون بهذا، أو لا يرفعون له رأساً؛ فالمعنى أنه يقول لهم: أنتم جهلة، فاسألوا أهل الكتاب الذين لهم رسوخ في هذا، ويعرفون الكتب والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91]؟ ثم استطرد في ذكر اليهود فقال: تجعلونه أيها اليهود قراطيس تبدونها، وتخفون كثيراً.
وقال ابن القيم - رحمه الله -: إن  هذا الأسلوب من الكلام موجود في القرآن ومنه قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ [سورة المؤمنون:12] أي آدم ﷺ، فالكلام في هذه الآية عن آدم الذي هو أصل الخلق، ثم قال: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ۝ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [سورة المؤمنون:13-14] فالمقصود هنا ليس آدم ﷺ، وإنما المقصود ذريته، وبمثل ذلك يقال في آية الأعراف: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ۝ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً [سورة الأعراف:189-190] فالحديث في البداية عن أصل الخلق آدم - عليه الصلاة والسلام - لكن قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا [سورة الأعراف:190] فهنا بدأ يتحدث عن ذرية آدم وليس المراد آدم نفسه.
ومن أمثلة الاستطراد الذي يشبه هذا قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [سورة الزخرف:9] ثم استطرد في ذكر صفته فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا [سورة الزخرف:10] فكان يسألهم من خلق السماوات، والأرض، ثم يحتج عليهم بذكر صفة هذا الخالق ، والخلاصة أن الحافظ ابن القيم يرى آية الأنعام يدخل فيها أهل الإشراك، ويدخل فيها اليهود.
"وكقوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ۝ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94-95] وقال هاهنا: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91].
قال الله تعالى: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91] أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] وهو التوراة التي قد علمتم وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91] أي: ليستضاء بها في كشف المشكلات، ويُهتدى بها من ظلم الشبهات".

هم نفوا نفياً مطلقاً أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً من الوحي إذ قالوا: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] فـ"شيء" نكرة في سياق النفي، وأُكِّدت بـ"من" التي تنقلها من حيز الظهور في العموم إلى حيز التنصيص الصريح في العموم، وفي باب الجدل، والمناظرة؛ يقال: أُبطل هذا الادعاء أو الاحتجاج بما يسمى بالنقض فهم لما قالوا: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] نقض الله - تبارك وتعالى - عليهم هذا بقوله: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91]، والمعنى أن هذه قضية سالبة أعني قولهم: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] فهو نقضها عليهم بقضية موجبة فقال: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91]؟ وبعبارة أخرى يقال: إن قولهم: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:91] رُدَّ بقوله: مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ [سورة الأنعام:91] فإن نفوه كفروا بكتابهم الذي يؤمنون به، وإن قالوا: إن الذي أنزله هو الله تكون مقولتهم الأولى كاذبة أعني قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء، ولهذا فإن من وجوه الجدل، والمناظرة؛ التي وردت في القرآن النقض، ولذلك إذا استطعت أن تثبت شيئاً خلاف ما أنكره الخصم فإنك تكون قد أبطلت قوله، ودعواه، والله أعلم.
"وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] أي: تجعلون جملتها قراطيس أي: قطعاً تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم، وتحرفون منها ما تحرفون، وتبدلون، وتتأولون، وتقولون: هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة البقرة:79] أي: في كتابه المنزل وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:78] ولهذا قال: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91].
وقوله تعالى: وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] أي: ومن أنزل القرآن الذي علَّمكم الله فيه من خبر ما سبق، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك لا أنتم، ولا آباؤكم". ‏

فقوله - تبارك وتعالى -: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] مضت الإشارة إلى أن قراءة الياء (يجعلونه قراطيس يبدونها) يكون في اليهود، وذلك ظاهر من هذه القراءة - والله تعالى أعلم -، وأما على قراءة التاء تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا [سورة الأنعام:91] فمن قال: إن الآية من أولها في اليهود قال: إنه رد عليهم بهذا، فقال مخاطباً لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، وهذا هو الذي يدل عليه ظاهر السياق، ولكن يشكل على هذا كما سبق أن السورة مكية، وذكرنا توجيه الحافظ ابن القيم لهذا المعنى على قراءة تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] أن هذا من باب الاستطراد على قول من قال: إن الآية مكية، وأن ذلك في المشركين من قريش، فلما ذكر الرد عليهم قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] استطرد في ذكر اليهود تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا [سورة الأنعام:91] وذكرنا نظائر ذلك.
وقوله: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا [سورة الأنعام:91] سبق الكلام في موضعين من القرآن عن التحريف، وهل كان الذي قد حرف هو أصل الكتاب، أو أن الذي حرف هي تلك القراطيس التي كانوا يبدونها للناس ولم يقع التحريف في أصل الكتاب، وقد ذكرنا قبل بأن الأقرب من أقوال أهل العلم - والله تعالى أعلم - أن التحريف وقع في أصل كتابهم؛ ويدل على هذا تلك النسخ المنتشرة في الآفاق التي تتناقض غاية التناقض، ولا يوجد ما يثبت في حال من الأحوال أنهم يحتفظون بأصل الكتاب الذي لم يحرف.
وقوله - تبارك وتعالى -: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا يعني تظهرونها للناس وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] هذه الآية أو ما قبل هذه الجملة من قوله: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] هذا مندرج تحت قاعدة معروفة وهي أن القرآن إذا ذكر مقالة قائل فإنه إن لم يذكر معها ما يبطلها، أو يدل على بطلانها قبلها، أو في أثناء ذكرها، أو بعد أن يذكرها؛ فإن ذلك يدل غالباً على صحتها، كما قلنا في قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف:22] فما رد على من قال بالعدد الأخير، فقد يؤخذ منه أن هذا هو القول الصحيح فيهم، وعامة المواضع في القرآن يذكر ما يدل على البطلان كما في هذه الآية: مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ فرد قائلاً: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [سورة الأنعام:91] فرد هذه المقالة، وأبطلها.
وقوله - تبارك وتعالى - في هذه الآية: وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] أي: والحال أنكم علمتم ما لم تعلموا أنتم، ولا آباؤكم، ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية مقررة لمضمون الجملة التي قبلها وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] والذي عُلِّموه هو الذي أخبرهم عنه النبي ﷺ من الأمور التي أوحى الله بها إليه، فهي مشتملة على علم ما لم يعلموه من كتبهم إذا قلنا: إن ذلك يقصد به أهل الكتاب، أي: وعلمتم ما لم تعلموا مما أظهره النبي ﷺ لكم، وأبانه مما ليس في كتابكم.
وكذلك إذا قيل: إن الخطاب متوجه للمشركين، أعني قوله: وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] فيعني عن طريق هذا الوحي الذي أنزله الله على رسوله ﷺ.
ويجوز أن تكون "ما" من قوله: وَعُلِّمْتُم مَّا يقصد بها ما علموه من التوراة؛ ليكون ذلك على وجه الامتنان عليهم بإنزال التوراة، أي: قل لهم: من الذي علمكم هذا، فهذا رد على اليهود، وامتنان عليهم بذلك.
وبعضهم يقول: إن هذا الخطاب للمؤمنين، بمعنى أنه انتقل من الكلام على اليهود أو من الكلام على المشركين ثم قال: وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [سورة الأنعام:91] أي كنتم في جهالة، وعماية، ثم بعث الله لكم هذا النبي فعلمتم من الوحي ما صرتم به بمنزلة عالية رفيعة من العلم والإيمان، فهو يمتن على المؤمنين بهذا، وهذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، وقد يقال والله أعلم: إن ظاهر السياق أن ذلك في اليهود، وأن الله يرد عليهم، ويذكر مننه، وإنعامه، وافضاله الذي كفروه ولم يقابلوه بالشكران - والله تعالى أعلم -.
"وقوله تعالى: قُلِ اللّهُ [سورة الأنعام:91] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: أي: قل الله أنزله.
وقوله: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأنعام:91] أي: ثم دعهم في جهلهم، وضلالهم؛ يلعبون حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين".

مرات الإستماع: 0

"وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91] أي: ما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده، والرحمة لهم، إذ أنكروا بعثه للرسل، وإنزاله للكتب، والقائلون هم اليهود، بدليل ما بعده، وإنما قالوا ذلك مبالغةً في إنكار نبوة محمد ﷺ وروي أن الذي قالها منهم مالك بن الصيف[1] فردّ الله عليهم بأن ألزمهم ما لا بد لهم من الإقرار به، وهو إنزال التوراة على موسى، وقيل: القائلون قريش، وألزموا ذلك لأنهم كانوا مقرين بالتوراة".

قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعني: ما عظموه حق تعظيمه، يقول هنا: "ما عرفوه حق معرفته" هذا التفسير "ما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده" ونحو ذلك، هو من مقتضيات ما ذُكر من التعظيم؛ لأنهم إذا عرفوه معرفةً لائقة عظموه.

يقول: "والقائلون هم اليهود" وجاء من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - أنها نزلت في اليهود حينما قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابًا؛ فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ[2] وهذه الرواية ثابتة عن ابن عباس - ا - وهي أيضًا صريحة بكونها سبب النزول، ومثل هذا قد يُشكل على ما سبق من أن سورة الأنعام نزلت جملةً في مكة؛ ولهذا قال من قال من أهل العلم: بأنه يُستثنى منها آيات نازلة في المدينة، وهذا أيضًا لا يخلو من إشكال، فكون السورة نزلت جملةً واحدة في مكة فكيف يُستثنى منها ؟ ويمكن أن يقال - والعلم عند الله : بأن هذه الآيات نزلت ثانيةً في المدينة، يعني تكرر نزولها بسبب قول اليهود.

وقوله هنا: "وروي أن الذي قالها منهم مالك بن الصيف" وهذا جاء عند ابن جرير عن عكرمة مرسلاً[3].

وجاء أيضًا عند ابن جرير[4] وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلاً[5] وعند ابن أبي حاتم عن السدي: أنها في فنحاص اليهودي[6] حين غضب، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، في قصة اليهودي، واليهودية، الذين زنيا، حين دعا النبي ﷺ بالتوراة، فوضع الحبر إصبعه على آية الرجم، وذكروا ما يجدونه عندهم في التوراة من تسويد الوجه، ونحو ذلك يعني سوى الرجم، فلما قال عبد الله بن سلام : مره يا رسول الله فليرفع إصبعه، فظهرت آية الرجم[7] فغضب اليهودي هذا، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، هكذا جاء في بعض هذه الروايات[8].

فالرواية الأولى عن ابن عباس - ا - واضحة، وصريحة في أن ذلك نزل بسبب اليهود، وقد تكون هذه أقوى ما يحتج به من استثنى بعض الآيات في هذه السورة، وسيأتي في قوله - تبارك، وتعالى -: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] باعتبار أنه الزكاة، وبعضهم قال: إن الزكاة لم تفرض بمكة، وإنما فرضت بالمدينة، فهذه الآية مدنية، وبعضهم يقول غير ذلك، وسيأتي بيانه - إن شاء الله - لكن تلك ليست كهذه، ولا يقال: بأنها نازلة بالمدينة، بل الأقرب أن أصل الزكاة فُرض بمكة، ثم فُرضت المقادير، ونحو ذلك في المدينة.

وقوله هنا: "وقيل: القائلون قريش" وهذا مروي عن جماعة من السلف، كابن عباس، ومجاهد، وعبد الله بن كثير[9] وهو اختيار ابن جرير - رحمه الله -[10] فعلى هذا القول لا إشكال، لكن الرواية السابقة عن ابن عباس - ا - صريحة بأنها نزلت بسبب اليهود، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - حملها على هذا، وهذا[11] فهذه المراسيل السابقة مع رواية ابن عباس كل ذلك يدل على أنها في اليهود، ولا يقال: إنها نزلت في قريش إلا إذا صح ذلك بمثل الأول، فالأول سبب نزول، وهو صريح، وما عداه فيمكن أن يقال: من قبيل الاجتهاد.

وعلى قول ابن القيم بأنها نزلت بسبب هذا، وهذا، فيحمل على ما إذا كانت قريش قد قالت ذلك بعد الهجرة، وبعد ما قال اليهود ما قالوا، فيكون ذلك مرةً واحدة بعد الهجرة، ولكن على ما ذكرت أولاً من أن السورة نازلة بمكة كاملة فيكون ذلك نزل بسبب مقالة المشركين، ثم نزلت ثانيةً بسبب مقالة اليهود التي شابهوهم فيها، فيمكن أن يُحمل على هذا، ولكن هذا لا بد فيه من دليل واضح، وصريح على صحته من أنها نزلت بسبب المشركين - والله أعلم -.

لكن الثابت أنها نزلت بسبب اليهود، وأما ما يتعلق بقريش فهذا يحتاج إلى دليل مثل الأول في ثبوته، وصراحته، من جهة سبب النزول؛ لأن سبب النزول له حكم الرفع، وما يقابل سبب النزول الصريح من أقوال فيمكن أن يكون ذلك من قبيل الاجتهادات، فلا يُعارض بها.

"قوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا [الأنعام: 91] الخطاب لليهود، أو لقريش على وجه إقامة الحجة، والرد عليهم في قولهم: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] فإن كان لليهود، فالذي عُلِموه التوراة، وإن كان لقريش، فالذي عُلِموه ما جاء به محمد ﷺ ".

هو بحسب الخلاف السابق وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أي: والحال أنكم قد عُلمتم ما لم تعلموا أنتم، ولا آباؤكم، وهذه الجملة يمكن أن تكون استئنافية مقررة لما قبلها.

وقوله هنا: "فإن كانت لليهود فالذي علموه التوراة" فيكون ذلك على وجه الامتنان عليهم بإنزال التوراة، ويحتمل أن يكون ذلك بما جاء بواسطة القرآن من أخبار من قد سبق، ومن يأتي بعد ذلك، كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[12].

فإذا كانت في اليهود فلا يلزم أن يكون قوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا مرادًا به التوراة، فيمكن أن يكون من طريق القرآن، ويمكن أن يكون هذا، وهذا، مما علمهم الله، وامتن عليهم به بطريق الوحي الذي أوحاه الله إلى أنبيائه، وإلى نبيه ﷺ فما أخبرهم به النبي ﷺ من الأمور التي أوحى الله بها إليه، فهذا مشتمل على ما لم يعلموه من كتبهم.

يقول: "وإن كان لقريش فالذي علموه ما جاء به محمد ﷺ " وهذا لا إشكال فيه، وابن جرير - رحمه الله - حملها على أنها خطاب للمؤمنين[13] فتكون هذه الآية: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا جملة مستقلة، امتن على المؤمنين بذلك، فالله يخبر المؤمنين عن مقالة اليهود، فيقول: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ أي: هؤلاء اليهود إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ورد عليهم بقوله: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ثم قال: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ [الأنعام: 91] فأخبرهم عن مقالة اليهود، ورد على اليهود، وقال للمؤمنين: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ [الأنعام: 91] ولو قيل: بأن ظاهر السياق أن ذلك في اليهود، وأن الله في جملة الرد عليهم يقول: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا [الأنعام: 91] يعني من الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وعلمكم ما لم تعلموا؟

"قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 91] جواب مَنْ أَنزَلَ واسم (الله) مرفوع بفعل مضمر، تقديره: أنزله الله، أو مرفوع بالابتداء".

مرفوع بالابتداء، والتقدير: الله أنزله.

  1.  تفسير الطبري (11/521).
  2.  المصدر السابق (11/523).
  3.  المصدر السابق (11/522).
  4.  المصدر السابق (11/521).
  5.  تفسير ابن أبي حاتم (4/1342).
  6.  المصدر السابق.
  7.  القصة في الصحيحين دون ذكر قول اليهودي: أخرجها البخاري في كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] برقم: (3635) ومسلم في الحدود باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا برقم: (1699).
  8.  جاء في تفسير الثعلبي = الكشف، والبيان عن تفسير القرآن (4/168): "قال سعيد بن جبير: جاء رجل من يهود الأنصار يقال له: مالك بن الصيف يخاصم النبي ﷺ فقال النبي: أتشهد بالله الذي أنزل التوراة على موسى؟ ما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين وكان حبرًا سمينًا، فغضب، وقال: ما أنزل اللَّه على بشر من شيءٍ، فقال لأصحابه الذين معه: ويحك، ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل اللَّه على بشرٍ من شيءٍ. فأنزل الله هذه الآية". فيكون غضب اليهودي، وقوله هذا القول في غير القصة السابقة - والله أعلم -.
  9.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/300).
  10.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/524).
  11.  هداية الحيارى في أجوبة اليهود، والنصارى (2/580).
  12.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/301).
  13.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/525).