الأحد 27 / ذو القعدة / 1446 - 25 / مايو 2025
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ۗ وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِى غَمَرَٰتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓا۟ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوٓا۟ أَنفُسَكُمُ ۖ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِۦ تَسْتَكْبِرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:93-94].
يقول تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:93] أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء، أو ولداً، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله، ولهذا قال تعالى: أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [سورة الأنعام:93] قال عكرمة، وقتادة: "نزلت في مسيلمة الكذاب"".

ذكر هنا قضيتين:
الأولى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:93] والثانية: أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [سورة الأنعام:93] يعني ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، وكذلك من أظلم ممن قال أوحي إلي ولم يوحَ إليه شيء، وهذا داخل في عموم الذي قبله؛ لأن الذي يقول: أوحي إليه ولم يوحَ إليه هو مفترٍ على الله الكذب.
وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلم؛ فهذا استفهام مضمنٌ معنى النفي كما سبق في نظائر هذه الآية كقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114].
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآيات؟ بمعنى أيهما أظلم الذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها، أم من افترى على الله كذباً؟
قلنا: يجاب عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن أفعل التفضيل تمنع أن يزيد أحد الطرفين على الآخر، ولكنها لا تمنع التساوي، أي أن هؤلاء وغيرهم كلهم قد بلغوا في الظلم غايته، فلا إشكال أن يُذكرَ أصناف، ويقال: إنهم أظلم الناس، أو لا أحد أظلم منهم؛ لأن المراد أنه لا أحد يزيد عليه لكن يبقى هناك من يشتركون معهم بقدر معين من الظلم الذي وصلوا إليه دون أن يزيدوا عليهم فيه.
الجواب الثاني: أن هذه الآيات تشترك في أن كل آية منها تقول: لا أحد أظلم ممن فعل هذا الفعل على أن كلاً منها تكون مختصة بباب معين، ففي باب الافتراء لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وفي المنع من دخول المساجد لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وهكذا كل واحدة مختصة بالباب الذي ذكرت فيه، والله أعلم.
يقول - رحمه الله -: "قال عكرمة، وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب" هذا عن عكرمة، وقتادة؛ من قبيل المراسيل، والمرسل من أنواع الضعيف كما هو معلوم، وقد جاءت روايات أخرى أنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح في قصته المعروفة لكنها لا تصح أيضاً، وذلك أنه قال في آخر الآية التي كان يمليها عليه النبي ﷺ - وقد كان من كُتَّاب الوحي - قال: فتبارك الله أحسن الخالقين، أي قال ذلك من عند نفسه، فقال النبي ﷺ: هكذا أنزلت فقال: إن كان محمد يختلق القرآن فقد قلت مثله، وإن كان يوحى إليه فقد أوحيَ إليَّ، فارتدَّ ورجع إلى مكة[1] فلما جاء عام الفتح ذهب إلى أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان ، فطلب له الأمان من رسول الله ﷺ، فالمقصود أن الروايات الواردة في أنه قال ذلك، وأنه ارتد بسبب هذه القضية؛ لا يثبت منها شيء، ولو ثبتت فمعلوم أن القرآن قد ينزل موافقاً لما جرى على لسان بعض الناس كما في موافقات عمر والله أعلم.
"وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ [سورة الأنعام:93] أي: ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول كقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا الآية [سورة الأنفال:31].
قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [سورة الأنعام:93] أي: في سكراته، وغمراته، وكرباته".

الغمرات هي جمع غمرة وهي: الشدة، والكرب، والحال الصعبة، وأصل ذلك كأنه مأخوذ مما يغمر الشيء، ويغطيه، تقول: غمره الماء، فيقال: فلان في غمرة يعني في كرب، وشدة.
"وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] أي: بالضرب، كقوله: لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي الآية [سورة المائدة:28]".

قوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] قال: أي: بالضرب"؛ لأن البسط يأتي بهذا المعنى كما قال تعالى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ [سورة الممتحنة:2] فالبسط يكون بإيصال الأذى بالقول، أو بالفعل، يقال: بسط إليه يده، ولسانه، بمعنى أنه آذاه بيده، ولسانه.
فقوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] يعني بالضرب الوجيع، وذلك عند نزع أرواحهم، أو في اليوم الآخر، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن تفسر بما بعدها أعني بقوله: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93]، وإن كان يحتمل أن يراد بالبسط بسط اليد لاستلام الروح؛ لكن أحسن من هذا أن تفسر بالآية الأخرى وهي قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [سورة الأنفال:50] فهذا الضرب هو المراد بقوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] - والله تعالى أعلم -؛ وذلك أن خير ما يفسر به القرآن القرآنُ.
وإن كان قوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] يعني في الآخرة، وباسطوا أيديهم يعني بالضرب، والعذاب فإن قوله: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] يعني يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، وخلصوها مما أنتم فيه إن استطعتم، وإذا قلنا: إن هذا عند الموت فإن معنى أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] أي يضربونهم لينتزعوا منهم الأرواح، ويقولون لهم: أخرجوا أرواحكم لنقبضها، وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -.
"وقوله: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ الآية [سورة الممتحنة:2] وقال الضحاك وأبو صالح: بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] أي: بالعذاب كقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [سورة الأنفال:50]، ولهذا قال: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب، والنكال، والأغلال، والسلاسل، والجحيم، والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ الآية [سورة الأنعام:93] أي: اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله".

قوله: عَذَابَ الْهُونِ [سورة الأنعام:93] هذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، وعذاب الهون - بضم الهاء - يعني العذاب المهين، وأما الهَون - بفتح الهاء - فمعناه الرفق كما في قوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63] يعني يمشون برفق.
"وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن، والكافر؛ عند الموت، وهي مقررة عند قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [سورة إبراهيم:27]".
  1. هذه القصة أوردها الواحدي والقرطبي ونسباها لرواية الكلبي عن ابن عباس، والكلبي متهم بالكذب، وروايته ساقطة، وللقصة أصل عند أبي داود والنسائي، انظر كتاب " تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن" (ج 1 / ص 133).

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ [الأنعام: 93] هو مسيلمة، وغيره من الكذابين الذين ادّعوا النبوّة".

القول بأنه مسيلمة هذا مروي عن عكرمة، وقتادة[1] لكنه لا يختص به، كما قال ابن جزي، فهو يصدق عليه، وعلى غيره ممن ادعوا النبوة، كالأسود العنسي، وغير هؤلاء من المتنبئين.

"قوله تعالى: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93] هو النضر بن الحارث[2] لأنه عارض القرآن، واللفظ عام فيه، وفي غيره من المستهزئين".

نعم فهو لا يختص به؛ لأنه لم يثبت شيء في هذا، والنضر بن الحارث كان يأتي بقصص، وأخبار لفارس، ونحوهم، وقد سافر إلى تلك البلاد، فكان يقول بأنه يقص قصصًا خيرًا مما يقوله النبي ﷺ.

"قوله تعالى: وَلَوْ تَرى [الأنعام: 93] جوابه محذوف، تقديره: لرأيت أمرًا عظيمًا".

هناك قاعدة، وهي أن حذف جواب (لو) في مثل هذا، في مقام الوعيد يفيد التهويل؛ ليذهب الذهن كل مذهب، لرأيت أمرًا فظيعًا، لرأيت أمرًا هائلاً، لرأيت أمرًا شنيعًا، ونحو ذلك.

"والظالمون: من تقدّم ذكره من اليهود، والكذابين، والمستهزئين، فتكون اللام للعهد، أو أعم من ذلك، فتكون للجنس".

يعني عموم من يوصف بذلك من أهل الكفر، والنفاق.

"قوله تعالى: باسِطُوا أَيْدِيهِمْ [الأنعام: 93] أي: تبسط الملائكة أيديهم إلى الكفار يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، وهذه عبارة عن التعنيف في السياق، والشدّة في قبض الأرواح".

وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ [الأنعام: 93] يعني: قد مدوا أيديهم يضربون، وجوه، وأدبار هؤلاء الكفار، كما قال الله : وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال: 50] هذا عند قبض الأرواح، وجاء عن الضحاك، وأبي صالح[3]: وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ يعني: بالعذاب.

فقوله هنا: "فهذه عبارة عن التعنيف في السياق" يعني سياق الموت، ونزع الأرواح، وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أن الملائكة حين تبشره بالعذاب تتفرق روحه في جسده، وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة، حتى تخرج هذه الأرواح[4] فذاك قوله: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ.

ويحتمل أن أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ من هذه الغمرات، والكروب، والشدائد عند الموت، ولكن الذي قبله أقرب - والله أعلم -.

وبعضهم يقول: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ من أيدينا، وخلصوها من العذاب، وهذا مثل الذي قبله، وهو أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ من هذه الغمرات، والشدة من أيدينا من العذاب.

والذي يظهر - والله أعلم - أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ من هذه الأجساد على سبيل التعنيف، وإلا فالملائكة تقبض أرواحهم، ولا يستعصي ذلك عليها.

"قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ [الأنعام: 93] يحتمل أن يريد ذلك الوقت بعينه، أو الوقت الممتد من حينئذٍ إلى الأبد.

الْهُونِ [الأنعام: 93] الذلة." 

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/302).
  2. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/322).
  3. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1348).
  4. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/302).