يقول تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:93] أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء، أو ولداً، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله، ولهذا قال تعالى: أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [سورة الأنعام:93] قال عكرمة، وقتادة: "نزلت في مسيلمة الكذاب"".
ذكر هنا قضيتين:
الأولى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا [سورة الأنعام:93] والثانية: أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [سورة الأنعام:93] يعني ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، وكذلك من أظلم ممن قال أوحي إلي ولم يوحَ إليه شيء، وهذا داخل في عموم الذي قبله؛ لأن الذي يقول: أوحي إليه ولم يوحَ إليه هو مفترٍ على الله الكذب.
وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلم؛ فهذا استفهام مضمنٌ معنى النفي كما سبق في نظائر هذه الآية كقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114].
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآيات؟ بمعنى أيهما أظلم الذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها، أم من افترى على الله كذباً؟
قلنا: يجاب عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن أفعل التفضيل تمنع أن يزيد أحد الطرفين على الآخر، ولكنها لا تمنع التساوي، أي أن هؤلاء وغيرهم كلهم قد بلغوا في الظلم غايته، فلا إشكال أن يُذكرَ أصناف، ويقال: إنهم أظلم الناس، أو لا أحد أظلم منهم؛ لأن المراد أنه لا أحد يزيد عليه لكن يبقى هناك من يشتركون معهم بقدر معين من الظلم الذي وصلوا إليه دون أن يزيدوا عليهم فيه.
الجواب الثاني: أن هذه الآيات تشترك في أن كل آية منها تقول: لا أحد أظلم ممن فعل هذا الفعل على أن كلاً منها تكون مختصة بباب معين، ففي باب الافتراء لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وفي المنع من دخول المساجد لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وهكذا كل واحدة مختصة بالباب الذي ذكرت فيه، والله أعلم.
يقول - رحمه الله -: "قال عكرمة، وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب" هذا عن عكرمة، وقتادة؛ من قبيل المراسيل، والمرسل من أنواع الضعيف كما هو معلوم، وقد جاءت روايات أخرى أنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح في قصته المعروفة لكنها لا تصح أيضاً، وذلك أنه قال في آخر الآية التي كان يمليها عليه النبي ﷺ - وقد كان من كُتَّاب الوحي - قال: فتبارك الله أحسن الخالقين، أي قال ذلك من عند نفسه، فقال النبي ﷺ: هكذا أنزلت فقال: إن كان محمد يختلق القرآن فقد قلت مثله، وإن كان يوحى إليه فقد أوحيَ إليَّ، فارتدَّ ورجع إلى مكة[1] فلما جاء عام الفتح ذهب إلى أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان ، فطلب له الأمان من رسول الله ﷺ، فالمقصود أن الروايات الواردة في أنه قال ذلك، وأنه ارتد بسبب هذه القضية؛ لا يثبت منها شيء، ولو ثبتت فمعلوم أن القرآن قد ينزل موافقاً لما جرى على لسان بعض الناس كما في موافقات عمر والله أعلم.
قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ [سورة الأنعام:93] أي: في سكراته، وغمراته، وكرباته".
الغمرات هي جمع غمرة وهي: الشدة، والكرب، والحال الصعبة، وأصل ذلك كأنه مأخوذ مما يغمر الشيء، ويغطيه، تقول: غمره الماء، فيقال: فلان في غمرة يعني في كرب، وشدة.
قوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] قال: أي: بالضرب"؛ لأن البسط يأتي بهذا المعنى كما قال تعالى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ [سورة الممتحنة:2] فالبسط يكون بإيصال الأذى بالقول، أو بالفعل، يقال: بسط إليه يده، ولسانه، بمعنى أنه آذاه بيده، ولسانه.
فقوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] يعني بالضرب الوجيع، وذلك عند نزع أرواحهم، أو في اليوم الآخر، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن تفسر بما بعدها أعني بقوله: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93]، وإن كان يحتمل أن يراد بالبسط بسط اليد لاستلام الروح؛ لكن أحسن من هذا أن تفسر بالآية الأخرى وهي قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [سورة الأنفال:50] فهذا الضرب هو المراد بقوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] - والله تعالى أعلم -؛ وذلك أن خير ما يفسر به القرآن القرآنُ.
وإن كان قوله: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] يعني في الآخرة، وباسطوا أيديهم يعني بالضرب، والعذاب فإن قوله: أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] يعني يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، وخلصوها مما أنتم فيه إن استطعتم، وإذا قلنا: إن هذا عند الموت فإن معنى أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [سورة الأنعام:93] أي يضربونهم لينتزعوا منهم الأرواح، ويقولون لهم: أخرجوا أرواحكم لنقبضها، وهذا هو الأقرب - والله تعالى أعلم -.
قوله: عَذَابَ الْهُونِ [سورة الأنعام:93] هذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، وعذاب الهون - بضم الهاء - يعني العذاب المهين، وأما الهَون - بفتح الهاء - فمعناه الرفق كما في قوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [سورة الفرقان:63] يعني يمشون برفق.
- هذه القصة أوردها الواحدي والقرطبي ونسباها لرواية الكلبي عن ابن عباس، والكلبي متهم بالكذب، وروايته ساقطة، وللقصة أصل عند أبي داود والنسائي، انظر كتاب " تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن" (ج 1 / ص 133).