الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَٰٓؤُا۟ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] أي: يقال لهم يوم معادهم هذا، كما قال: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الكهف:48] أي: كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك، وتستبعدونه؛ فهذا يوم البعث".

المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هو المعنى الأول يعني منفردين، وهذه الآية هي كقوله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104] بمعنى أن الله كما ابتدأ خلقكم أعاده ثانية.
والمعنى الثاني الذي يحتمله قوله تعالى: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يعني أن الإنسان يأتي يوم القيامة كما خلقه الله حين خلقه كما قال النبي ﷺ: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً[1] أي غير مختونين، فيكون قوله: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يعني كهيئة خلقكم الذي خلقكم الله عليه من غير شيء يغير ذلك.
فإن كانت الآية في سياق الاحتجاج على النشأة الثانية بالنشأة الأولى، فالمعنى أن الذي خلقكم أولاً قادر على أن يعيدكم ثانية، وهذا الذي قد يفهم من ظاهر الآية، لكن النبي ﷺ حملها على المعنى الآخر حينما قرأها على المنبر حيث ذكر معها قوله ﷺ: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ولذلك يقال: إن الآية تحمل على المعنيين، وإن كان السياق في الاحتجاج على المشركين بالبعث، وما يقال في قوله - تبارك تعالى -: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يقال أيضاً في قوله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104]، ولهذا حملها ابن جرير وجماعة من أهل العلم من المعاصرين كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - على أن المراد حفاة عراة غرلاً: لا ثياب، ولا خدم، ولا حشم، ولا أموال، وإنما يأتي الإنسان متجرداً من ذلك كله، هكذا قالوا فيها، والحافظ كما رأينا جعلها من قبيل الاحجتاج على النشأة الثانية بالنشأة الأولى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وهذا يوجد ما يشهد له في القرآن، ويوجد ما يشهد له أيضاً من السنة - والله أعلم -.
"وقوله: وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ أي: من النعم، والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا وَرَاء ظُهُورِكُمْ [سورة الأنعام:94]".

الخَوَل هو ما يعطاه الإنسان من متاع الحياة الدنيا فقوله: وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ [سورة الأنعام:94] أي: ما أعطيناكم من متاع الدنيا من الأموال، والزينة، والأولاد وما أشبه ذلك.
"وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس[2].
وقال الحسن البصري: "يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج، فيقول الله : أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئاً، وتلا هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ الآية [سورة الأنعام:94]" [رواه ابن أبي حاتم]".

يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج من الذل، والبذج هو ولد الضأن، والمعنى أنه يؤتى به وهو في غاية الضعف، والذلِّ؛ بعد أن كان يشمخ بأنفه، ولا يرى الناس شيئاً، وفي الحديث الآخر: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال؛ يغشاهم الذل من كل مكان[3] نسأل الله العافية.
وقوله ﷺ: يقول ابن آدم: مالي مالي[4] يعني أنه في الدنيا يتحدث فيقول: هذا مالي، وهذه أرضي، وهذا داري، وليس له إلا ما ذكر النبي ﷺ؛ لأن هذا هو الذي يبقى، ولو عقل الإنسان، وفكر؛ لعرف هذه الحقيقة جيداً، ولذلك لو نظرت إلى الناس فيما يملكون، وما تحت أيديهم من الأموال؛ فإنك ترى عجباً، فأحياناً قد ترى الإنسان فتظنه من الفقراء وهو يملك أموال طائلة لم تؤثر عليه، فلم تُرَ نعمة الله عليه، وربما لا يتصدق، ولا تراه يلبس لباساً حسناً، وهكذا إنما يشقى غاية الشقاء.
يقول أحد الإخوة المدرسين: "كنت عند الصرافة فجاء شخص لا يعرف القراءة، والكتابة، وبالتالي لا يستطيع استعمال الصرافة، ورأيت ثيابه في غاية الرثاثة، فاستغربت كونه يمتلك بطاقة مع أن شكله فقير حتى ظننت أنه يسأل!!
يقول: فقال لي: اسحب لي من الصرافة مائة ريال، وإن كنت لست بحاجة إليها لكني أريد أن أعرف رصيدي! يقول: قلت له: يمكنك أن تعرف الرصيد دون أن تسحب مائة ريال، قال: إذن: انظر لي كم الرصيد، يقول: والله ما عرفت أقرأ الرصيد، فقلت له: لم أعرف، لكن أخرج لك ورقة من الآلة وخذها معك!" هذه من القصص العجيبة، فهذا ماذا يستفيد من ماله؟ لا شيء إلا أنه سيحاسب عليه، نسأل الله العافية.
"وقوله: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء [سورة الأنعام:94] تقريع لهم، وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد، والأصنام، والأوثان؛ ظانين أنها تنفعهم في معاشهم، ومعادهم؛ إن كان ثَمَّ معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب، وانزاح الضلال، وضلّ عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب على رؤوس الخلائق: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة القصص:62] ويقال لهم: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ۝ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ [سورة الشعراء:92-93] ولهذا قال هاهنا: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء [سورة الأنعام:94] أي: في العبادة لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم، ثم قال تعالى: لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] قرئ بالرفع أي: شملُكم".

قوله تعالى: لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] قرئ بالرفع (بينُكم) أي: تقطَّع شملُكم باعتبار أن (بينُكُم) فاعل، وهذه القراءة هي التي عليها عامة القراء عدا نافعاً، والكسائي، وحفص؛ حيث قرأها هؤلاء بالنصب ليكون المعنى لقد تقطع ما بينكم، بل ورد هذا المعنى على أنها قراءة أحادية وهي قراءة ابن مسعود .
وعلى قراءة لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] يمكن أن يكون النصب على الظرفية، لقد تقطع بينكم يكون منصوباً على الظرفية، ويكون فاعل تقطع محذوفاً تقديره تقطع ما بينكم، أو تقطع الوصل بينكم أي: تقطع وصلكم، وشملكم، وتمزقت الأواصر والوشائج التي بينكم وبين معبوداتكم، وأعوانكم، ومن يشاركونكم في هذا الجرم ولو كانوا من قراباتكم، نسأل الله العافية.
"لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] قرئ بالرفع: أي شملكم، وبالنصب: أي: لقد تقطع ما بينكم من الأسباب، والوصلات، والوسائل وَضَلَّ عَنكُم [سورة الأنعام:94] أي: ذهب عنكم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:94] من رجاء الأصنام، والأنداد كقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ۝ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:166-167] وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ [سورة المؤمنون:101] وقال تعالى: إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ [سورة العنكبوت:25] وقال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ الآية [سورة القصص:64] وقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سورة الأنعام:22] إلى قوله: وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة الأنعام:24] والآيات في هذا كثيرة جداً".
  1. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب كيف الحشر (6162) (ج 5 / ص 2391) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2859) (ج 4 / ص 2194).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2958) (ج 4 / ص 2273).
  3. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (557) (ج 1 / ص 196) والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب 47 (2492) (ج 4 / ص 655) وحسنه الألباني - رحمه الله -.
  4. قد سبق أنه في صحيح مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2958) (ج 4 / ص 2273).

مرات الإستماع: 0

"فُرَادَى [الأنعام: 94] منفردين عن أموالكم، وأولادكم، أو عن شركائكم، والأول يترجح بقوله: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ [الأنعام: 94] أي: ما أعطيناكم من الأموال، والأولاد، ويترجح الثاني بقوله: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ [الأنعام: 94]".

قوله هنا: "الْهُونِ [الأنعام: 93] أي: الذلة" أي: تهانون غاية الإهانة، والذلة بما يقع لكم من العذاب.

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى قال: "منفردين عن أموالكم، وأولادكم" كما قال الله : وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف: 48] يعني: ليس معه حشم، ولا خدم، ولا أعوان، ولا أنصار، ولا جند، ولا غير ذلك.

وحمله ابن جرير - رحمه الله - على معنى: حفاة، وعراة[1] يعني: في صفة الحشر حفاةً عراةً غرلاً، فيحشرون هكذا وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى يعني: غير مصطحبين لشيءٍ من اللباس، ونحو ذلك على قول ابن جرير، لكن ما ذكره ابن جزي من الانفراد عن الأموال، والأولاد كأنه أقرب، تُفسِّره الآية الأخرى، وهي قوله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94] ما الذي خولهم؟ الأموال، والأولاد، والخدم، والحشم، ونحو ذلك، ويكون ما ذكره ابن جرير - رحمه الله - من توابع المعنى، يعني أنه يأتي ليس معه شيء مطلقًا، لا لباس، ولا نعل، ولا غير ذلك.

يقول: "أو عن شركائكم، والأول يترجح بقوله: تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ [الأنعام: 94]" فهذا يمكن أن يؤيد المعنى الثاني، بمعنى الشركاء، وهذه الآية في سورة الأنعام: وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ تعني أنهم يحشرون من غير أموال، ولا أولاد، ولا خدم، ولا حشم، ولا غير ذلك، والمقصود بقوله: ما خَوَّلْناكمْ ما يُعطاه الإنسان من متاع الدنيا.

يقول: "أي: ما أعطيناكم من الأموال، والأولاد" وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[2] والشنقيطي[3].

ويقول: "ويترجح الثاني بقوله: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ [الأنعام: 94] لو حمل قوله: فُرَادَى على أعم معانيه، منفردين ليس معهم شفيع، وليس معهم ولد، ولا مال، وليس عليهم لباس، ولا غير ذلك، كأن هذا جمعًا بين هذه الأقوال غير المتنافية؛ لأن ذلك جميعًا يصدق عليه وصف الانفراد - والله أعلم -.

"قوله: تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] تفرَّق شملكم، ومن قرأه بالرفع أسند الفعل إلى الظرف، واستعمله استعمال الأسماء، أو يكون البين بمعنى الفرقة، أو بمعنى الوصل، ومن قرأه بالنصب، فالفاعل مصدر الفعل، أو محذوف، تقديره: تقطع الاتصال بينكم".

قوله: تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ يقول: "تفرق شملكم" وإذا أردتَ أن تفسره بعبارةً ألصق بألفاظه، يمكن أن تقول: تقطعت الوُصَل التي كانت بينكم في الدنيا، من القرابة، ونحوها، وتفسيره بـ"تفرق شملكم" هو تفسير على المعنى، وهذا لا إشكال فيه.

فالمقصود أنه لا قرابة، ولا حلف، ولا مودة، كل ذلك يتقطع، ويزول.

يقول: "ومن قرأه بالرفع" يعني برفع: (بَيْنُكُمْ) وهذه قراءة متواترة، كما أن القراءة الأولى، وهي النصب كذلك، فمن قرأه بالنصب تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ: نافع، والكسائي، وحفص[4] والآخرون قرأوه بالرفع.

يقول: "من قرأه بالرفع أسند الفعل إلى الظرف" يعني الذي تقطع هو البين، فالبين هو الفاعل "من قرأه بالرفع أسند الفعل إلى الظرف، واستعمله استعمال الأسماء" يعني باعتبار أنه خارج عن الظرفية، لم يعتبره ظرفًا، وإنما على أنه اسم متصرف، بمعنى: الوصل (تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) أي: وصلكم، فهذا اللفظ من الأضداد، يقال للوصل، والفراق، لكنه يقول هنا: "ويكون البين بمعنى الفرقة، أو بمعنى الوصل" وهذا باعتبار أنه من الأضداد، يعني: كلمة تأتي لمعنيين متضادين، فيكون ذلك من قبيل المشترك، لفظ واحد يدل على أكثر من معنى، لكن المشترك منه ما يدل على معنيين متناقضين، كالقرء يدل على الحيض، والطهر، والبين يدل على الوصل، والفرقة، وقد يدل على معنيين متضادين، مثل: عسعس بمعنى: أقبل، وأدبر، فهذا من الأضداد، وهكذا الصريم، لو قلنا: بأنها صارت سوداء محترقة، أو صارت بيضاء يعني جرداء، ونحو ذلك، وقد يدل المشترك على معنيين مختلفين غير متضادين، ولا متناقضين، مثلما يقال: قسورة: الأسد، والرامي، والنبل، وأصوات الناس، ونحو ذلك، فهذه معاني متخالفة، ومثل لفظ الأمة حينما يقال للرجل الجامع لخصال الخير التي تفرقت في غيره، والمدة الزمنية، والجماعة من الناس المجتمعة على ملة، ودين، ونحو هذا، فهذه معاني متخالفة، والاصطلاحات منطقية.

يقول: "ومن قرأه بالنصب فالفاعل مصدر الفعل" لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ يعني: تقطع الوصل بينكم، فهو مضمر يقولون: دل عليه (شركاء) فالشركة تشعر بالاتصال، هكذا قالوا، ويكون المعنى: انقطع ما كان بينكم، وبين شركائكم في الدنيا، من تواصل، وتواد، وتناصر، كما قال الله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة: 166] وهكذا في قوله تعالى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت: 25] فهذا باعتبار أن تقطُّع البين باعتبار الشركاء، والمعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله  وهذا ظاهر في سياق الآية، وإن كان أولها يحتمل من جهة المراد بالانفراد وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى [الأنعام: 94] لكن ما ذكرته من كون الآية في أولها يمكن أن تحمل على المعاني المذكورة يوجد فيها قرينة على بعض هذه المعاني، أو جملة منها، كما في قوله تعالى: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هذا يحتمل قول ابن جرير: حفاةً عراةً غرلاً وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ من الأموال، والأولاد وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ [الأنعام: 94] يعني بعيدين عن شركائهم، الذين ادعوا أنهم شفعاء، وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فيتبرؤون منهم.

يقول: "ومن قرأه بالنصب فالفاعل مصدر الفعل، أو محذوف، تقديره: تقطع الاتصال بينكم" ويكون بينكم صفة لهذا الفاعل المقدر (تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) صفة له قامت مقامه لما حذف، أو يمكن أن يكون: أو تقطع وصل بينكم.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/543).
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/302).
  3.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/488).
  4.  حجة القراءات (ص: 261).