المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير في قوله تعالى: جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هو المعنى الأول يعني منفردين، وهذه الآية هي كقوله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104] بمعنى أن الله كما ابتدأ خلقكم أعاده ثانية.
والمعنى الثاني الذي يحتمله قوله تعالى: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يعني أن الإنسان يأتي يوم القيامة كما خلقه الله حين خلقه كما قال النبي ﷺ: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً[1] أي غير مختونين، فيكون قوله: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يعني كهيئة خلقكم الذي خلقكم الله عليه من غير شيء يغير ذلك.
فإن كانت الآية في سياق الاحتجاج على النشأة الثانية بالنشأة الأولى، فالمعنى أن الذي خلقكم أولاً قادر على أن يعيدكم ثانية، وهذا الذي قد يفهم من ظاهر الآية، لكن النبي ﷺ حملها على المعنى الآخر حينما قرأها على المنبر حيث ذكر معها قوله ﷺ: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ولذلك يقال: إن الآية تحمل على المعنيين، وإن كان السياق في الاحتجاج على المشركين بالبعث، وما يقال في قوله - تبارك تعالى -: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:94] يقال أيضاً في قوله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء:104]، ولهذا حملها ابن جرير وجماعة من أهل العلم من المعاصرين كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - على أن المراد حفاة عراة غرلاً: لا ثياب، ولا خدم، ولا حشم، ولا أموال، وإنما يأتي الإنسان متجرداً من ذلك كله، هكذا قالوا فيها، والحافظ كما رأينا جعلها من قبيل الاحجتاج على النشأة الثانية بالنشأة الأولى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وهذا يوجد ما يشهد له في القرآن، ويوجد ما يشهد له أيضاً من السنة - والله أعلم -.
الخَوَل هو ما يعطاه الإنسان من متاع الحياة الدنيا فقوله: وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ [سورة الأنعام:94] أي: ما أعطيناكم من متاع الدنيا من الأموال، والزينة، والأولاد وما أشبه ذلك.
وقال الحسن البصري: "يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج، فيقول الله : أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئاً، وتلا هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ الآية [سورة الأنعام:94]" [رواه ابن أبي حاتم]".
يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج من الذل، والبذج هو ولد الضأن، والمعنى أنه يؤتى به وهو في غاية الضعف، والذلِّ؛ بعد أن كان يشمخ بأنفه، ولا يرى الناس شيئاً، وفي الحديث الآخر: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال؛ يغشاهم الذل من كل مكان[3] نسأل الله العافية.
وقوله ﷺ: يقول ابن آدم: مالي مالي[4] يعني أنه في الدنيا يتحدث فيقول: هذا مالي، وهذه أرضي، وهذا داري، وليس له إلا ما ذكر النبي ﷺ؛ لأن هذا هو الذي يبقى، ولو عقل الإنسان، وفكر؛ لعرف هذه الحقيقة جيداً، ولذلك لو نظرت إلى الناس فيما يملكون، وما تحت أيديهم من الأموال؛ فإنك ترى عجباً، فأحياناً قد ترى الإنسان فتظنه من الفقراء وهو يملك أموال طائلة لم تؤثر عليه، فلم تُرَ نعمة الله عليه، وربما لا يتصدق، ولا تراه يلبس لباساً حسناً، وهكذا إنما يشقى غاية الشقاء.
يقول أحد الإخوة المدرسين: "كنت عند الصرافة فجاء شخص لا يعرف القراءة، والكتابة، وبالتالي لا يستطيع استعمال الصرافة، ورأيت ثيابه في غاية الرثاثة، فاستغربت كونه يمتلك بطاقة مع أن شكله فقير حتى ظننت أنه يسأل!!
يقول: فقال لي: اسحب لي من الصرافة مائة ريال، وإن كنت لست بحاجة إليها لكني أريد أن أعرف رصيدي! يقول: قلت له: يمكنك أن تعرف الرصيد دون أن تسحب مائة ريال، قال: إذن: انظر لي كم الرصيد، يقول: والله ما عرفت أقرأ الرصيد، فقلت له: لم أعرف، لكن أخرج لك ورقة من الآلة وخذها معك!" هذه من القصص العجيبة، فهذا ماذا يستفيد من ماله؟ لا شيء إلا أنه سيحاسب عليه، نسأل الله العافية.
قوله تعالى: لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] قرئ بالرفع (بينُكم) أي: تقطَّع شملُكم باعتبار أن (بينُكُم) فاعل، وهذه القراءة هي التي عليها عامة القراء عدا نافعاً، والكسائي، وحفص؛ حيث قرأها هؤلاء بالنصب ليكون المعنى لقد تقطع ما بينكم، بل ورد هذا المعنى على أنها قراءة أحادية وهي قراءة ابن مسعود .
وعلى قراءة لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سورة الأنعام:94] يمكن أن يكون النصب على الظرفية، لقد تقطع بينكم يكون منصوباً على الظرفية، ويكون فاعل تقطع محذوفاً تقديره تقطع ما بينكم، أو تقطع الوصل بينكم أي: تقطع وصلكم، وشملكم، وتمزقت الأواصر والوشائج التي بينكم وبين معبوداتكم، وأعوانكم، ومن يشاركونكم في هذا الجرم ولو كانوا من قراباتكم، نسأل الله العافية.
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب كيف الحشر (6162) (ج 5 / ص 2391) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2859) (ج 4 / ص 2194).
- أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2958) (ج 4 / ص 2273).
- أخرجه البخاري في الأدب المفرد (557) (ج 1 / ص 196) والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب 47 (2492) (ج 4 / ص 655) وحسنه الألباني - رحمه الله -.
- قد سبق أنه في صحيح مسلم في كتاب الزهد والرقائق (2958) (ج 4 / ص 2273).