يخبر - تعالى - أنه فالق الحب والنوى، أي: يشقه في الثرى، فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب، والثمار على اختلاف ألوانها، وأشكالها، وطعومها من النوى".
قوله: فَالِقُ الْحَبِّ يعني يفلق الحب فيخرج منه النبات، ويفلق النوى فيخرج منه الشجر.
وبعضهم يفسر قوله: فَالِقُ بمعنى خالق يعني خالق الحب، والنوى، والمعنى الذي قبله هو الذي عليه عامة المفسرين وهو الأقرب - والله تعالى أعلم -، وبعضهم يقول: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] المقصود أن الله جعلها صفتها، وهيئتها مفلوقة أي مشقوقة من الوسط، فأنت ترى النواة مشقوقة من الوسط، وترى حبة البر فيها هذا الشق أيضاً، فبعضهم يقول: إن هذا هو المراد بقوله: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] أي خلقه بهذه الهيئة، وبعضهم يقول: يفلق الحب عن السنبل، ويفلق النواة من التمرة.
والأقرب - والله أعلم - أن قوله: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] أي: يفلق من الحب النبات فيخرج منه السنبلة، ويفلق النواة فيخرج منها الشجرة التي يخرج منها الثمر.
وعلى كل حال فالله - تبارك وتعالى - أخبر أنه فالق الحب، والنوى؛ فيدخل فيه هذا المعنى، أي يفلق الحب فيخرج منه النبات، ويفلق النوى فيخرج منه الشجر، ولا مانع من أن يدخل فيه المعنى الآخر وهو أن الله خلقها بهذه الصفة فهو فالقها، والمعنى الثالث داخل في ذلك أيضاً وهو أنه خالقها فكل هذا يصدق عليه أنه فلق، ولهذا قال: فَالِقُ الإِصْبَاحِ [سورة الأنعام:96] أي أن الله خلقه، أو أنه ينشق عمود الصبح عن الظلام فيظهر نور الصبح، وذلك يرجع إلى الخلق أيضاً فيكون معنى فالق الحب يمكن أن يدخل فيه خالق، وبهذه الصفة، ويفلق من هذا الحب النبات، ومن النوى يفلق السنبلة، وأما النوى فلا يختص بالتمر بل النوى يصدق على كل ما يمكن أن يقال: إنه كل ثمر فيه العجم سواء في ذلك الخوخ، والمشمش، والتمر وما شابه ذلك مما فيه نوى، والله أعلم.
الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله - أن قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يكون من قبيل التفسير بفالق الحب، والنوى، بمعنى أنك إذا قلت: ما معنى قوله: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95]؟ قال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [سورة الأنعام:95] وهذا الذي مشى عليه ابن كثير تحتمله الآية وهو لا ينافي القول السابق، فالنواة تعتبر ميتة، والحبة تعتبر ميتة، فيخرج منها الحي وهي الشجرة الخضراء، أو النبتة الخضراء.
ويمكن أن يكون ذلك من قبيل عطف الأخبار فهو أخبر عن الله أخباراً تدل على قدرته، وعظيم شأنه ، ودقة في الخلق، وبديع صنعه، فأخبر أنه فالق الحب والنوى، وأخبر أنه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وعلى هذا يكون هذا خبر جديد يقرر فيه قضية جديدة تدل على قدرة الله تعالى هي قضية غير القضية الأولى.
وقوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [سورة الأنعام:95] معطوف على فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى [سورة الأنعام:95] ثم فسره، ثم عطف عليه قوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [سورة الأنعام:95].
وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى، فمن قائل: يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه، ومن قائل: يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها".
على القول بالمجاز نقسم الحي والميت إلى قسمين: حي حقيقة وحي مجازاً، وميت حقيقة وميت مجازاً، والقاعدة أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز فالأصل حمله على الحقيقة، وإذا حملناه هنا على الحقيقة يكون معنى الآية أن الإنسان الحي خلق من نطفة ميتة، ولا يقول قائل: اكتشف العلم الحديث أن الحيوانات المنوية تسبح، فالكلام الذي يقصده الفقهاء بلغة الكتاب، والسنة؛ أن الميت هو ما لا روح فيه، فيقولون: النطفة ميتة يعني لا روح فيه، فهذا لا ينافي كون النطفة فيها حيوانات منوية تسبح ... إلى آخره.
والخلاصة أن النطفة تخرج من الإنسان ميتة وهو حي، والفرخ الحي يخرج من الدجاجة الميتة، والبيضة ميتة تخرج من الدجاجة الحية، وهكذا، ويمكن أن ندخل في هذا القول بأن النبات حي باعتبار أن الله سمى ذلك إحياء، وحياة؛ كما في قوله تعالى: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [سورة الروم:19] فيقال أيضاً: يخرج النبات الحي من الحبة الميتة، والشجرة الحية من النواة الميتة، والنواة الميتة تخرج من الشجرة الحية، وهكذا، هذا هو المقصود بالموت والحياة إذا حملنا لفظ الموت والحياة على المعنى الحقيقي.
وإذا حملنا الحياة على المعنى المجازي فيدخل في الحياة والموت؛ الهدى، والضلال، والإيمان، والكفر، فالله يقول: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [سورة الأنعام:122] فقوله: مَيْتًا يعني ضالاً، وقوله: فَأَحْيَيْنَاهُ يعني أحياه الله فعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [سورة الأنعام:95] يعني يخرج المؤمن من صلب الكافر، والمهتدي من الضال، وقوله: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [سورة الأنعام:95] يعني يخرج الكافر من المؤمن، والضال من المهتدي، ولهذا فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: هي معان متقاربة، وهذا صحيح، فالقاعدة أنه يمكن حمل الكلام على حقيقته ومجازه ما لم يوجد مانع يمنع من ذلك؛ لأن القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فتفسر الآية بهذا كله، الله ما خص شيء دون شيء، فيخرج الحي من الميت، يخرج المهتدي من الضال، ويخرج الفرخ من البيضة، وهكذا، والله أعلم.