الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
فَالِقُ ٱلْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَنًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] أي: خالق الضياء، والظلام كما قال في أول السورة: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [سورة الأنعام:1] أي: فهو - سبحانه - يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده، وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه، وإشراقه كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [سورة الأعراف:54] فبيّن - تعالى - قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة، الدالة على كمال عظمته، وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96]".

يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ [سورة الأنعام:96]: "يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده، وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه، وإشراقه".
وبعضهم يقول: أي أنه فالق عمود الفجر عن بياض النهار؛ لأن النهار يستنير بانفلاقه من عمود الفجر الذي يسمونه الفجر الصادق، فهو يبدو في أول ما يبدو مختلطاً بالظلام، ثم بعد ذلك لا يزال ينبلج وينجلي حتى يصير أبيض خالصاً.
"قوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] أي: ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء كما قال تعالى: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:1-2]".

وقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] فيه قراءة أخرى هكذا (ساكناً) والمعنى واحد؛ لأن سكناً يعني ساكناً أو محل للسكن، فالله جعل الليل مظلماً من أجل أن ينقطع الناس من أشغالهم، وكدهم، وسعيهم، وانتشارهم؛ فيسكنون في الليل، ويستريحون من الكد، والتعب، وأعباء النهار، فهو يمتن بهذه الآية على خلقه أنه جعل الليل بهذه المثابة كما قال في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [سورة يونس:67] وقال أيضاً: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ [سورة القصص:73].
وفي آية القصص هذه ذكر قضيتين، ثم ذكر ما يتعلق بكل واحدة منهما على الترتيب الذي سبق، وهذا من باب ما يسمى باللف، والنشر المرتب فقوله: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ [سورة القصص:73] أي: لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله في النهار - والله أعلم -.
وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] أي: ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء كما قال: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:1-2] وقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۝ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [سورة الليل:1-2] وقال: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [سورة الشمس:3-4].
"وقوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] أي: يجريان بحساب مقنَّن مقدر، لا يتغير، ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف، والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل، والنهار؛ طولاً، وقصراً".

في قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] قال: "يجريان بحساب مقنن مقدر لا يتغير" وهذا هو المعنى هو المتبادر - والله أعلم -، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -.
وبعضهم يقول: إن قوله: حُسْبَانًا مصدر حسبت، والاسم هو الحساب؛ لأنك تقول: حسبت حساباً، وبعضهم يقول: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] أي: ضياءاً، ويحتجون لهذا بقوله - تبارك وتعالى -: حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء [سورة الكهف:40] يعني النار، وقيل لها ذلك لإضاءتها، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] أي: يجريان بحساب مقدر؛ فيترتب على ذلك اختلاف الأوقات، وتحصل ألوان المنافع من الضياء، وبالتالي فإن من فسر ذلك بالضياء كأنه فسره باللازم، وحساب الأوقات يكون عن طريق الشمس، والقمر - والله أعلم -.
"كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ الآية [سورة يونس:5] وكما قال: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40] وقال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ [سورة النحل:12].
وقوله: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة الأنعام:96] أي: الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع، ولا يخالف، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء.
وكثيراً ما إذا ذكر الله - تعالى - خلق الليل والنهار، والشمس والقمر؛ بختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر فيه هذه الآية، وكما في قوله: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ* وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة يس:37-38]، ولما ذكر خلق السماوات، والأرض، وما فيهن في أول سورة حم السجدة، قال: وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة فصلت:12]".

مرات الإستماع: 0

"فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: 96] أي: الصبح، فهو مصدر سُمي به الصبح، ومعنى فلْقه: إخراجه من الظلمة، وقيل: إن الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح، فالتقدير: فالق ظلمة الإصباح".

فالِقُ الْإِصْباحِ يعني: خالق الإصباح، أو شاق الإصباح، حتى يتبين من الليل، يقول: "أي: الصبح، فهو مصدر سمي به الصبح، ومعنى فلقه: إخراجه من الظلمة" يقول: "وقيل: إن الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح" يعني: أن الله يشق ظلمة الليل، وسواده شيئًا فشيئًا بضياء الصبح، والتعبير هنا جاء: بفلق الإصباح، وليس فلق الليل، أو الظلام؛ يقولون: لأن شعاع الصبح يبدأ أولاً، وتحته ظلام، ولم يسفر إسفارًا تامًا يكشف الظلام كشفًا كليًا، ثم ينصدع ذلك الإصباح انصداعًا كليًا عن ضوء النهار كما ينبغي، فهذا معنى قوله: فالِقُ الْإِصْباحِ والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - ذكر نحو هذا الكلام الذي أوردته آنفًا[1] وكذلك بنحوه قال الحافظ ابن كثير[2].

وبعضهم يقول: فالِقُ الْإِصْباحِ أي: فالق عمود الفجر عن بياض النهار؛ لأنه يبدو مختلطًا بالظلمة، ثم يصير أبيض خالصًا.

وقوله هنا: "وقيل: إن الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح؛ فالتقدير: فالق ظلمة الإصباح" والأصل عدم التقدير، يعني هذا باعتبار حذف مضاف، لكن لا دليل عليه، وضعفه الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[3] لهذه العلة؛ لعدم القرينة.

"قوله تعالى: سَكَنًا [الأنعام: 96] أي: يسكن فيه عن الحركات، ويُستراح".

كما قال الله : لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [يونس: 67] وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص: 73].

"حُسْبانًا [الأنعام: 96] أي: يعلم بهما حساب الأزمان، والليل، والنهار.

ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: 96] ما أحسن ذكر هذين الاسمين هنا؛ لأن العزيز يغلب كل شيء، ويقهره، وهو قد قهر الشمس، والقمر، وسخرهما كيف شاء، والعليم لما في تقدير الشمس، والقمر، والليل، والنهار من العلوم، والحكمة العظيمة، وإتقان الصنعة".

في قوله: حُسْبانًا [الأنعام: 96] قال: "أي: يعلم بهما حساب الأزمان، والليل، والنهار" فهذا يمكن أن يكون أحد المعاني الداخلة تحته، فيمكن أن يفسر بهذا، وأيضًا باعتبار أنهما يجريان في أفلاكهما بحساب معلوم عند الله وحُسْبانًا جريان بعدد لبلوغ أمرهما، ونهاية آجالهما، يعني: هو جريان، وحركة محسوبة، ودقيقة، ومعلومة عند الله - تبارك، وتعالى - يدوران لمصالح الخلق، وبهما تعرف الأوقات للعبادات، والآجال، والديون، والمعاملات، كما قال الله : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس: 5] فيكون جامعًا لذلك كله، وابن جرير[4] وابن كثير[5] فسروه بنحوٍ مما سبق، بأنهما يجريان في أفلاكهما بهذا الحساب الدقيق المعلوم عند الله - تبارك، وتعالى - إلى ما حده الله لجريهما، وأنهما يدوران لمصالح الخلق؛ وبذلك تعرف الأوقات.

وحُسْبانًا جمع حساب بهذا الاعتبار.

وبعضهم يقول بأنه: مصدر حسبت، وبعضهم فسره بالضياء، وهذا لا يخلو من بعد - والله أعلم -.

وأبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - ذهب إلى أن الإشارة في ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الأنعام: 96] يعود إلى فلق الإصباح، وجعل الليل سكنًا[6].

والشنقيطي - رحمه الله - يقول: بأن ذلك يعود إلى كل ما سبق من فلق الحب، والنوى، وإخراج الحي من الميت، إضافةً إلى فلق الإصباح، وجعل الليل سكنًا[7].

يقول: "والعليم لما في تقدير الشمس، والقمر، والليل، والنهار من العلوم، والحكمة العظيمة، وإتقان الصنعة".

والتقدير: هو تبيين كمية الشيء، وتقدير الله للأشياء على وجهين:

الأول: بإعطائها القدرة، يعني بجعلها قادرة.

والثاني: بأن يجعلها على مقدار محدد، ووجه محدد، بحسب ما تقتضيه حكمته، وهذا الثاني هو المراد - والله أعلم -.

  1.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/539).
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/304).
  3.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/539).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/559).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/304).
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/560).
  7. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/551).