يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ [سورة الأنعام:96]: "يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده، وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه، وإشراقه".
وبعضهم يقول: أي أنه فالق عمود الفجر عن بياض النهار؛ لأن النهار يستنير بانفلاقه من عمود الفجر الذي يسمونه الفجر الصادق، فهو يبدو في أول ما يبدو مختلطاً بالظلام، ثم بعد ذلك لا يزال ينبلج وينجلي حتى يصير أبيض خالصاً.
وقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] فيه قراءة أخرى هكذا (ساكناً) والمعنى واحد؛ لأن سكناً يعني ساكناً أو محل للسكن، فالله جعل الليل مظلماً من أجل أن ينقطع الناس من أشغالهم، وكدهم، وسعيهم، وانتشارهم؛ فيسكنون في الليل، ويستريحون من الكد، والتعب، وأعباء النهار، فهو يمتن بهذه الآية على خلقه أنه جعل الليل بهذه المثابة كما قال في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [سورة يونس:67] وقال أيضاً: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ [سورة القصص:73].
وفي آية القصص هذه ذكر قضيتين، ثم ذكر ما يتعلق بكل واحدة منهما على الترتيب الذي سبق، وهذا من باب ما يسمى باللف، والنشر المرتب فقوله: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ [سورة القصص:73] أي: لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله في النهار - والله أعلم -.
وقابل ذلك بقوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [سورة الأنعام:96] أي: ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء كما قال: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:1-2] وقال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [سورة الليل:1-2] وقال: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [سورة الشمس:3-4].
في قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] قال: "يجريان بحساب مقنن مقدر لا يتغير" وهذا هو المعنى هو المتبادر - والله أعلم -، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -.
وبعضهم يقول: إن قوله: حُسْبَانًا مصدر حسبت، والاسم هو الحساب؛ لأنك تقول: حسبت حساباً، وبعضهم يقول: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] أي: ضياءاً، ويحتجون لهذا بقوله - تبارك وتعالى -: حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء [سورة الكهف:40] يعني النار، وقيل لها ذلك لإضاءتها، لكن الأقرب - والله تعالى أعلم - أن قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [سورة الأنعام:96] أي: يجريان بحساب مقدر؛ فيترتب على ذلك اختلاف الأوقات، وتحصل ألوان المنافع من الضياء، وبالتالي فإن من فسر ذلك بالضياء كأنه فسره باللازم، وحساب الأوقات يكون عن طريق الشمس، والقمر - والله أعلم -.
"كما قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ الآية [سورة يونس:5] وكما قال: لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40] وقال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ [سورة النحل:12].
وقوله: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة الأنعام:96] أي: الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع، ولا يخالف، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء.
وكثيراً ما إذا ذكر الله - تعالى - خلق الليل والنهار، والشمس والقمر؛ بختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر فيه هذه الآية، وكما في قوله: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ* وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة يس:37-38]، ولما ذكر خلق السماوات، والأرض، وما فيهن في أول سورة حم السجدة، قال: وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [سورة فصلت:12]".