الجمعة 25 / ذو القعدة / 1446 - 23 / مايو 2025
تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآئِهَا ۚ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُوا۟ لِيُؤْمِنُوا۟ بِمَا كَذَّبُوا۟ مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ۝ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [سورة الأعراف:101-102].
لما قصَّ تعالى على نبيِّه ﷺ خبر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بيّن لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل   - صلوات الله عليهم أجمعين - قال تعالى: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ [سورة الأعراف:101] أي: يا محمد مِنْ أَنبَآئِهَا أي: من أخبارها وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ [سورة الأعراف:101] أي: الحجج على صدقهم فيما أخبروا به، كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، وقال تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ۝ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ [سورة هود:100-101].
وقوله تعالى: فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ [سورة الأعراف:101] الباء سببية، أي: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، حكاه ابن عطية - رحمه الله - وهو متجّه حسن، كقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الآية [سورة الأنعام:109-110].

هذا الموضع أعني قوله تعالى: فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ [سورة الأعراف:101] يحتمل معانِيَ متعددة، فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال فيه ما ذكره في آية الأنعام، وما ذكره في آية الأنعام هو أن الله قال: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] يعني عقوبة لهم، حيث إنهم طلبوا الآيات، فالله قال: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] وفي القراءة الأخرى وما يشعركم أنها إذا جاءت لا تؤمنون فقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] يعني لما كذبوا به أول مرة قلب الله قلوبهم وأبصارهم عن الحق، فزاغوا وضلوا جزاءً وفاقاً، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5] وكما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون [سورة التوبة:127] فالجزاء من جنس العمل.
قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] أي: أن الله جازاهم على كفرهم الأول بأن قلب قلوبهم وأبصارهم فلم تعُد تنفع فيهم الآيات والمعجزات ودلائل الحق، ولا تصل المواعظ إلى قلوبهم، بل سدت منافذ هذه القلوب، فلا يصل إليها وعظ ولا تذكير ولا تنتفع بالبراهين وبالآيات الواضحات الدالة على صدق ما جاء به الرسل وهذا المعنى استحسنه الشنقيطي    - رحمه الله -.
ومن المعاني التي تحتملها هذه الآية: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] وقوله تعالى: فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ [سورة الأعراف:101] يعني لم يؤمنوا كما سبق في علم الله حينما استخرجهم من ذرية آدم على هيئة الذر، وأخذ عليهم الميثاق أنهم يكفرون ولا يهتدون، وهذا كقوله - تبارك وتعالى - على أحد المعاني التي تحتملها الآية: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:97] يعني سبق في علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون فلن تنفع فيهم الآيات مهما وردت على أسماعهم وشاهدوا من دلائل الحق فإنهم لا يؤمنون كما قال تعالى: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [سورة يونس:101].
وهذا المعنى في قوله تعالى: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110] أي: كما سبق في علم الله  حينما أخذ عليهم الميثاق أنهم لن يؤمنوا، هذا قاله بعض أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -.
وبعضهم يذكر معنى آخر فيقول: إن قوله تعالى: فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ [سورة الأعراف:101]: يعني أنهم عندما يتمنون الرجعة إلى الدنيا ولو ردوا لكذبوا به كما لم يؤمنوا به أول مرة كما قال الله : وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام:28] لكن هذا المعنى فيه بُعد، والله أعلم، لذلك يمكن أن يقال: إن الباء سببية في قوله: بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ ويكون المعنى أن تلك القرى المهلكة التي نقص عليك لم تنفعهم الآيات التي اقترحوها على الأنبياء بسبب تكذيبهم الأول، فقوم صالح قالوا: نريد ناقة فخرجت لهم ناقة لكن لم ينفعهم ذلك ولم يؤمنوا عقوبة لهم، قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الأنعام:110].
ولذلك ينبغي على الإنسان إذا عرف الحق وقامت دلائله أن يؤمن به وأن ينقاد ويذعن ويمتثل أمر الله  ولا يكابر، فإن المكابرة والإعراض، قد يكون سبباً للطمس على القلب، أما إذا أذعن وانقاد وقال: سمعاً وطاعة لله ورسوله ﷺ فإن هذا يكون سبباً لهداية قلبه ونقله من هداية إلى هداية، ومعلوم أن من أعرض عما هو بصدده شغل بما يضره ولا ينفعه، كما قال الله عن اليهود الذين تركوا العمل بالتوراة: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:102] أي أنهم عوقبوا بنقيض ما هم بصدده فبدلاً من اتباع الوحي صار اتباعهم للشياطين والسحر الذي يقابل الوحي، فالوحي فيه الهدى الكامل، والسحر هو معدن الشر والضلال، والمحادة لله .
ولهذا قال هنا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ.