الجمعة 25 / ذو القعدة / 1446 - 23 / مايو 2025
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ۖ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَٰسِقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم [سورة الأعراف:102] أي: لأكثر الأمم الماضية مِّنْ عَهْدٍ [سورة الأعراف: 102]وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [سورة الأعراف:102] أي: ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال.
قوله تعالى: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ [سورة الأعراف:102] بعض العلماء يقول: هذا في الأمم المعذبة التي قص الله أخبارها، يعني تلك القرى نقص عليك من أنبائها وما وجدنا لأكثرهم من عهد.
وبعضهم يقول: إن قوله: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ [سورة الأعراف:102] هذا في عموم الناس، وهذا العهد بعضهم يحمله على الميثاق الأول الذي أُخذ عليهم حينما استخرجهم الله من صلب آدم، والمعنى  فما بقي أكثرهم على هذا العهد وما عملوا بمقتضاه، وهذا المعنى هو الذي مال إليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لكن لا يبعد أن يكون المعنى أوسع من هذا وأعمّ فلا يحمل على خصوص هذا العهد الذي كان في الأصلاب، بل يقال - كما قال ابن جرير - رحمه الله - : وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ [سورة الأعراف:102] أي: من وفاء بما وصيناهم به، وأمرناهم من الإيمان وطاعة الله والقيام بحقه وتوحيده واتباع رسله، والعمل بطاعته.
وفي قوله تعالى: وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [سورة الأعراف:102] قال بعض العلماء: "إن" هذه نافية، وذلك أنّ "إنْ" تأتي أحياناً للنفي، وأحياناً تكون مخففة من الثقيلة، ومن شواهد مجيئها للنفي شاهد ابن هشام في شرحه لألفية ابن مالك:
إنْ هو مستولياً على أحد إلا على أضعف المجانين
يعني ما هو مستولياً على أحد إلا على أضعف المجانين.
ومن شواهد مجيئها للنفي قوله تعالى: إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [سورة إبراهيم:10] يعني ما أنتم إلا بشر مثلنا، والمقصود أن بعضهم يقول في قوله تعالى: وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ [سورة الأعراف:102]: يعني وما وجدنا أكثرهم، وقالوا: إن اللام في قوله: لَفَاسِقِينَ هي بمعنى "إلا" ويكون معنى الآية: وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين، لكن هذا المعنى لا يخلو من تكلف، وليس هو الظاهر المتبادر، والله أعلم.
والعهد الذي أخذه هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، فأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به، وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع، وفي الفطرة السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك، كما جاء في صحيح مسلم: يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم[1] وفي الصحيحين: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه الحديث[2].
 
  1. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865) (ج 4 / ص 2197).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة الروم (4497) (ج 4 / ص 1792) ومسلم في كتاب القدر - باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (2658) (ج 4 / ص 2047).

مرات الإستماع: 0

"وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [الأعراف: 102] الضمير لأهل القرى، والمعنى: وجدناهم ناقضين للعهود".

بمعنى لم يكن لهم، وفاء، والتزام بعهد الله: من توحيده، وطاعته، والإيمان به، واتباع رسله، وبنحو هذا المعنى قال أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -[1] وحمله الحافظ ابن كثير - رحمه الله - على ما جبلهم، وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم، وأنه لا إله إلا هو[2] فأقروا، وشهدوا: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172].

فيقول هنا: "وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ يعني العهد الأول، وهم في الأصلاب، فلما أقروا، وشهدوا خالفوا، وهذا المعنى جوَّزه الطاهر بن عاشور[3] كما ذكره ابن كثير، وجوَّز أن يُراد أيضًا به الوعد الذي أعطاه الأمم لرسلهم كقولهم: فَأْتِ بِآيَةٍ إن كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 154] يعني: إن جئت بها آمنا بك، واتبعناك، وصدقناك.

وجوَّز أيضًا أن يكون وعدًا وثَّقه أسلاف الأمم من عهد آدم: ألا يعبدوا إلا الله أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ [يس: 60] فكان لازمًا لعقابهم - والله أعلم -.

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ يعني لم يحصل منهم وفاء بما أُخِذَ عليهم، أو أخذوا على أنفسهم، يعني أُخِذَ عليهم باعتبار ما كان من عهد لله سابق، إما في الأصلاب، وإما على الأمم، أو بما أخذوا على أنفسهم من تعهدهم بالإيمان، إذا جاءتهم الآية، ولم يكونوا كذلك.

 

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/10).
  2. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/452).
  3. التحرير، والتنوير (9/32).