وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير سورة البقرة، فدلَّ على أن المراد بذلك آدم، وإنما قيل ذلك بالجمع؛ لأنه أبو البشر، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي ﷺ: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة: 57] والمراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى ولكن لما كان ذلك منَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء.
يعني أن الخطاب في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [سورة الأعراف:11] جاء بصيغة الجمع فهل المقصود به آدم ﷺ أم جميع الناس؟
الخلق والتصوير لا شك أنه واقع لجميع الناس، فالله خلقهم ثم صورهم، وقد تمدَّح - تبارك وتعالى - بأنه هو الخالق البارئ المصور لكن في الآية قرينة تدل على أن المراد بهذا الخطاب الذي جاء بصيغة الجمع هو آدم ﷺ؛ لأنه عقبه بقوله: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11] أي: خلقنا أباكم آدم ﷺ وصورناه بعد الخلق ثم قلنا للملائكة اسجدوا له، ويوضح هذا الآيةُ التي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهي قوله – تبارك وتعالى - : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [سورة الحجر: 28-29] هذا معنى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [سورة الأعراف:11] ويؤيد هذا أيضاً القاعدة المعروفة وهي أن الخطاب يكون متوجهاً للأبناء فيما وقع للآباء؛ لأن المنة على الآباء متوجهةٌ للأبناء، كما أن المذمة الواقعة على الآباء متوجهةٌ للأبناء إن كانوا على طريقتهم، كما في قوله تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [سورة البقرة:57] مع أن ذلك إنما وقع لأجدادهم كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ [سورة البقرة:61] وكما قال: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] فهذا إنما وقع من الأجداد، فلما كانوا على طريقتهم صاروا في حكمهم، فصارت هذه المذمة لاحقةً لهم وواقعةً عليهم، وهنا يمتن الله على الناس يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11] فهذا تفضيل لآدم، وهذا التفضيل يلحق ذريته.
في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ [سورة المؤمنون:12] يعني باعتبار الأصل، فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وأما الذرية فمن النطف.
ومن أهل العلم من يقول: إن معنى قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [سورة الأعراف:11] أي: نطفاً ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يعني بعد ذلك، لكن هذا القول يأباه قوله بعده: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11] فإن "ثُمَّ" تدل على التعقيب والتراخي في أصل معناها.
وبعضهم يقول: خَلَقْنَاكُمْ أي خلقنا آدم من تراب ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يعني في ظهره.
وبعضهم يقول: إن "ثم" في الآية بمعنى الواو، يعني ولقد خلقناكم ثم صورناكم وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم، أي أنها ليست للتعقيب وعلى هذا يكون الخلق والتصوير لعموم الخلق ولا يختص ذلك بآدم في الآية، يعني أن الله ذكر جملةً من الأمور التي يمتن بها على الناس فقال: ولقد خلقناكم ثم صورناكم وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم، لكن هذا خلاف الأصل ولا حاجة إليه؛ لأن "ثم" في أصل معناها تفيد التراخي والتعقيب.
وبعضهم يقول: خَلَقْنَاكُمْ يعني من ظهر آدم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أي حينما استخرجناكم من صلبه كأمثال الذر، وأخذنا عليكم الميثاق، لكن يقال: وماذا عن قوله: ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ؟ [سورة الأعراف:11]، لذلك نقول: لا حاجة لمثل هذا التكلف.
وبعضهم يقول: خَلَقْنَاكُمْ أي: خلقنا الأرواح ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أي: الأشباح، يعني أعطي كل إنسان قالباً وجسماً وصورةً تكون فيها هذه الروح.
وبعضهم يقول: خَلَقْنَاكُمْ في أصلاب الآباء ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يعني في الأرحام؛ فالتصوير يكون في الأرحام.
وبعضهم يقول: خلقهم في ظهر آدم، ثم صُوروا في الأرحام، والفرق بين هذا القول والذي قبله أن الأول معناه أنهم خُلقوا في ظهور الآباء ثم صُوروا في أرحام الأمهات، والثاني أنهم خُلقوا في ظهر آدم ثم كان تصويرهم في أرحام الأمهات، وهذا كله لا حاجة إليه، وإنما يقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [سورة الأعراف:11] أي: خلقنا آدم ﷺ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ آدم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [سورة الأعراف:11]، والله أعلم.