الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

 قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة الأعراف:12].
قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [سورة الأعراف:12] تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا، قاله ابن جرير، وهذا القول قوي حسن، والله أعلم.

الحافظ ابن كثير وابن جرير – رحمهما الله - فسرا مَنَعَكَ بمعنى أحرجك واضطرك، وبهذا الاعتبار لا إشكال في الآية، لكن إذا نظرت إلى لفظة "منع" و"اللام" التي تدل على النفي فإن ذلك قد يكون مشكلاً، وذلك أن المتبادر أن يقال: ما منعك أن تسجد، أو ما منعك من السجود، وهنا قال: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [سورة الأعراف:12] "ألا" مكونة من "أن" و"لا" أي ما منعك أن لا تسجد، فلفظة "منع" واجتماعها مع "لا" هذا موضع الإشكال، فالكلام بهذا التركيب لا يخلو من إشكال، ولذلك فإن بعض أهل العلم قال: إن "لا" زائدة إعراباً، لكن من حيث المعاني لا يوجد في القرآن شيء زائد، فقالوا: جيء بها للتأكيد وتقوية الكلام؛ بدليل أن الله قال في الموضع الآخر: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ [سورة ص:75] بدون "لا" فقالوا: إن قوله: مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ [سورة الأعراف:12] يفسره قوله تعالى في الآية الأخرى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ [سورة ص:75] وهذا كما في قوله - تبارك وتعالى -  أيضاً: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ [سورة الحديد:29] فالمعنى "ليعلم" وذلك أنه ذكر هذا من أجل أن يعلموا، ولهذا نظائر قالوا فيها ذلك، ففي سورة الأنعام مرَّ بنا قوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:109] وذكرنا في بعض توجيهاته قول من قال: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، وسبق الكلام على هذا وعلى القراءتين وذكرنا أن هذا التوجيه يقال على قراءة فتح همزة "أنّ" وأما على قراءة الكسر فلا إشكال.
وهكذا أيضاً في مثل قوله - تبارك وتعالى - : وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [سورة الأنبياء:95] أي: وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها أنهم يرجعون، وهكذا.
وبعضهم يفسر "منع" هنا بمعنى "قال" ويجعلون "ما" بمعنى "مَن" أي: من قال لك لا تسجد؟ وهذا فيه بُعد، وبعضهم يقول: يعني ما دعاك ألا تسجد، وهذا يشبه قول ابن كثير وابن جرير - رحمهما الله -.
وبعضهم يقول: فيه تقدير محذوف، أي: ما منعك من الطاعة وأحوجك ألا تسجد؟ لكن نقول: الأصل عدم التقدير.
ولذلك لعل أحسن الأقوال وأوضحها قول ابن كثير وابن جرير – رحمهما الله - أي ما حجزك وأحرجك واضطرك، ويليه القول بأنها زائدة إعراباً بدليل الآية الأخرى في سورة ص: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ [سورة ص:75] فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، والله أعلم.
وقول إبليس - لعنه الله - : أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ [سورة الأعراف:12] من العذر الذي هو أكبر من الذنب؛ كأنه امتنع من الطاعة؛ لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني - لعنه الله - وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟
ثم بين أنه خير منه بأنه خُلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص قوله تعالى: فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [(سورة الحجر:29].

لما سأله ما منعك من السجود؟ قال: أنا خيرٌ منه، مع أن الذي منعه حقيقةً هو الكبر، كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [سورة البقرة:34] والحامل له على هذا الكبر هو اعتقاده الفاسد أنه أفضل من آدم، فهو عرف أن هذا السجود للتفضيل والتكريم فقال ما قال، وأجاب بهذا الجواب حيث ذكر سبب علة الامتناع وهو اعتقاده الفاسد الذي أورثه هذا التعاظم، وأما العلة فهي الكبر.
وهذا الموضع يتكلم فيه العلماء كثيراً على القياس الفاسد المصادم للنصوص، والذي يسمونه بـ"فاسد الاعتبار" فكل قياس خالف النص يقال له فاسد الاعتبار، أي: قياس باطل لا حقيقة له ولا صحة له بحالٍ من الأحوال، ولهذا يقولون: أول من قاس قياساً فاسداً مقابل النص هو إبليس، وذلك أن الله تعالى قال له: اسْجُدُواْ، فرد هذا الأمر بهذا القياس، فهو أول من عارض النص بالرأي والنظر الباطل، وكل من قاس قياساً باطلاً فاسداً فله نصيبٌ من هذه الصفة، وقد تكلم على هذه المسألة كثير من العلماء منهم الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في إعلام الموقعين.
والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - أطال في الكلام على هذه الآية في دروسه التي كانت في المسجد النبوي، ففي درس كامل تكلم على القياس والرد على ابن حزم في القياس بكلامٍ رصينٍ متين حتى إنه لما كتب وعرض عليه - رحمه الله - قال: لو لم أسمع هذا بصوتي لما صدقت أني قلته في الدرس، فالله فتح عليه بأشياء كثيرة، ولذلك يحسن مراجعة ذلك.
والعلماء - رحمهم الله - ردوا على إبليس – لعنه الله - وممن ردَّ عليه ابن القيم وابن كثير والشنقيطي وغيرهم – رحمهم الله - وقد ردوا عليه  من وجوه متعدده.
فشذَّ من بين الملائكة لترك السجود..

قوله: "فشذَّ من بين الملائكة" لا يفهم منه أن إبليس من الملائكة فهو إنما كان من الجن كما قال الله في سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف:50] ثم إنه ذكر أصله هنا فقال: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ [سورة الأعراف:15] والملائكة خلقوا من النور كما في الحديث الصحيح[1].
فشذَّ من بين الملائكة لترك السجود، فلهذا أبلس من الرحمة أي أيس من الرحمة فأخطأ - قبحه الله -.

هذا وجه تسميته بهذا الاسم حيث قيل: إنه مأخوذٌ من الإبلاس وهو بمعنى القنوط واليأس من رحمة الله .
فأخطأ - قبحه الله - في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضاً، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت.

هذا من وجوه رد الحافظ على إبليس في قياسه الفاسد، ومعناه أن إبليس كان فهمه خطأ واحتجاجه خطأ، فهو يقول: أنا أشرف منه لأني خلقت من نار وخلق آدم من الطين، فابن كثير - رحمه الله - يقول هذا كلام غير صحيح أيضاً إذا جئنا لمناقشته، وذلك أنه إضافة إلى كونه اعترض على الأمر الذي يفترض مقابلته بالتسليم والانقياد والإذعان فإن قوله هذا الكلام غير صحيح؛ فليست النار أفضل من الطين بل الطين أفضل من النار؛ لأن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، وليس المقصود بهذا الكلام أن الحلم صفة أصل الطين وإنما المقصود أن المخلوق من الطين هو الذي من شأنه الحلم والأناة والتثبت خلافاً للذين خلقوا من النار.
ولهذا ذكر شيخ الإسلام مثلاً في بعض المناسبات أن من صفة الجن الخفة والطيش حيث خلقوا من مارج من نار، يعني حتى المسلمين من الجن يوجد فيهم الكذب والظلم والخفة والطيش أكثر من وجوده في المسلمين من الإنس ولذلك تجد الواحد منهم مسلما وربما يزعم أنه من أهل العلم ومع ذلك يتلبس بالإنسان ويؤذيه غاية الأذية بحجج تافهة كأن يقول: إنه جلس في هذا المكان وما سمّى، أو جلس عليَّ أو نحو ذلك!!
والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة، ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.

هذه كلها من وجوه تفضيل الطين على النار، كذلك يمكن أن يقال: إن الطين أطول بقاءً من النار، فالنار تبقى بقدر ما فيها من الوقود، ثم تتلاشى وتذهب، أما الطين فهو أبقى منها وأطول، وهو موجود في الجنة، وأما النار فلم يذكر لها وجود في الجنة، بل هي عذاب، والطين ليس بعذاب، والنار أيضاً تحتاج إلى مكان تتحيز فيه، والطين مسجد وطهور، والنار لا مسجد ولا طهور، ومن شأنها الإتلاف بخلاف الطين.
ويمكن أن نرد على إبليس من وجه آخر فنقول: الملائكة خلقوا من نور والنور أشرف من النار ومع ذلك سجدوا، وأنت من نار فحتى لو فرضنا أن النار أفضل من الطين فالملائكة ما اعترضوا بهذا الاعتراض وهم أشرف منك قطعاً، وأنت دونهم حيث خلقت من نار فلماذا تعترض هذا الاعتراض؟
هذا يدل على كبر في نفسه، ظهر حينما أُمر بالسجود، فكانت علة خفية يعلمها الله ظهرت في هذا المقام، ولهذا فإن الإنسان قد يكون فيه دين وعبادة، أو يكون من أهل العلم، لكن لا تظهر كوامن النفس وما فيها من العلل إلا إذا وجد المحرِّك لذلك، نسأل الله العافية، ولذلك الإنسان دائماً يستعيذ: اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
فإبليس حسد آدم على هذا التكريم والتفضيل وظهر هذا الحسد حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم فامتنع من السجود، وهكذا الإنسان قد يكون في دين وصلاح لكن ما يظهر ما فيه من علة إلا إذا وجد المحرك لها، وهذه مداخل دقيقة جداً في النفس قد لا يعرفها الإنسان من نفسه ولكنها تظهر بعدُ بوجود محركها، وهذا له صور كثيرة جداً، فلو نظرت إلى المنتسبين إلى العلم فقط الذين يفترض أن يكونوا أشرف وأكمل من غيرهم فإنك تجد عند بعضهم من هذه الأمور الخطيرة، وإذا نظرت إلى العلل الكامنة في نفوس كثير من الناس - إلا من وفقه الله وجاهد نفسه وأصلحها وتنبه لعللها وفتش عنها -  تجد من العلل أشياء كثيرة، فالرجل يُثنَى عليه ويُذكر بأوصاف من الكمالات والعلم والعمل والتحقيق والعبادة، فتبدأ تتحرك بعض النفوس التحرك السلبي ويبدأ الحسد وربما يلتمس بعض الحاسدين ما يعيب هذا الإنسان وينقصه، وربما يفرح إذا سمع كلمة حفظها إنسان مما يحط من مرتبته، فلو قال قائل: سمعته يقول كذا وحصل منه مرةً كذا، فإن هذا الحاسد يتنفس من هذا التنقص.
وبعضهم قد يكون فيه من ضعف الدين وخفة العقل ما يجعله لا يتمالك فينطلق لسانه بالعيب والذم والثلب وأمور ربما يلفق معها أشياء من الأكاذيب لينتقص هذا الإنسان، وكل ذلك من الحسد، لكن بعضهم قد يكون فيه ذكاء وعقل فيصل إلى هذا بطرق خفية، وبعضهم يكون فيه دين وخوف من الله فيبقى هذا في النفس لكنه يحبسه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه"[2] فهذه مشاعر إذا وجدت في النفس وما خرجت بقولٍ أو فعلٍ أو غير ذلك مما يصدر من الإنسان فلا يؤاخذ الإنسان عليها، وعليه أن يدافع هذا وينزه قلبه قدر المستطاع، وما يغلب عليه لا يؤاخذ عليه ما لم يصدر منه شيء، فالإنسان يحتاج إلى معرفة مثل هذا، وإلى النظر في نفسه، وعليه أن يفتش في عيوبه، وما أشبه ذلك.
تجد بعض الناس أحياناً قد يدعى إلى مناسبة، ويرى أناسا يقدّمون وربما يكون لهم شيء من الكلمة أو نحو ذلك، وهو يرى أنه أولى منهم أو لا يقل عنهم، ثم ينتهي هذا الحفل أو هذا البرنامج من أوله إلى آخره وما طُلب منه شيء، فإذا خرج بدأ يذكر بعض المثالب والعيوب والملاحظات، ولو قيل له: تكلم، لخرج وهو يثني، والسرور يلوح في وجهه! فالذي جعله يخرج وهو يذكر العيوب - إن كانت هناك عيوب حقيقية - هي شرور النفس حيث ظهرت بعد أن تحركت في نفسه لما رأى غيره يقدم عليه، وكان يظن أنه هو المقدم، وما نفعه العلم إن كان من أهل العلم حقيقةً، وقد لا يكون من أهل العلم أيضاً لكنه يلبس زيهم، فهذه  بلوى ابتلى الله الناس بها، وهذه أمور تحتاج إلى معالجة، فهذا إبليس امتنع وتحركت نفسه بسبب هذا التكريم والتفضيل لآدم.
وهذا لا يختص بأهل العبادة وأهل العلم بل حتى الطلاب الصغار إذا رأوا الأستاذ يعامل أحدهم معاملة طيبة تسلطوا عليه وكرهوه وحسدوه وذموه ولاموه، وهكذا.
تجد الرجل يشتط ويجتهد في الدعوة إلى الله ويحصل على يده خير كثير، ثم يقدَّم غيره عليه أو يكرم إنسان آخر ويعطى درعاً أو نحو ذلك، فتبدأ تتحرك نفس هذا وربما ينقطع من العمل بالكلية، وإذا تساءلت وبحثت لماذا؟ وما الذي حصل له؟ وجدت أنه يرى أنه يعمل وأن الذي يكرّم غيره، وتحولت المعاني الجميلة التي يدعو إليها، والإخلاص والكلام والصدق وكذا تحولت إلى لا شيء، فالله المستعان.
وفي صحيح مسلم عن عائشة - ا وأرضاها - قالت: قال رسول الله ﷺ : خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم[3].

المارج من النار هو: اللهب الذي لا دخان فيه، وبعضهم فسره بطرفها الأعلى، وهذا لا شك أنه أخف النار، وليس معنى هذا أن شياطين الجن أو أن الجن عموماً هم نار تتحرك بل هم مثل بني آدم حيث خلقوا من طين فنحن أصلنا من الطين، وهم أصلهم من النار، ومع ذلك يعذبون بالنار في الآخرة وقد يحترقون بها في الدنيا، فلا يلزم أن يكون هذا الاحتراق بالنار المحرقة هذه؛ لأنها قد لا تضرهم، والله تعالى أعلم، وهذا مشاهد في أن الإنسان الذي يتلبسون به قد يأكل الجمر، أعني أولئك الذين يبحثون عن اللهو والطرب ممن تركبهم الشياطين يشاهد أنهم يأكلون الجمر وكذلك من تركبهم الشياطين ممن يتعاطون السحر والشعوذة والدجل على الناس يأكلون الجمر والنار تخرج من أفواههم ولا يحترقون، ويمشي الواحد منهم على النار فمثل هؤلاء قد لا يحترقون بالنار لكن قد يحترقون بشيء آخر كالرقية، والمقصود أن كونهم خلقوا من النار لا يمنع أن يعذبوا في نار جهنم فالإنسان المخلوق من الطين إذا ضرب بلبنة من الطين فإنه قد يموت أو على الأقل يشج رأسه، بمعنى أن الطين يضره ويؤذيه فكذلك هؤلاء خلقوا من نار ثم يعذبهم الله فيها، والله تعالى أعلم.
وروى ابن جرير عن الحسن في قوله: خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة الأعراف:12] قال: "قاس إبليس وهو أول من قاس" إسناده صحيح.
وروى عن ابن سيرين قال: "أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس" إسناد صحيح أيضاً.

المقصود بهذه الآثار المقاييس الباطلة الفاسدة وإلا فإن المقاييس الصحيحة لا إشكال فيها، والله قال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [سورة الحشر:2] والاعتبار فيه معنى المقايسة، ولهذا فإن حقيقة الاعتبار أن تنتقل من حال هذا الإنسان المعتبر به إلى حالك أنت، فلا تقع فيما وقع فيه، فهو من العبور والمجاوزة حيث ينتقل من حاله إلى حالك ولهذا قيل: العبْرة هي انتقال بصورة من الصور، فهذه النصوص وغيرها مما ورد في ذم القياس المقصود به القياس الفاسد الذي تُعارَض به النصوص، أما القياس الصحيح فإن النبي ﷺ قال لعمر لما سأله عن القبلة للصائم: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم [4] المضمضة أصل لا إشكال فيه، وليس عند عمر شبهة في المضمضة أنها لا تؤثر في الصوم، فالمضمضة ماء يدخل إلى الفم والقبلة للصائم مثلها.
وبعض أهل العلم قال: لما كانت المضمضة مقدمة للشرب فالقبلة مقدمة للجماع، ويمكن أن ينظر فيه إلى ملحظ آخر وهو أن القبلة أصلاً في الفم فيخالطه من الريق ما يخالطه وهذا لا يؤثر كما أن المضمضة لا تؤثر، فالقبلة فرع والمضمضة أصل والعلة الجامعة أن هذه مقدمة لمحظور في الصوم، سواء قلنا: مقدمة لمحظور هو ما يحصل في الفم من مخالطة الريق أو قلنا: مقدمة للجماع، فهي مقدمة لمحظور، والحكم هو الجواز والإباحة، فالمضمضة جائزة للصائم لا تؤثر على صومه وكذلك القبلة لا تؤثر وهذا هو الحكم الجامع، وهذا هو القياس، وأمثلة ذلك كثير، والله أعلم.
  1. سيأتي تخريجه.
  2. مجموع الفتاوى (ج 10 / ص 125).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقاق - باب في أحاديث متفرقة (2996) (ج 4 / ص 2294).
  4. أخرجه أبو داود في كتاب الصوم - باب القبلة للصائم (2387) (ج 2 / ص 284) والدارمي في كتاب الصوم - باب الرخصة في القبلة للصائم (1724) (ج 2 / ص 22) وأحمد (138) (ج 1 / ص 21) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2385).

مرات الإستماع: 0

"أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة للتوكيد."

 

مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ لا نافية، ما منعك أن لا تسجد، فالمنع يدل على الجحد، وهنا كيف يكون المعنى ما منعك أن لا تسجد فاجتمع جحدان؟ ولهذا قالوا بأن لا هذه زائدة للتوكيد، يعني: العرب تأتي بلا هذه للتوكيد، كما تدخل في القسم على أحد الأقوال المشهورة لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد: 1] لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة: 1] يعني أقسم، فتكون لتوكيد القسم.

فهي هنا يقولون زائدة لتوكيد النفي، لئلا تجتمع مع جحد آخر، فيكون جحدان مَا مَنَعَكَ اجتمع الجحود، والنفي، وإتيان لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد هذا كثير في كلام العرب، وجاء في القرآن، والقرآن نزل بلغة العرب، وهذا المعنى اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[1] أن لا هذه صلة.

وبعضهم يقول: ما منعك مضمن يعني فعل المنع هنا معنى فعل آخر هو ألجأ، فلا تكون زائدة، ما ألجأك، لئلا يجتمع جحد، ونفي، فتكون معنى منع بمعنى جحد، أو مضمن معنى آخر، وهو ألجأ فيكون ما ألجأك يصح أن يقال مع أن لا تسجد، ما ألجأك، وأحوجك أن لا تسجد، هذا المعنى اختاره أبو جعفر ابن جرير[2] واستحسنه ابن كثير[3].

وهذا المعنى لا يحتاج معه إلى دعوى الزيادة، والأصل عدم الزيادة، وإذا دار الكلام بين دعوى الزيادة، وعدمها فالأصل عدم الزيادة، وتكلمنا على مسألة الزائد في القرآن، هل يوجد زائد في القرآن، أو لا؟

طبعًا هم يقصدون زائدا إعرابًا كما نبهنا مرارًا، وإلا بالإجماع لا يوجد حشو في القرآن، كما قال صاحب المراقي:

  ولم يكن بالوحي حشو يقع

لأن هذا نقص، ولا شك أنه إزراء في القرآن إذا، وجد فيه كلام لا معنى له، ولا فائدة منه، ولكنهم يقولون هو زائد إعرابًا، ولكن له معنى من ناحية اللغة، والبلاغة، فهو يفيد التوكيد، ونحو ذلك؛ لأن زيادة المبنى لزيادة المعنى دائمًا.

وهذا القول الآخر يسلم من الدعوى في الزيادة، وأما التضمين فهو موجود في القرآن، وفي كلام العرب أن يضمن الفعل معنى الفعل، فيعدى تعديته، وذكرنا لهذا أمثلة كثيرة، يعني يكون فعلاً بداخله معنى فعل آخر يعرف هذا من خلال الحرف المعدى به، أو نحو ذلك، مثلنا لهذا بأمثلة، كقوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 6] هل يشرب منها حرف مضمن معنى الحرف، أو يشرب بها، يعني يلتذ بها، أو يرتوي بها، فيصح فعل الارتواء، أو الالتذاذ أن يعد بالباء يلتذ بها يرتوي بها، فصار ذلك يدل على معنى الشرب، والالتذاذ، والارتواء، فهذا أبلغ، وهو الذي يسميه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - مذهب فقهاء النحاة[4] هذا مذهب البصريين، بخلاف الكوفيين الذين يقولون: بتضمين الحرف معنى الحرف، فالقول الثاني أسلم من القول بالزيادة.

"قوله تعالى: إِذْ أَمَرْتُكَ استدل به بعض الأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب، والفور، ولذلك وقع العقاب على ترك المبادرة بالسجود."

هذا مشهور في كتب الأصول أن الأمر يقتضي الفور، يعني فورًا بلا مهلة، يعني مثلاً حينما أمر الله بالحج هل هذا على المهلة بحيث يحج متى شاء، والظرف لذلك العمر في حال تغليب السلامة، أو يكون ذلك للفور متى، وجدت القدرة يجب عليه أن يحج، ولا يؤخر إلا ما دل الدليل على التوسعة فيه مثل أوقات الصلوات، ونحو ذلك، فالأمر للفور، كذلك أيضًا هو للوجوب إلا لصارف، فيستدلون على هذا بأدلة من النقل، ومن النظر، واللغة.

يقول: إذا أمر عبده، وقال له افعل كذا، فتباطأ باعتبار أن ذلك موسع، يقول: فإنه يستحق العقوبة، وهذا هو الأقرب أن الأصل في الأمر أنه للفور إلا لدليل، وكذلك بالوجوب إلا لصارف.

"قوله تعالى: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ تعليل علّل به إبليس امتناعه من السجود، وهو يقتضي الاعتراض على الله - تعالى - في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زعمه، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود."

هذا الآن مقابلة النص بالعقل، والقياس، يعني: معروف أن القياس الباطل ما كان مخالفًا للنص، فهذا يكون فاسد الاعتبار، يقدح فيه بالقادح المعروف فساد الاعتبار، كل ما خالف النص من القياس فهو فاسد الاعتبار عند الأصوليين هكذا يسمونه، ويقولون: أول من قاس قياسًا فاسدًا هو إبليس، وقد رد عليه العلماء من وجوه كثيرة، رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وممن رد عليه ردًا مطولاً أيضًا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.

وبيَّنوا فساد قياس إبليس بأنه خير من آدم باعتبار أنه من نار، وأن آدم من طين، وبينوا أن الطين أفضل من النار من وجوه متعددة، قالوا النار متلفة، محرقة، إذا وضع فيه الشيء أحرقته، بينما الطين توضع فيه الحبة فتكون شجرة مثمرة، والنار من طبعها الخفة، والطين من طبعه الرزانة، ولذلك الجن لما كانوا خلقوا من نار كان من طبعهم الخفة، وكما قال شيخ الإسلام - رحمه الله - بأن الغالب فيهم الظلم فيهم خفة[5] إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكروها، فليس لأحد أن يقابل النص برأيه، فيكون بذلك مشابهًا لإبليس. 

  1. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/9).
  2. تفسير الطبري (12/326).
  3. تفسير ابن كثير (3/392).
  4. انظر: بدائع الفوائد (2/21).
  5. مجموع الفتاوى (15/5).