قولهم: إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ يدل على شدة ثقتهم بأنفسهم وأن ما سيأتي به مستعدون لإبطاله، فهم واثقون من أنفسهم تماماً.
ومن أهل العلم من يقول: إنهم قالوا ذلك من باب الأدب الذي اعتاده من يتبارون من أهل العلوم أو الصناعات أو الأعمال المختلفة إذا كانوا في مقام التباري والتنافس، كما يقال في المناظرة مثلاً: تسأل أو أسأل؟ لكن هذا لا يقوله إلا من كان واثقاً بنفسه تمام الثقة، وإلا فإنه يطلب شيئاً معيناً؛ لأنه قد رتب عليه أمراً آخر، فيخاف أن يفوته.
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يعلل لماذا قال لهم موسى ﷺ: ابدءوا أنتم، فيقول: ليكون ذلك أوقع في نفوس الناس، باعتبار أنهم يرون البهرج ثم بعد ذلك ينتظرون ماذا سيلقي موسى.
ويمكن أن يقال بعبارة أخرى - وكل هذا وجه ظاهر والله تعالى أعلم - : إنه أراد أن يكون الحق هو آخر ما يلامس أو يصادف أو يراه الناس؛ فإنه يعلق في آذان الناس عادة آخر ما يرون، ولذلك فالنهايات معتبرة في كل شيء، فمن كانت نهايته سيئة فلا عبرة بحسن بدايته، فلو أن إنساناً دعا ناساً وأكرمهم ثم في آخر المجلس أساء إليهم فإن الذي يعلق في الأذهان تلك الإساءة التي نسخت كل الإحسان، وهكذا في كل شيء يبقى الإنسان يعلق في ذهنه ما كان في آخر المطاف، أو آخر الأمر، فموسى أراد - والله تعالى أعلم - أن يكون آخر ما يقع عليه أبصار الناس وآخر ما يقفون عليه هو الحق؛ ليكون هو العالق في الأذهان؛ لأن ما تقدمه ينتقل إلى الذاكرة ويختزن فيها وقد يفوت منه ما يفوت فإذا جاء بعده أخذ نصيباً من الأول، وهكذا، فإذا كثرت الأشياء أنسى بعضها بعضاً، وما يأتي ثانياً فالعادة أنه يُذهل عن الذي قبله، فالمقصود أن موسى ﷺ أراد أن يكون الحق هو آخر ما يراه الناس، والله أعلم.