السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُۥ لِيُفْسِدُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَٰهِرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ۝ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۝ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:127-129].
يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه وما أضمروه لموسى وقومه من الأذى والبغضة.
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أي: لفرعون أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ [سورة الأعراف:127] أي: أتدعهم لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127] أي: يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك.
يا لله العجب؛ صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون، ولهذا قالوا: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127].
وقال السدي في قوله: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127]: وآلهته فيما زعم ابن عباس - ا - كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها فلذلك أخرج لهم السامري عجلاً جسداً له خوار.

قوله: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127] يحتمل أن يكون المقصود مجموع الأمرين، يعني أتتركه ليفسد في الأرض، ويذرك وآلهتك، كيف ترضى منه هذين الأمرين؟
ويحتمل أن يكون المعنى غير هذا، وذلك أن قوله: وَيَذَرَكَ فيها قراءة أخرى بالرفع ويذرُك فعلى هذه القراءة يكون كأنه نتيجة، يعني أنهم قالوا: أتتركه يفسد في الأرض؟، ثم ذكروا قضية أخرى هي نتيجة لذلك وتتمثل في أن يذرك وآلهتك.
وقوله: وَآلِهَتَكَ المعروف أن فرعون كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24] فكيف أخبر الله فقال: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ هل كان له آلهة؟
هنا نرجع إلى ما ذكره عن ابن عباس - ا - : أنهم كان يعبدون البقر، ويقال: إن فرعون أصلاً من أهل اصتخر، وفي بعض الروايات أنه أصلاً من أهل المشرق، فقد تكون جاءته عبادة البقر من تلك الناحية، لكن هذه لا يثبت فيها شيء، ويحتمل – كما قيل - : إنهم كانوا يعبدون النجوم، أي أنهم كانت لهم معبودات متعددة، وبعضهم يقول: كانوا يعبدون الأصنام تقرباً إلى فرعون، فإذا قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24] فالمعنى أنهم لهم أرباب لكن هو الرب الأعلى، وقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38] يكون باعتبار أنهم كانوا يعبدون الأصنام تقرباً إليه؛ لأنه أمرهم بهذا، هكذا جاء في بعض الروايات عن التابعين والعلم عند الله .
وقيل: إنهم كانوا يعبدون الشمس، ويمكن أن يكون قد قال: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38] باعتبار أنه هنا في مقام الإلزام والرد فقال ذلك على سبيل المبالغة ولا سيما أنه يرى أن كل شيء لا بد أن يكون بإذنه، فكيف يعبدون الله ، والآمر الناهي هو فرعون؟
ويمكن أن يكون قوله: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ كما فسره بعض أهل العلم أي: يذرك وعبادتك، وهذا يكون أوضح في القراءة الأخرى وهي قراءة غير متواترة عن علي وابن عباس والضحاك: وإلهتك وهذه واضحة؛ فإلهتك يعني عبادتك، فالإلهة هي العبادة، تقول: أله يأله إلهة يعني عبادة، والمألوه هو المعبود،.
وفي قراءة غير متواترة لأبيّ بن كعب ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك وهذه واضحة صريحة، وعليها لا تكون الآلهة بمعنى المعبودات الأخرى، وذلك أنه يزعم أنه هو الإله الوحي بالنسبة لهم، فالله أعلم.
فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ [سورة الأعراف:127] وهذا أمر ثانٍ بهذا الصنيع، وقد كان نكّل بهم قبل ولادة موسى حذراً من وجوده فكان خلاف ما رامه وضد ما قصده فرعون، وهكذا عومل في صنيعه أيضاً لما أراد إذلال بني إسرائيل وقهرهم فجاء الأمر على خلاف ما أراد، أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده.

القتل الأول المشهور سببه أن الكهنة قالوا له: إنه سيولد ولد يكون ذهاب ملكك على يديه فصار يقتل ويقتل، فقيل له: إن قتلت هؤلاء جميعاً فمعنى ذلك أن الفراعنة سيتولون الخدمة في الأمور المهينة، فصار يقتل سنة ويترك سنة، ويمكن أن يكون فعل ذلك لإضعافهم أي أنه يبقي بقية منهم من أجل امتهانهم وابتذالهم ليعملوا له في الأمور الوضيعة؛ لئلا يتولاها الفراعنة، واستحياء النساء معناه أنهم يبقون البنت حية لا يقتلونها من أجل الخدمة، وهذا لا يقل عن القتل بل هو أشد من القتل، أي أن تبقى بنت الإنسان في قبضة عدوه يذلها ويهينها ويستعملها في الأمور المهينة ويحملها التكاليف الشاقة، فهذا لا شك أنه أمر صعب وشديد على النفوس.
والتقتيل الثاني أيضاً من أجل الاستضعاف، وهذا ظاهر حيث قالوا له: كيف تترك هؤلاء يفسدوا في الأرض؟، قال: هم تحت السيطرة، فنحن سنقتل أولادهم وسيبقون بقيةً قليلة جداً ضعيفة، لا يكون لهم شأن ولا قوة.

مرات الإستماع: 0

"قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الأعراف: 125] أي: لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى ربنا وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا [الأعراف: 126] أي: ما تعيب منا إلا إيماننا".

يقال: نقم الشيء إذا أنكره إما باللسان، وإما بالفعل، والعقوبة، فأصل المادة يدل على إنكار شيءٍ، وعيبه.

"قوله تعالى: لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 127] أي: يخربوا ملك فرعون، وقومه، ويخالفوا دينه.

وَيَذَرَكَ [الأعراف: 127] معطوف على لِيُفْسِدُوا أو منصوب بإضمار (أن) بعد الواو".

لِيُفْسِدُوا وَيَذَرَكَ وهذا اختيار الطاهر بن عاشور[1] أو منصوبٌ بإضمار (أن) لأن يفسدوا، فيكون التضمير هكذا: أتذر موسى، وقومه ليفسدوا في الأرض، وأن يذرك، وآلهتك - والله أعلم -.

"قوله تعالى: وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 125] قيل: إن فرعون كان قد جعل للناس أصنامًا يعبدونها، وجعل نفسه الإله الأكبر، فلذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] فآلهتك على هذا هي تلك الأصنام، وقرأ عليّ بن أبي طالب[2] وابن مسعود[3] وابن عباس [4] وإلاهتك: أي: عبادتك، والتذلل لك".

هذا سؤال على جواب مقدَّر؛ وذلك أن فرعون كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] وكان يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] فكيف قال له الملأ: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 125] فإذا كان هو الإله الأعلى، وما علِم لهم من إله سواه، فما هذه الآلهة التي خوَّفوا فرعون من ترك موسى لعبادتها؟

فهذا هو السؤال الذي قد يرد في هذا الموضع، وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبةٍ معروفة، من ذلك ما ذكره الطاهر بن عاشور - رحمه الله -: أن القبط كانوا يعبدون آلهةً متنوعة، من الكواكب، والعناصر، وصوَّروا صورًا لهذه المعبودات. وكان أعظم الأصنام هو الذي ينتسب فرعون إلى بنوته، وخدمته[5] وكان فرعون معدودًا عندهم أنه ابن الآلهة، وأن الإلاهية قد حلَّت فيه، فيعبدونه بهذا الاعتبار، أي باعتبار أنه مظهر لهذه الآلهة، فكان عندهم آلهة، فهذا التفصيل ذكره ابن عاشور، والذي يذكره كثير من أهل العلم أنهم كان عندهم معبودات أخرى يعبدونها من دون الله، كما دلَّت عليه هذه الآية.

وفي قراءة لأُبي: ليفسدوا في الأرض، وقد تركوك أن يعبدوك[6] وهذا يتفق مع القراءة الأخرى، التي أشار إليها المؤلف - رحمه الله - هنا، وهي غير متواترة، قال: "وقرأ عليّ، وابن مسعود، وابن عباس" وكذلك قرأ به بعض التابعين: كالضحَّاك[7]: وَيَذَرَكَ، وإلاهتك، يعني يذرك، وعبادتك، فعلى هذه القراءة لا يرد السؤال السابق؛ لأنه كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] فيكون ذلك من قبيل التخويف له من ترك موسى لعبادته.

لكن القراءة المتواترة وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 125] لا تُفسِّرها هذه القراءة غير المتواترة؛ لأن المعنى مختلف تمامًا، فقد كانت لهم آلهة، وهذا صريح، لكن وجه الجمع من بين ذلك، وبين ما سبق يمكن أن يتأتى على ما ذكره الطاهر بن عاشور - رحمه الله - وما ذكره غيره مما هو قريب من هذا المعنى - والله أعلم -.

  1.  التحرير، والتنوير (9/58).
  2.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/441).
  3. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/441).
  4.  المصدر السابق.
  5.  التحرير، والتنوير (9/58).
  6.  معاني القرآن للفراء (1/391).
  7.  تفسير القرطبي (7/262).