"الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ [الأعراف: 137] هم بنو إسرائيل مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف: 137] الشام، ومصر".
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف: 137] الشام، ومصر، وهذا القول اختاره: القرطبي والشوكاني وهم توجهوا إلى الشام، كما هو معروف، وحصل لهم التيه في طريقهم، ووقع ما وقع من تأبيهم دخول الأرض المقدسة، لكن في النهاية دخل بنو إسرائيل الشام، سواء كان ذلك الجيل، أو الجيل الذي بعده، ومصر لا شك أنها صارت أيضًا ميراثًا لهم، وإن ذكر المؤرخون أنهم لم يرجعوا إليها بعد ذلك، لكن معروف في التاريخ أن مصر لمن ملك الشام؛ ولذلك كان يحرص الملوك في مصر على أن يملكوا الشام؛ لأن ما يقع لمصر من احتلال، أو فتوح، أو نحو ذلك كان يأتيهم من قِبَل الشام، فكانوا يعرفون ذلك، وأن من مَلَك الشام مَلَك مصر، فهي الباب.
فأورثهم الله أرض الشام، وأرض مصر بعد ما أهلك فرعون، فلا مانع، وإن لم يرجعوا إليها أن يكون خراج البلاد، ونحو ذلك يصير إليهم، فهذا قال به بعض أهل العلم.
وذهب آخرون كما جاء عن الحسن، وقتادة، وزيد بن أسلم وسفيان الثوري واختاره ابن جرير والواحدي وابن عطية وشيخ الإسلام وابن عاشور إلى أن المقصود بمشارق الأرض، ومغاربها: الشام، باعتبار القرينة، وهي: الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] فالأرض المباركة هي الشام سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الاسراء: 1] فهي أرضٌ مباركة، وهذا قول الجمهور أنها الشام.
وبعضهم يقول: جملة الأرض، يعني عموم الأرض، وهل وقع هذا لبني إسرائيل؟ قالوا: نعم، وقع هذا في بعض الأوقات، في ملكِ داود، وسليمان - عليهما الصلاة، والسلام - وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا [الأعراف: 137] يعني صارت كأن الدنيا تحت سلطانهم.
وبعضهم يقول: المقصود بذلك مصر؛ لأن الحديث عن فرعون، وهذا قال به الليث بن سعد ومن المعاصرين اختاره السعدي.
وبعضهم يقول: فلسطين، يعني ليست كل الشام، وإنما فلسطين وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف: 137] فقرينة: بَارَكْنَا فِيهَا مع ما عُرِف في التاريخ أنهم توجهوا إلى الشام هذا يؤيد قول من قال: بأنها الشام.
والذين قالوا: مصر باعتبار أن الحديث عن فرعون، حيث كان يستضعفهم، فأورثهم الله أرضه.
ومن قال: مصر، والشام فباعتبار السياق هنا في الحديث عن فرعون، وكذلك أيضًا في ذكر القرينة، وهي: بَارَكْنَا فِيهَا وكذلك أيضًا باعتبار أنهم توجهوا إلى الشام - والله أعلم -.
لكن من الناحية الواقعية أن بني إسرائيل ملكوا الشام، وكانت مصر تابعة لهم؛ لأنها خلت من فرعون، وجنده، وإن لم يرجعوا إليها.
"قوله تعالى: بارَكْنا فِيها [الأعراف: 137] أي: بالخصب، وكثرة الأرزاق.
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الأعراف: 137] أي: نفذت لهم، واستقرت، والكلمة هنا ما قُضى لهم في الأزل، وقيل هي قوله: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5]".
قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى [الأعراف: 137] يقول: "أي: نفذت لهم، واستقرت" يعني مضت، واستمرت على التمام.
وقال ابن جرير: "وَفِيَ وعد الله الذي وعد بني إسرائيل بتمامه على ما وعدهم من تمكينهم في الأرض" وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يعني: وعده لهم بالاستخلاف، وأنه جاء أيضًا في قول موسى - عليه الصلاة، والسلام - بصيغة ترجي: عَسَى رَبُّكُمْ أن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 129] فتمت كلمته - تبارك، وتعالى - سواء كان ذلك مما قضاه في الأزل، أو ما قاله: وَنُرِيدُ أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5] فكل ذلك كلمته، والكلمة هنا مفرد مضاف، وهو بمعنى الجمع، فذلك في الأزل قدَّره الله، وقضاه، ووعدهم به، بمثل قوله: وَنُرِيدُ أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5].
وهكذا فهم بعض أهل العلم من قول موسى - عليه الصلاة، والسلام -: عَسَى رَبُّكُمْ [الأعراف: 129] قالوا: عسى للترجي، لكن حينما تصدر من الكبير العظيم، ونحو ذلك، على طريقة العرب في مناحي كلامها، وخطابها، أنه يُرَادُ بذلك الوعد، فيُخرج مخرج الترجي - والله تعالى أعلم -.
والقول بأنها قوله: وَنُرِيدُ أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ [القصص: 5] هذا قول الجمهور، وهو اختيار ابن جرير لكن لا يخالف هذا قول من قال: ما قضاه لهم في الأزل؛ لأن ذلك لا بد أن يكون مما قُضِي لهم في الأزل، فكأنه - والله أعلم - لا منافاة بين القولين.
ووصف هذه الكلمة بالحسنى، يعني المنزهة عن الخُلف، ويحتمل أن يكون المراد بالحسن هنا باعتبار أنها حسنة بالنظر إلى بني إسرائيل، وسيئة بالنظر إلى فرعون، وقومه، فهي وعد حسن لبني إسرائيل.
"قوله تعالى: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] أي: يبنون، وقيل: هي الكروم، وشبهها، فهو على الأوّل من العرش، وعلى الثاني من العريش".
وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] أي: يبنون، وهذا الذي اختاره ابن جرير وجماعة من المفسرين: كابن الجوزي والواحدي وأبي حيَّان وهو مروي عن جماعةٍ من السلف: كابن عباس، ومجاهد.
والعروش تُقال: للبيوت، والسقوف، وبهذا الاعتبار فُسِّر بالبناء.
"وقيل: هي الكروم" يعني الأعناب، وشبهها مما يحتاج إلى عرائش، فتوضع لها أخشاب، وعيدان، فتكون ممتدةً فوقها، وهذا اختاره بعض المعاصرين، كالطاهر بن عاشور.
والحافظ ابن كثير جمع بين القولين وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] فيدخل فيه ما كانوا يبنون، ويسقفون من بيوت، ونحو ذلك، وكذلك ما يعرشونه للأعناب، ونحوها مما يحتاج إلى ذلك.
يقول: "فهو على الأول من العرش، وعلى الثاني من العريش".