الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِىٓ أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِى وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوْفَ تَرَىٰنِى ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:143].
يخبر تعالى عن موسى أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله تعالى، سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي [سورة الأعراف:143] حرف "لن" هاهنا على نفي الرؤية في الدنيا؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23].

معنى لَن تَرَانِي [سورة الأعراف:143] أي: لن تراني في هذا المقام، أو لن تراني في الدنيا، ولا تفيد "لن" النفي المؤبد.
وقد رد أهل العلم على المعتزلة الذين ينفون رؤية الله – تبارك وتعالى - في الآخرة، واستدلوا عليهم بأدلة كثيرة، فمن ذلك قوله - تبارك وتعالى - : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22-23]، ومعنى ناضرة: من النضارة والحسن إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:23]، أي: تنظر إلى ربها، والنظر إذا عُدي بإلى فهو النظر بالبصر العين، وإذا عدي بفي فهو النظر بالقلب والفكر، تقول: نظرت في أمرك أي: تفكرت فيه، وفي هذه الآية عداه بإلى.
ومما يدل على أن أهل الإيمان يرون ربهم في الآخرة قول الله – تبارك وتعالى - : كَلَّا إِنَّهُم ْعَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [سورة القيامة:23]، فلما حجب عنه أهل السخط والغضب، فأهل الرضا يرونه.
وقد قال النبي ﷺ: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤية[1]، فلا يلحقكم ضيم، ولا تتزاحمون.
ولم ينكر ربنا – تبارك وتعالى - على موسى لما قال له: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143]، كما أنكر على نوح لما قال: رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي [سورة هود:45] فقال الله له: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة هود:46]، فدل على أن موسى لم يطلب محالاً، وليست توبة موسى المذكورة في قوله تُبْتُ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143]، كانت من ذنب وإساءة.
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى  : يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا قال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143].
روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ في قوله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [سورة الأعراف:143] قال: "قال هكذا - يعني أنه أخرج طرف الخنصر"[2]. وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب[3]. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه[4].
وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس -ا- في قول الله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [سورة الأعراف:143] قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر، جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف:143] قال: تراباً وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:143].

قوله: جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف:143] على قراءة أهل المدينة والبصرة، أي: تراباً مدكوكاً متفتتاً تفتت الجبل، وقرئ دكاء بالهمزة، تقول: هذه ناقة دكاء، أي: لا سنام لها.
وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:143] قال: مغشياً عليه، رواه ابن جرير؛ لأن هنا قرينة تدل على الغشي وهي قوله: فَلَمَّا أَفَاقَ [سورة الأعراف:143] والإفاقة لا تكون إلا عن غشي.
قَالَ سُبْحَانَكَ [سورة الأعراف:143] تنزيهاً وتعظيماً وإجلالاً أن يراه أحد في الدنيا إلا مات، وقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ [سورة الأعراف:143] قال مجاهد: أن أسألك الرؤية، وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:143]، قال ابن عباس - ا - ومجاهد: من بني إسرائيل، واختاره ابن جرير.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس - ا - : وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:143] أنه لا يراك أحد.
وقوله: وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:143] فيه أبو سعيد وأبو هريرة - ا - عن النبي ﷺ فأما حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا عنه قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي ﷺ قد لُطم وجهه، وقال: يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار لطم وجهي، قال: ادعوه فدعوه، قال: لم لطمت وجهه؟ قال: يا رسول الله، إني مررت باليهودي فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، قال: قلت: وعلى محمد؟ وأخذتني غضبة فلطمته، فقال: لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور[5]، وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه، ومسلم في أحاديث الأنبياء وأبو داود في كتاب السنة من سننه، وأما حديث أبي هريرة فرواه الإمام أحمد والشيخان بنحوه.

معنى قوله ﷺ: لا تخيروني من بين الأنبياء، أي: لا تخيروني تخييراً يؤدي إلى تنقيص غيري من الأنبياء، تعصباً وحمية.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : أن مِن جهلة المسلمين مَن إذا وقف ورأى النصارى يسبون النبي ﷺ في الحرب، قام بسب عيسى ﷺ وكذلك بعض جهلة أهل السنة إذا سمعوا الرافضة يسبون الشيخين، قاموا بسب علي لإغاظتهم، كما قال قائلهم:
سُبوا علياً كما سَبوا عتيقكم   كفر بكفر وإيمان بإيمان[6]
أما إذا ذكرت فضائل النبي ﷺ لبيان فضله ومنزلته فلا شك أنه أفضل الأنبياء، وقد قال ﷺ: أنا سيد ولد آدم[7]
  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة (1/203)، برقم (529)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (1/439)، برقم: (633).
  2. رواه الإمام أحمد في مسنده (19 / 281)، برقم: (12260)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم.
  3. الترمذي، كتاب التفسير، باب سورة الأعراف (5 / 265)، برقم (3074).
  4. المستدرك على الصحيحين،  كتاب التفسير، تفسير سورة الأعراف (2/351)، برقم (3249).
  5. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف:143] (4/1700)، برقم (4362)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في فضائل موسى ﷺ (4/1844)، برقم (2373).
  6. انظر: مجموع الفتاوى (6 / 26).
  7. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا ﷺ على جميع الخلائق، (4/1782)، برقم (2278).

مرات الإستماع: 0

"قالَ رَبِّ أَرِنِي [الأعراف: 143] لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها، كما قال الشاعر:

وأبرح ما يكون الشوق يومًا إذا دنت الديار من الديار[1]

واستدل الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة عقلاً، وأنها لو كانت محالاً لم يسألها موسى فإن الأنبياء - عليهم السلام - يعلمون ما يجوز على الله، وما يستحيل عليه، وتأول الزمخشري طلب موسى للرؤية بوجهين[2]:

أحدهما: أنه إنما سأل ذلك تبكيتًا لمن خرج معه من بني إسرائيل، فهم الذين طلبوا الرؤية، فقالوا: أرنا الله جهرة، فقال موسى ذلك ليسمعوا الجواب بالمنع، فيتأدبوا.

والآخر: أن معنى أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] عرِّفني نفسك تعريفًا واضحًا جليًا، وكلا الوجهين بعيد، والثاني أبعد، وأضعف، فإنه لو لم يكن المراد الرؤية لم يقل له: انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف: 143] الآية."

قوله: "واستدل الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة" هذا لا يختص بالأشعرية، وإنما هذا قول أهل السنة، ولا حاجة لذكر الأشعرية، والأشعرية - كما هو معلوم - وإن كانوا يخالفون المعتزلة في إثبات الرؤية، فالمعتزلة ينكرونها، لكن الأشعرية في الواقع لم يثبتوا رؤيةً حقيقية؛ لأنهم يقولون: يُرى لا في جهة، وهذا لا يتأتى؛ لأنهم ينكرون العلو لله ونحو ذلك، ولا حاجة لذكرهم، ولا حاجة لذكر قول الزمخشري، ويُنزَّه كتب التفسير عن هذه الأقاويل لأهل البدع.

يقول: "تأولها بوجهين: الأول: أنه إنما سأل ذلك تبكيتًا لمن خرج معه من بني إسرائيل" هو في خروجه الأول الذي سبقهم فيه، والذي ذُكِر هنا في هذه الآية ما كانوا معه، وإنما خرج بهم بعد ذلك ثانيةً بخيارهم، وهم سبعون منهم وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا [الأعراف: 155] وكما ذكر جماعة من السلف فمن بعدهم خرج بهم من أجل التوبة من عبادة العجل، فأخذتهم الرجفة، فأولئك هم الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] لكنه في خروجه هذا الأول الذي أعطاه الله  فيه التوراة كان قد سبق قومه، هذا الذي قال الله فيه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى [طه: 83] فهذا الوجه الأول الذي ذكره الزمخشري، وهو خلاف الظاهر.

بل قال بعض المعتزلة في مثل هذا الموضع - ولا حاجة لأقولهم لكن حتى تعرف سوء أدب هؤلاء مع الله : بأن ثلاث من الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - مُشبِّهة، وذكر موسى - عليه الصلاة، والسلام - لما قال: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] وذكر عيسى - عليه الصلاة، والسلام -: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116].والوجه الآخر: هو تأويل الرؤيا بقوله: "عرِّفني نفسك تعريفًا واضحًا، جليًا" إذا كان يقول: عرِّفني نفسك فلماذا يقول: وَلَكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراب: 143] يعني بصفاته من ناحية العلم، والبيان؟! فهذا لا يمكن.

"قوله تعالى: قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراب: 143] قال مجاهد، وغيره: إن الله قال لموسى: لن تراني لأنك لا تطيق ذلك، ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك، وأشدّ[3] فإن استقر، وأطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت، وإن لم يُطق الجبل فأحرى ألا تطيق أنت، فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالاً لموسى.

وقال قوم: المعنى سأتجلى لك على الجبل، وهذا ضعيف، يبطله قوله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراف: 143] فإذا تقرر هذا، فقوله تعالى: لَنْ تَرانِي نفي للرؤية، وليس فيه دليل على أنها محال، فإنه إنما جعل علة النفي عدم إطاقة موسى الرؤية، لا استحالتها، ولو كانت الرؤية مستحيلة، لكان في الجواب زجر، وإغلاظ، كما قال الله لنوح: فَلا تَسْألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] فهذا المنع من رؤية الله إنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك، وأما في الآخرة فقد صرَّح بوقوع الرؤية كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ فلا ينكرها إلا مبتدع، وبين المعتزلة، وأهل السنة في مسألة الرؤية تنازع طويل، وفي هذه القصة قصص كثيرة، تركتها لعدم صحتها، ولما فيه من الأقوال الفاسدة."

هنا عُلِّقت الرؤيا بأمرٍ ممكن، وهو استقرار الجبل، ثم إن الله - تبارك، وتعالى - قال: قالَ لَنْ تَرانِي ولم يقل: إني لا أُرى، وذلك لأن البشر لا يطيقون رؤية الله في الدنيا، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى عن النبي ﷺ: حجابه النور - وفي رواية أبي بكر: النار - لو كشفه لأحرقت سبحات، وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[4].

وجاء عن الترمذي[5] وأحمد[6] من حديث أنس مرفوعًا في قوله: فَلَمَّا تَجَلَّى قال: هكذا يعني أنه أخرج طرف الخنصر، ومثله عن ابن عباس موقوفًا[7] يعني أن النبي ﷺ مثَّل لهم ذلك بيده عمليًا، يعني مثّل لهم مقدار ما ظهر لهم من النور، بطرف الخنصر، يعني أنه شيء يسير، ومع ذلك لم يحتمل الجبل.

وأما الأدلة على ذلك من الكتاب، والسنة، فمعروفة، منها: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] والنظر إذا عُدِّيَ بـ(إلى) فهو بالأبصار، وإذا عُدِّيَ بـ(في) فهو بمعنى التفكُّر، والاعتبار، وإذا عُدِّيَ بنفسه فهو بمعنى الانتظار انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ [الحديد: 13].

"قوله تعالى: جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: 143] أي: مدكوكًا، فهو مصدر، بمعنى مفعول، كقولك: ضرب الأمير، والدك، والدق: أخوان، وهو التفتت."

مدكوكًا مصدر بمعنى مفعول، أو مُندكًّا، أو مستويًا مع وجه الأرض، يقال: ناقة دكَّا، إذا لم يكن لها سنان، وأصل المادة يدل على تطامن، وانسطاح.

يقول: "والدك، والدق: أخوان، وهو التفتت" يعني متفتتًا كالتراب.

"وقُرئ: دكاء بالمد، والهمز، أي: أرضًا دكاء."

هذا على قراءة حمزة، والكسائي[8] بالمد (دكاء) يعني ترابًا، أرضًا دكاء هي المستوية، وهو اسمٌ للرابية، ولا زال الناس الآن يقولون: الأرض الدكاك، يعني أنها ليِّنة رملية.

"قيل: ذهب أعلى الجبل، وبقي أكثره، وقيل: تفتت حتى صار غبارًا، وقيل: ساخ في الأرض، وأفضى إلى البحر."

الله أعلم، هو لم يذكر أنه أفضي إلى البحر في هذه الآية، ولا في غيرها، لكن جعله دكًا يعني أن الجبل تفتت، واندكَّ.

"قوله تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الأعراف: 143] أي: مغشيًا عليه."

خر بمعنى سقط، فأصل هذه المادة يدل على اضطراب، وسقوط مع صوت، وقوله: "أي: مغشيًا عليه" والقرينة في ذلك فَلَمَّا أَفَاقَ يعني ليس صعق موت، وإنما هو صعق غشية، لكن الصعق الذي أخذ بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى حينما قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] هذه كانت موتة، بدليل: ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: 56] - والله أعلم -.

"قوله تعالى: تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] معناه: تبت من سؤال الرؤية في الدنيا، وأنا لا أطيقها.

وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] أي: أول قومه، أو أهل زمانه، أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان."

أول قومه، وهو رواية عن ابن عباس - ا -[9] وبه قال جماعة: كمجاهد[10] واختاره ابن جرير[11] لكن ابن جرير يُقيِّده بالمعنى الذي اختاره: بأنه لا يراه أحد في الدنيا إلا هلك، والمعنى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد في الدنيا إلا هلك، وهذا قال به جماعة به من المفسرين.

وهنا قال: "أول قوله" كأنه حملها على أنه أول المؤمنين بالله؛ ولذلك قيدها بقوله: أول قومه؛ لأن هناك من كان من المؤمنين قبله، من لَدُن آدم - عليه الصلاة، والسلام -.

ووجه هذا القول: الإطلاق في الآية وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني ليس ذلك مقيدًا بموضوع الرؤية، لكن الذين قيَّدوه بذلك، قالوا: دلَّ عليه السياق.

تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني بأن الله لا يُرى في الدنيا، أو أن من رآه هلك، قال: أو أهل زمانه، وهذا أعم من الأول، أول قومه يعني من بني إسرائيل، وأما أهل زمانه فيدخل فيه هؤلاء، وغيرهم.

"أو على وجه المبالغة في السبق بالإيمان" فصرَّح بهذا، إذًا ابن جزي هنا ذكر الأقوال باعتبار أن قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي بالله، لكن على ما ذكر ابن جرير بأنه لا يراه أحد في الدنيا إلا هلك، فهذا خاص.

وفي رواية عن ابن عباس - ا -[12] وبه قال جماعة من السلف: كأبي العالية[13] واختاره الإمام أحمد، وابن جرير[14] والزجَّاج[15] واستحسنه ابن كثير[16]: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يراك أحد في الدنيا إلا هلك، على ما قاله ابن جرير.

إذًا الرواية الأولى: عن ابن عباس، ومجاهد: وأنا أول المؤمنين، أي من قومه.

الرواية الثانية: عن ابن عباس، ومن وافقه، على ما قيَّده به ابن جرير.

وجاء عن قتادة: أنه لن تراك نفسٌ فتحيا[17] فهو بنفس المعنى، لكن يبقى هذا الإطلاق وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ هل هو من قوم زمانه، أو من الناس جميعًا؟ ومثل هذا قد يكون - والله أعلم - باعتبار الإيمان مطلقًا، وليس ما يتصل بالرؤيا - والله أعلم -. 

  1.  البيت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي في الدر الفريد، وبيت القصيد (9/496) وأمالي القالي (1/55).
  2.  تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/156).
  3.  بنحوه في تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/100).
  4.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله : إن الله لا ينام وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه برقم: (179).
  5.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب، ومن سورة الأعراف برقم: (3074) وصححه الألباني.
  6.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (12260) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة، فمن رجال مسلم".
  7.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (5/1560).
  8.  السبعة في القراءات (ص: 293) وحجة القراءات (ص: 295).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/104).
  10.  المصدر السابق.
  11.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/102).
  12.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/472).
  13.  المصدر السابق.
  14.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/102).
  15.  معاني القرآن، وإعرابه للزجاج (2/374).
  16.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/472).
  17. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/547).