"وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ [الأعراف: 145] أي: في ألواح التوراة، وكانت سبعة، وقيل: عشرة، وقيل: اثنان، وقيل: كانت من زُمرُّد، وقيل: من ياقوت، وقيل: من خشب."
هذه الأقوال لا دليل عليها - والله تعالى أعلم - كأن ذلك ما تُلِقي من أخبار بني إسرائيل.
وفي حديث احتجاج آدم، وموسى قال: وخط لك بيده هذا معنى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ والمقصود بها ألواح التوراة، وهذا الذي اختاره جماعة من المفسرين: كالواحدي والقرطبي وشيخ الإسلام وابن كثير والشنقيطي.
وبعضهم يقول: الألواح غير التوراة، وأنه أُعطِي الألواح أولاً، ثم بعد ذلك أعطي التوراة، وهذا لا دليل عليه - والله أعلم -.
"قوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الأعراف: 145] عموم يراد به الخصوص، فيما يحتاجون إليه في دينهم، وكذلك وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف: 145] وموضع: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نصبٌ على أنه مفعول كتبنا، ومَوْعِظَةً بدل منه."
قوله: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يقول: "عمومٌ يُرَادُ به الخصوص فيما يحتاجون إليه في دينهم".
وذهب بعضهم إلى أن (من) هنا تبعيضية، يعني أشياء من كل شيء، وعمومًا العموم يبقى على هذا؛ لأن (كل) هي من أدوات العموم، وهي أقوى صيغةٍ من صيغ العموم عند الأصوليين (كل) و(جميع) أقوى صيغ العموم.
وهذا محمولٌ على أنه فيما يحتاجون إليه، وهذا الذي يسميه كثير من الأصوليين: العام المراد به الخصوص، ويسميه الشاطبي - رحمه الله -: العموم الاستعمالي وهذا مهم في فهم النصوص، كما في قوله - تبارك، وتعالى - عن بيته الحرام: يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] فهذه أقوى صيغ العموم، ومعلومٌ أنه لا يجبى إليه كل الثمرات التي في الدنيا، لا سيما وقت نزول الآية، لكن مما يصلح أن يجبى لمثله في ذلك الوقت، فالسامع يفهم هذا؛ ولذلك ما اعترضوا على النبي ﷺ من المشركين، وقالوا: هناك ثمرات في مشارق الأرض، ومغاربها لا تصل إليهم.
وكذلك في قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: 25] يقولون: هذا من قبيل العام المراد به الخصوص، والذي يسميه الشاطبي: العموم الاستعمالي، يعني أن ذلك محمول على ما يتفق، ويناسب، ويصلح لذلك، ويقولون أيضًا: لم تُدمِّر السماوات، والأرض، والجبال، بل قال الله : فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الاحقاف: 25] فهذا ليس من قبيل التناقض تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ثم قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ أي: مما جاءت لتدميره.
وهكذا في قوله - تبارك، وتعالى - في ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] يعني مما يصلح لمثلها، ومُلكها، قالوا: ولم تؤتَ ملك سليمان مثلاً، وبعضهم يقول: ولم تؤتَ لحية سليمان - عليه الصلاة، والسلام - فأوتيت من كل شيء مما يصلح، فلا يعترض أحد، ويقول: يوجد أشياء أخرى في ذلك الوقت لم تؤتَ هذه، مثل تكليم الطير، وفهم لغة الطير، وتسخير الجن... إلى آخره، مما يصلح لمثلها، فهذا من العموم الاستعمالي.
وفي قوله: "وموضع كل شيء نصبٌ على أنه مفعول كتبنا، وموعظة بدلٌ منه" من كل شيء وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مفعول (كتبنا) و(موعظة) بدل منه.
وبعضهم يقول: بأن الجار، والمجرور هنا: من كل شيء متعلق بمحذوف، وهو حالٌ من (موعظة) وأن (موعظة) هي المفعول به، لـ(كتب) (كتبنا) فعل، وفاعل (له في الألواح موعظةً) (موعظة) حال كونها عامة، يعني من كل شيءٍ يحتاجون إليه، كتبنا له في الألواح موعظةً من كل شيء، وتفصيلاً.
ويحتمل أن يكون من كل شيء هو المفعول، كما قال ابن جزي، وما ذكره، واضح، وتكون (الموعظة) بدل من محل الجار، والمجرور، و(تفصيلاً) معطوف على المنصوب، فهو منصوب.
والمعنى: كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم، من المواعظ، وتفصيل الأحكام.
وبعضهم يقول: المفعول محذوف، دلَّ عليه الفعل (كتبنا) تقديره: وكتبنا له مكتوبًا من كل شيء، ويكون (موعظةً، وتفصيلاً) نُصِبَ باعتبار أنه مفعول من أجله، أي: كتبنا له ذلك المكتوب للاتعاظ، وللتفصيل، أو على أنه حال من الضمير المرفوع الفاعل (وكتبنا) أي: واعظين مُفصِّلين، وقيل غير هذا - والله أعلم -.
"قوله تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي: بجدّ، وحزم (وفي نسخةٍ: وعزم) والضمير للتوراة."
قوله: فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بجدٍ، وحزم، والضمير للتوراة، كما قال الله : خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف: 171] يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12] يعني بحزمٍ، وعزمٍ، من غير توانٍ، أو تفريط.
"قوله تعالى: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها [الأعراف: 145] أي: فيها ما هو حسن، وأحسن منه، كالقصاص مع العفو، وكذلك سائر المباحات من المندوبات."
مضى الكلام على نحوٍ من هذا، وسيأتي أيضًا، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] فهذا يجيب عنه العلماء بأجوبة معروفة، من ذلك: أن المعنى يأخذوا بحسنها، فكلها حسن، كما ذكرنا في مناسبات متعددة من أن (أفعل) التفضيل قد يكون مرادًا بها مطلق الاتصاف، يعني لا معنى التفضيل، خذوا بأحسنها أي: بحسنها، وذكرنا في ذلك قاعدةً، وهذا معنى قريب.
ويحتمل على ما ذكره ابن جُزيّ أن بعض ما فيها أحسن من بعض، على اختلاف للمُفسِّرين في توجيه ذلك، كأن يقال: بأنهم أُمِرُوا فيها بالخير، ونهوا عن الشر، ففعل الخير هو الأحسن، خذوا بأحسنها الذي هو الخير، هذا واضح يعني كل الخير الذي فيها فهو أحسن، فيكون أفعل التفضيل على بابه، أو أن ذلك باعتبار أنها اشتملت على أشياء حسنة متفاوتة، فبعض هذه الأشياء الحسنة أفضل، وأكمل من بعض، العفو في القصاص أفضل من الانتصار لنفسه، ويقتص من ظالمه، أو ممن جنى عليه، وهكذا فيأخذون بالأحسن، يعني هناك العفو، وهناك المكافأة بالمثل، وهناك الظلم في باب القصاص مثلاً، فالعفو هو الأكمل، وأكمل منه الإحسان إلى المسيء ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون: 96].
فعلى هذا أنهم يتبعون العزائم، والفضائل، والكمالات، وعلى المعنى الآخر: أنهم يتبعون الموصوف بالحسن، ويتركون السيء، إذا قلنا: الحسن هو الخيرات، والمعروف، والسيء، والشر هو ما نهوا عنه، ويحتمل أن يكون الأحسن هو الفرائض، والنوافل، ودون ذلك هو المباحات، خذوا بأحسنها يعني من الأعمال المشروعة من الواجبات، والمندوبات.
وبعضهم حمل ذلك على معنى أخص، من كون الكلمة تحتمل معانٍ، فتُصرف إلى الأشبه بالحق، يعني المحامل اللائقة، والحسنة، ويُترك ما عدا ذلك، أو أن ذلك باعتبار أن الأحسن هو الجمع بين الفرائض، والنوافل، وهذا الأخير هو الذي اختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -.
يعني كل ذلك يتفرع إما على القول بأن أحسن لا يُرَادُ به معنى (أفعل) التفضيل، وإنما المقصود به الحسن، فكل ما فيها حسن، أو أن يُرَاد به التفضيل، فما وجه ذلك؟ يحتمل أوجهًا هي التي أشرت إليها - والله أعلم -.
فَخُذْها بِقُوَّةٍ: بجدٍ، وعزم، يأخذوا بأحسنها، يعني الحسن الذي فيها، أو يأخذوا بالأكمل، وخذها بقوة يعني بجدٍ، وعزم، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها، توجيه لهم بالأخذ بالأكمل - والله أعلم -.
"قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ [الأعراف: 145] أي: دار فرعون، وقومه، وهي مصر، والمعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلكوا، وقيل: منازل عاد، وثمود، ومن هلك من الأمم المتقدّمة ليعتبروا بها، وقيل: جهنم، وقرأ ابن عباس: (سأورثكم) بالثاء الـمُثلَّثة، من الوراثة، وهي على هذا مصر؛ لقوله: وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 59]."
قوله: سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ قال: "أي دار فرعون، وقومه، وهي مصر".
وقال ابن كثير: أي سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك، والدمار، والتباب وهذه الأقوال التي ذكرها ابن جزي - رحمه الله - قال بها جماعة من المفسرين، وهناك أقوال غير ذلك، فبعضهم يقول: هي جهنم دار الفاسقين، يعني سأريكم في الآخرة دار الفاسقين، وهذا الذي اختاره أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - سأريكم دار الفاسقين، أي في الآخرة، وهذا قال به من السلف مجاهد، والحسن.
أو أن ذلك في الدنيا، ولكن ما المراد بها؟ بعضهم يقول: هي الأرض المقدسة التي كان يسكنها الجبابرة، وهذا اختاره من المعاصرين: الطاهر بن عاشور.
وقال به من السلف: قتادة فالفاسقون المشركون، فهو وعدٌ لموسى على هذا القول بفتح ديار أولئك في الأرض المقدسة، وأنها دار العمالقة في الشام، وليست أرض مصر، باعتبار أنهم لم يرجعوا إلى مصر.
وأما القول بأن دار الفاسقين هنا المقصود بها هي مصر، فهذا الذي اختاره ابن جزي - رحمه الله - وسبقه إلى ذلك صاحب الكشاف وهو رواية عن قتادة.
وبعضهم جمع بين هذا، وهذا، وقالوا: هي مصر، والأرض المقدسة؛ لأن الله أورثهم ذلك جميعًا، فتحقق ما وعد به موسى وهذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - وبعضهم حمل هذا على القرون الماضية، كعاد، وثمود، وقوم لوط، ومدين إلى غيرِ ذلك، وهم يمرون عليها إذا سافروا.
وبعضهم فسَّر الدار بالهلاك، سأريكم هلاك الفاسقين، وهذا مروي عن سفيان الثوري - رحمه الله - فيكون الدار هنا الذي يُجمَع على أدوار؛ وذلك أن الله - تبارك، وتعالى - قد أغرق فرعون، ثم بعد ذلك أوحى إلى البحر بأن يقذف بأجسادهم إلى الساحل، ففعل، فنظر إليهم بنو إسرائيل، فأراهم هلاك المفسدين، سأريكم دار الفاسقين، يعني هلاكهم، لكن هذا - والله أعلم - أبعد هذه الأقوال.
ولا يظهر أن المقصود بذلك أنها ديار المهلكين من قبل من ثمود، وعاد، والأمم السابقة، فالله - تبارك، وتعالى - يعد هؤلاء بالعاقبة الحسنة، والتمكين، والنصر، سأريكم دار الفاسقين، فيدخل في ذلك - والله أعلم - دار فرعون، وكذلك العمالقة.
وقول ابن كثير: سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك، والدمار، والتباب هذا أعم، بمعنى أنه يشمل فرعون، والعمالقة، ويشمل الأمم المهلكة السابقة، وهذا لا شك أنه أحسن من تخصيصه بالأمم المهلكة السابقة - والله أعلم -.
يقول: "والمعنى: أريكم كيف أقفرت منهم لما هلكوا" يعني: ديار أولئك، أو أرض مصر - والله أعلم -.
وقيل: جهنم، وهذا باعتبار أنه في الآخرة.
يقول: "وقرأ ابن عباس: سأورثكم" هذه قراءةٌ شاذةٌ في مختصر ابن خالويه، تروى عن ابن عباس - ا - وهي أيضًا مروية عن غيره.
يقول: "وهي على هذا مصر" حتى على هذا فإن قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا [الأعراف: 137] اخُتلف فيه - كما هو معلوم - هل هي مصر، أو الشام؟ أو مصر، والشام؟ أو عموم الأرض؟