يقول تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة الأعراف:146]، أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق، أي: كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110]، وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5].
هذا التفسير من الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تفسير دقيق، وقد ذكرتُ في مناسبات شتى أن الإنسان قد لا يتبيّن له جودة التفسير وحسنه وما ينطوي عليه من المعاني والدقة إلا إذا قارنه بغيره، أو كان له اطلاع في كتب التفسير، فيعرف قيمة الكتاب الذي يقرأ فيه، فقال ابن كثير في قوله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة الأعراف:146]: "سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين"، وهذا الكلام جمع أنواع الآيات الثلاث، فيحتمل أن يكون المراد بالآيات هي الآيات المنزلة، فلا يفهمها أو لا يؤمن بها، ويحتمل أن يكون المراد الآيات الكونية، ويحتمل أن يكون المراد بها المعجزات، وكل هذه براهين وأدلة تدل على وحدانية الله وعلى عظمته ، فالحافظ ابن كثير جاء بهذه العبارة التي تشمل ذلك جميعاً، "الأدلة الدالة على عظمتي"، وهذا يوجد في الآيات الكونية وفي غيرها، "وشريعتي" وهذا يوجد في الآيات المنزلة، "وأحكامي"، والمعجزات تدل على صحة الشريعة، وصدق من جاء بها.
وقوله - تبارك وتعالى - : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ يحتمل أن يكون الصرف بمعنى: الصرف عن الإيمان بها، ويحتمل أن يكون الصرف عن فهمها والانتفاع بها، والقولان بينهما ملازمة، ولا نحتاج إلى ترجيح أحدهما؛ لأن الصرف عن فهم الآيات ملازم للصرف عن الإيمان بها كما كان حال المنافقين الذين يحضرون مع النبي ﷺ ويرون القرآن ينزل، فإذا خرجوا من عند النبي ﷺ قالوا: ماذا قال آنفاً؟ فطبع الله على قلوبهم وأعماهم، فلا ينتفعون بالآيات المنزلة ولا ينتفعون بالمعجزات.
وحمل الآيات على المعاني الثلاثة التي ذكرتها آنفاً وهي الآيات المنزلة والمعجزات والآيات الكونية هو الراجح - والله أعلم - وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -.
وفي قوله: الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هذه الصفة لا يستفاد منها التقييد فلا يقال: إن الذين يتكبرون بالحق لا يصرفون عن آيات الله، فالقيد غير معتبر، وإنما هو يكشف عن الأمر الواقع الحاصل، وهو أن كل من تكبر عن آيات الله فهو متكبر بغير الحق، وهذه الآية كقوله - تبارك وتعالى - : وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] فليس هناك أحد يقتل نبياً بحق.
قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة، قلت: ليس هذا بلازم؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطردٌ في حق كل أمة ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، والله أعلم.
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كل من كان متصفاً بهذا الوصف فهو مصروف عن آيات الله وعن فهمها والإيمان بها، سواء كان في زمن موسى ﷺ أو في زماننا هذا، فإذا قيل: يؤخذ من هذه الآية أن الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق يُصرفون عن فهم القرآن والانتفاع به، فهذا المعنى صحيح.
من المعلوم عن علماء الأصول أن "كل" هي أقوى صيغ العموم، فتدخل الأنواع الثلاثة من الآيات التي ذكرناها، وهي: المعجزات والآيات الكونية والآيات المنزلة.