الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَٰتِىَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْا۟ كُلَّ ءَايَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا۟ بِهَا وَإِن يَرَوْا۟ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا۟ سَبِيلَ ٱلْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُوا۟ عَنْهَا غَٰفِلِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ۝ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف:146-147].
يقول تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة الأعراف:146]، أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق، أي: كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام:110]، وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف:5].

هذا التفسير من الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تفسير دقيق، وقد ذكرتُ في مناسبات شتى أن الإنسان قد لا يتبيّن له جودة التفسير وحسنه وما ينطوي عليه من المعاني والدقة إلا إذا قارنه بغيره، أو كان له اطلاع في كتب التفسير، فيعرف قيمة الكتاب الذي يقرأ فيه، فقال ابن كثير في قوله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة الأعراف:146]: "سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين"، وهذا الكلام جمع أنواع الآيات الثلاث، فيحتمل أن يكون المراد بالآيات هي الآيات المنزلة، فلا يفهمها أو لا يؤمن بها، ويحتمل أن يكون المراد الآيات الكونية، ويحتمل أن يكون المراد بها المعجزات، وكل هذه براهين وأدلة تدل على وحدانية الله وعلى عظمته ، فالحافظ ابن كثير جاء بهذه العبارة التي تشمل ذلك جميعاً، "الأدلة الدالة على عظمتي"، وهذا يوجد في الآيات الكونية وفي غيرها، "وشريعتي" وهذا يوجد في الآيات المنزلة، "وأحكامي"، والمعجزات تدل على صحة الشريعة، وصدق من جاء بها.
وقوله - تبارك وتعالى - : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ يحتمل أن يكون الصرف بمعنى: الصرف عن الإيمان بها، ويحتمل أن يكون الصرف عن فهمها والانتفاع بها، والقولان بينهما ملازمة، ولا نحتاج إلى ترجيح أحدهما؛ لأن الصرف عن فهم الآيات ملازم للصرف عن الإيمان بها كما كان حال المنافقين الذين يحضرون مع النبي ﷺ ويرون القرآن ينزل، فإذا خرجوا من عند النبي ﷺ قالوا: ماذا قال آنفاً؟ فطبع الله على قلوبهم وأعماهم، فلا ينتفعون بالآيات المنزلة ولا ينتفعون بالمعجزات.
وحمل الآيات على المعاني الثلاثة التي ذكرتها آنفاً وهي الآيات المنزلة والمعجزات والآيات الكونية هو الراجح - والله أعلم - وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -.
وفي قوله: الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ هذه الصفة لا يستفاد منها التقييد فلا يقال: إن الذين يتكبرون بالحق لا يصرفون عن آيات الله، فالقيد غير معتبر، وإنما هو يكشف عن الأمر الواقع الحاصل، وهو أن كل من تكبر عن آيات الله فهو متكبر بغير الحق، وهذه الآية كقوله - تبارك وتعالى - : وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة البقرة:61] فليس هناك أحد يقتل نبياً بحق.
وقال سفيان بن عيينة في قوله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [سورة الأعراف:146] قال: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي.
قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة، قلت: ليس هذا بلازم؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطردٌ في حق كل أمة ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، والله أعلم.

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ كل من كان متصفاً بهذا الوصف فهو مصروف عن آيات الله وعن فهمها والإيمان بها، سواء كان في زمن موسى ﷺ أو في زماننا هذا، فإذا قيل: يؤخذ من هذه الآية أن الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق يُصرفون عن فهم القرآن والانتفاع به، فهذا المعنى صحيح.
وقوله: وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا [سورة الأعراف:146]، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:96-97].

من المعلوم عن علماء الأصول أن "كل" هي أقوى صيغ العموم، فتدخل الأنواع الثلاثة من الآيات التي ذكرناها، وهي: المعجزات والآيات الكونية والآيات المنزلة.
وقوله: وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [سورة الأعراف:146] أي: وإن ظهر لهم سبيل الرشد، أي: طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلاً، ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا [سورة الأعراف:146] أي: كذبت بها قلوبهم، وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ [سورة الأعراف:146]: أي لا يعلمون شيئاً مما فيها.

 

مرات الإستماع: 0

"سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 146] الآيات، يحتمل هنا أن يراد بها آيات القرآن، وغيره من الكتب، أو العلامات، والبراهين، والصرف يراد به صدّهم عن فهمها، وعن الإيمان بها، عقوبة لهم على تَكبُّرهم، وقيل: الصرف منعهم من إبطالها."

هنا في قوله: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الآيات هنا يحتمل - كما ذكر ابن جزي - أنها آيات القرآن، وغيره من الكتب، يعني المتلُوَّة، ويحتمل أنها الآيات آيات الأنبياء، وهي المعجزات، التي هي العلامات، والبراهين. 

وابن جرير - رحمه الله - عممه[1] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الآيات هنا جمعٌ مضاف إلى معرفة، وهذا يفيد العموم، يعني المتلُوَّة، وكذلك أيضًا التي هي من قبيل البراهين، والمعجزات، فلا ينتفعون بها.

يقول: "والصرف يراد به صدّهم عن فهمها، وعن الإيمان بها، عقوبة لهم على تَكبُّرهم" كما قال الله : {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25].

يقول ابن كثير - رحمه الله -: أي سأمنع فهم الحجج، والأدلة الدالة على عظمتي، وشريعتي، وأحكامي[2].

وجاء عن ابن عيينة: أنزع عنه فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي[3].

يقول: "وقيل: الصرف منعهم من إبطالها" وهذه الكلمة ينبغي أن ننظر إليها بشيء من الحذر، فبعض المعتزلة مثل النظَّام يقول: بأن القرآن مُعجز لا في نفسه، فالعرب يستطيعون أن يأتوا بمثله، فهو من جنس كلامهم، ولكن الله صرفهم عن معارضته، وهذه التي يسمونها بالصَرفة، يعني الإعجاز بالصَرفة، وهذا عند النظَّام، وما كل المعتزلة يقول هذا، وهذا باطل.

ومسيلمة الذي حاول أن يأتي بأشياء يدَّعي أنها مثل القرآن، وأنه أوحي إليه، حتى صار اسمه ملازمًا للكذب، وصار الناس يضحكون من كلامه إلى يومنا هذا، الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطومٌ طويل، وذيلٌ قصير، وهكذا سورة الضفدع: يا ضفدع نقي كما تنقين، فنصفك في الماء، ونصفك في الطين، والطاحنات طحنًا، فالعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، فاللاقمات لقمًا، وغير ذلك من الأباطيل.

فالقول هنا بأن الصرف هو منعه من إبطالها، أخشى أن يكون هذا إشارة - هو لا يقول بهذا - هو يقول: "وقيل: الصرف منعهم من إبطالها" لكن العبارة الدقيقة بالنسبة للمعتزلة، أو النظَّام: هو منعهم من معارضتها.

والنظَّام يقول هذا في خصوص القرآن، وليس يقوله في كل آيات الأنبياء، وهي المعجزات، والخوارق، فهنا منعهم من إبطالها، هم لا يستطيعون أصلاً أن يأتوا بمثلها، وليس ذلك بالصرفة، وإنما هي خارقة لعادة جنس الثقلين؛ ولذلك فإن قول المعتزلة، وطوائف من المتكلمين في معنى المعجزة بأنها أمرٌ خارقٌ للعادة مقرونٌ بالتحدي... إلى آخر ما يقولون، هذا تعريف المتكلمين، وليس تعريف أهل السنة، وللأسف هو المشهور، الذي يُتناقل في الكتب، مقرون بالتحدي، فلماذا يقولون مقرون بالتحدي؟ لأنه عندهم يلتبس آيات الأنبياء، ومعجزاتهم بأعمال السحرة، فالفرق عندهم هو مقرون بالتحدي، والواقع أنهم لم يفهموا الفرق بين آيات الأنبياء، ودلائل النبوة، والمعجزات، وما يكون على يدي السحرة من الخوارق، ولا يُشتَرط في آيات الأنبياء أن تكون مقرونة بالتحدي، فالنبي ﷺ مثلاً نبع الماء بين أصابعه ليس مقرونًا بالتحدي، وتكثير الطعام ليس مقرونًا بالتحدي بين أصحابه، بل في صحيح مسلم من حديث جابر لما أراد النبي ﷺ أن يقضي حاجته فلم يجد شيئًا يستتر به، فأخذ بطرفي شجرتين، وقال: انقادي علي بإذن الله[4] فانقادتا، فجاءت كل شجرة، ولم يشعر النبي ﷺ بجابر؛ لأنه مال عن الطريق، لقضاء حاجته، وجابر تبعه لعله يحتاج إلى ماءٍ، أو نحو ذلك، يقول: فأسرعت خشية أن يراني، يعني النبي - عليه الصلاة، والسلام - فلم يشعر به، فهذه وقعت له بمفرده - عليه الصلاة، والسلام -.

فلا يشترط في الخوارق أن تكون مقرونة بالتحدي، قد تكون مقرونة بالتحدي، وقد لا تكون.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/113).
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/475).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/112).
  4.  أخرجه مسلم في كتاب الزهد، والرقائق، باب حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر برقم: (3012).