الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعْدِهِۦ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُۥ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا۟ أَنَّهُۥ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُوا۟ ظَٰلِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ۝ وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:148-149].
يخبر تعالى عن ضلال من ضلَّ من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري، من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلاً، ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل فصار عجلاً جسداً له خوار، والخوار: صوت البقر.

قوله – تبارك وتعالى - : وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى [سورة الأعراف:148]، الاتخاذ يدل على العناية بهذا الشيء المتخَذ، وأضافه إليهم جميعاً مع أن الذي فعل هذا هو السامري؛ لأنهم رضوا به وأقروه وعبدوه فنسب ذلك إليهم، كما أضاف الله قتل الناقة إلى قوم صالح مع أن الله قال: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [سورة القمر:29]، وقال: إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا [سورة الشمس:12] .
يقول المفسرون بناء على الروايات الإسرائيلية: إن النساء الإسرائيليات، كنّ يستعرن الحلي، من الفرعونيات فخرجوا ومعهم الحلي، الذي استعاروه، وبعضهم يقول: خرجوا في يوم عيد، ولذلك تجد من أعياد اليهود عيداً يوافق اليوم الذي حصل فيه الاجتياز، فأخذ السامري هذا الحلي وجمعه وصور لهم منه عجلاً، وأخذ قبضة من أثر فرس جبريل فألقاها عليه فصار له صوت.
والعلماء مختلفون في قوله - تبارك وتعالى - : عِجْلاً جَسَدًا هل العجل بقي من ذهب، أم أنه صار لحماً ودماً؟، لكن قوله - تبارك وتعالى - : عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ يدل على أنه لا حياة فيه، فهو مجرد صورة وهيئة دون أن يكون له حياة حقيقية.
لَّهُ خُوَارٌ، جاء عن ابن عباس أن الخوار هو الهواء الذي يدخل من فمه ويخرج من دبره فيصوت، وهذا ممكن، والله تعالى أعلم.
وهذا الفعل من الحيل التي يحتال بها السحرة للتلبيس على الناس، فقد ذكر العلماء أن رجلاً جاء إلى بعض اليهود ووجدهم يعظمون قبراً، فلاحظ أن أشجار الزيتون عندهم كثيرة، فكان الطائر يصدر صوتاً معيناً، ثم تأتي الكبار من هذا النوع من الطيور، وتأخذ حب الزيتون وتلقيه عليه، فألقى الشيطان في نفس هذا الإنسان أنه يجعل لهذا الميت قبة، ويجعل فيها فتحة في الأعلى، ويجعل فيها شيئاً يصدر هذا الصوت، مثل صوت الطائر إذا جاء الهواء في أوقات معينة، فكانت تأتي الطيور وتلقي الزيتون على هذه الفتحة التي يصدر منها هذا الصوت، فعظم اعتقادهم به وظنوا أن ذلك لكرامته وولايته ومنزلته عند الله فهذا السامري ممكن أن يكون فعل هذه الطريقة، والله تعالى أعلم.
وفعل "اتخذ" في قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا، يتعدى إلى مفعولين، فالفعل الأول عجلاً، وأما جسداً فهي صفة له، وحذف المفعول الثاني في جميع المواضع التي ذكرت فيها هذه القصة، وتقديره إلهاً، فلا يتصور ولا يعقل ولا يليق أن يُذكر ويقال: إن العجل قد عُبد من دون الله تعالى، ولهذا السبب حذف المفعول الثاني.
وقد أشار الله إلى عبادتهم للعجل بقوله: فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [سورة طـه:88]. وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى، فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول تعالى إخباراً عن نفسه الكريمة: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [سورة طـه:85].
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌَ [سورة الأعراف:148]: وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحماً ودماً له خوار، أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر؟، على قولين والله أعلم، ويقال: إنهم لما صوت العجل رقصوا حوله وافتتنوا به، وقالوا: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [سورة طـه:88]، قال الله تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [سورة طـه:89]، وقال في هذه الآية الكريمة: أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [سورة الأعراف:148]، ينكر تعالى عليهم في ضلالهم في العجل، وذهولهم عن خالق السماوات والأرض، ورب كل شيء ومليكه، أن عبدوا معه عجلاً جسداً له خوار، لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى طريق الخير، ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلالة.

مرات الإستماع: 0

"وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ [الأعراف: 148] هم بنو إسرائيل مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد غيبته في الطور مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء، والتشديد جمع حلى نحو: ثدي، وثُدي، وقُرِئ بكسر الحاء للاتباع، وقُرِئ بفتح الحاء، وإسكان اللام، والحلي: هو ما يتزين به من الذهب، والفضة."

فقوله - تبارك، وتعالى -: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ [الأعراف: 148] هذه القراءة قرأ بها الجمهور جمع حلي، وقراءة الكسر هي قراءة حمزة، والكسائي، وقراءة الفتح هي قراءة يعقوب، وهذه القراءات متواترة، ويكون هكذا حُليِّهم، حِليِّهم، والقراءة التي تكون بالفتح مع إسكان اللام حَلْيهم.

يقول: هو ما يتزين به من الذهب، والفضة، وهنا أضافه إليهم: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ ومعروف أن الحُلي الذي كان معهم كان مستعارًا من آل فرعون، حينما ذكر الله قصة السامري: حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ [طه: 87] حُمِّلوها، يعني هي لم تكن أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ من زينة القوم يعني الفراعنة حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فاستعاروها أعني نساء بني إسرائيل من الفرعونيات، ثم لما خرجوا خرج بهم موسى - عليه الصلاة، والسلام - بقيت معهم.

فالإضافة هنا أضافه إلى بني إسرائيل إلى قوم موسى؛ فيحتمل أن يكون ذلك أن الله أورثهم ذلك بعد هلاك فرعون، وإلا فالأصل أنه كان عارية، أو باعتبار أنه عارية، ولكن الإضافة تقع لأدنى ملابسة كما هو معلوم، فلكونهم استعاروه قيل له ذلك، وإلا فالأصل أنه لبني إسرائيل: وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا.

"قوله تعالى: جَسَدًا أي: جسمًا دون روح، وانتصابه على البدل."

بدلاً من العجل عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ [الأعراف: 148].

"قوله تعالى: لَهُ خُوارٌ [الأعراف: 148] الخوار هو: صوت البقر، وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذفه في العجل، فصار له خوار، وقيل: كان إبليس يدخل في جوف العجل، فيصيح فيه، فيُسمع له خوار."

بعض أهل العلم يقولون: كان هذا العجل من ذهب، ولم يتحول إلى عجلٍ حقيقي من لحمٍ، ودم، وإنما كان غاية ما هنالك أن الهواء يدخل فيه فيُصوِّت، يصدر منه هذا الصوت بسبب دخول الهواء.

وبعضهم يقول: صار عجلاً حقيقيًا، وهذا بعيد، وعلى كل حال هو عجلٌ من ذهب، وابتلاهم الله بذلك فكانوا يسمعون له خوارًا.

"قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ [الأعراف: 148] ردّ عليهم، وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته.

قوله تعالى: اتَّخَذُوهُ [الأعراف: 148] أي اتخذوه إلها، فحُذف المفعول الثاني للعلم به، وكذلك حُذف من قوله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى [الأعراف: 148]."

كذلك هناك ملحظ آخر ربما يكون سبب الحذف، وفي جميع المواضع يُحذف: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ [البقرة: 92] يعني إلهًا، ذكر الشيخ محمد الشنقيطي - رحمه الله - علةً لهذا الحذف - والله تعالى أعلم - قال: "لما كان لا يُتصور أن يكون العجل المصوغ من ذهب أن يكون إلهًا حُذف ذلك في جميع المواضع"[1] ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ما قال: ثم اتخذتم العجل من بعده إلهًا، وهكذا هنا: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا فكيف يُتصور أن يتخذ العجل الذي هو عجل، لو كان عجلاً حقيقيًّا لا يليق، فكيف بشيءٍ صنعوه بأيديهم، وهم يشاهدون، ثم بعد ذلك يعبدونه من دون الله وهم حُدثاء عهد بإنجاءٍ من آل فرعون، وبين أظهرهم هارون - عليه الصلاة، والسلام -. 

  1. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/82).