فقوله - تبارك وتعالى - : وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ يعني - والله تعالى أعلم - أنهم ندموا على فعلهم، كما قاله الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهو تفسير قريب، والإنسان إذا ندم يعض على أصابعه، قالوا: فكأن فمه سقط في يده، سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ، قالوا: هذا أصله، وقال آخرون: إن ذلك يعبر به عن القلب والنفس.
وقوله: سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ يعبر به عن القلب والنفس، والعرب تضيف ما يقع للإنسان إلى يده؛ لأن غالب الاكتساب بها.
وقوله: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [سورة الحـج:10] تقول: يداك أَوْكتا وفوك نفَخ، فتضيفه إلى اليد، وقالوا: إنّ ما يقع في النفس يظهر على يده، كقوله: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا [سورة الكهف:42]، وقوله: وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [سورة آل عمران:119]، فما يقع في نفس الإنسان يظهر على جوارحه، هكذا قال جماعة كالأزهري الإمام المعروف في اللغة، وأبي جعفر النحّاس، وغيرهم، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن أصل ذلك من الأخذة والأسر بحيث إنه يُلقى على الأرض وتكتف يداه إلى ظهره، فهذا أصل هذه الكلمة، كما يقال في اليمين: أصلها أن الرجل كان إذا حلف يأخذ بيمين صاحبه تأكيداً للحلف بالفعل، يعني: القول والفعل، ثم بعد ذلك صار يطلق على الحلف بإطلاق وإن لم يكن فيه مثل هذا التصرف، وهكذا في كثير من الاستعمالات يذكر بعض أهل العلم الأصل في هذا الإطلاق، وقد يكون كذلك وقد لا يكون، فالله تعالى أعلم، فالمقصود بقوله: وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ: يعني: ندموا، تقول: فلان فعل كذا وكذا ثم أُسقط في يده، بمعنى أنه لم يحصل مطلوبه، بل حصل عكس ذلك مما يستوجب الندم والتحير والتحسر، والله أعلم.
وقوله: وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا يقول: قرأ بعضهم لَئِن لَّمْ تَرْحَمْنَا وهي قراءة حمزة والكسائي وهي متواترة، قال: لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ : أي: من الهالكين.
والسياق في قوله - تبارك وتعالى - : وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ [سورة الأعراف:148] أخبر عن اتخاذهم العجل، وفي الآية الثانية ذكر ندمهم ومقالتهم، وقالوا ما قالوا بعدما رجع موسى ﷺ، ونهاهم عن هذا، ولذلك قال بعدها: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ [سورة الأعراف:150]، فالأسف والندم وقع لهم حينما قالوا: لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا بعد مجيء موسى ﷺ فقدّمه هنا، فهذا من المقدم الذي حقه التأخير، ولكنه قُدم لنكتة، فمن أهل العلم من يقول: إنه قدم من أجل أن يجمع القول والفعل.
قوله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا هذا فعلهم وصنيعهم السيئ، وما الذي صدر منهم أيضاً؟ صدر منهم قول وهو: لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا ندموا على هذا، فجمع ما يتعلق بهم هنا، ثم ذكر مجيء موسى كما قال الله في سورة البقرة في قصة البقرة لما قال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67]، ثم ذكر أوصافها، ثم قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [سورة البقرة:72]، فهذا القتل للنفس والتدارؤ - يعني التدافع، هؤلاء يقولون: هؤلاء قتلوها، وهؤلاء يقولون: هؤلاء قتلوها - حصل قبل مجيء موسى ، وهو سبب الأمر لهم بذبح البقرة فأُخّر.