الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوْمِهِۦ غَضْبَٰنَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنۢ بَعْدِىٓ ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا۟ يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ ٱلْأَعْدَآءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ۝ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة الأعراف:150-151].
يخبر تعالى أن موسى لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف، قال أبو الدرداء  : الأسف أشد الغضب.
قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ يقول: بئسما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم.
وقوله: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يقول: استعجلتم مجيئي إليكم، وهو مقدر من الله تعالى.

قوله: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ استعجلتم مجيئي إليكم، وهو مقدر من الله، وقيل: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعني: الميعاد الذي وعده الله موسى ﷺ، وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [سورة الأعراف:142]، فهو الأربعون، ومن أهل العلم من يقول: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ: أي: سخَِط الرب - تبارك وتعالى -، وهذا فيه بعد، والله أعلم.
وقوله: وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث: ليس الخبر كالمعاينة[1].

يعني أن الله أخبر موسى ﷺ بأنه فتن قومه من بعده وأضلهم السامري، وموسى على الطور، فما ألقى الألواح، فلما وصل إليهم ورآهم يعبدون العجل ألقى الألواح.
ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضباً على قومه، وهذا قول جمهور العلماء سلفاً وخلفاً.
وقوله: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ خوفاً أن يكون قد قصر في نهيهم، كما قال في الآية الأخرى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ۝ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ۝ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [ سورة طـه:92-94]، وقال هاهنا: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:150] أي: لا تسُقْني مساقهم ولا تخلطني معهم، وإنما قال ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه.

من أهل العلم من قال: إنه شقيقه، ومنهم من قال: إنه لأمه، لكن المشهور أنه شقيقه، وذكر بعض المؤرخين أن هارون كان أكبر سناً من موسى ، وكان ليناً مع بني إسرائيل، ولذلك كانوا يركنون إليه ويميلون إليه، هكذا قال بعض المؤرخين، وقوله - تبارك وتعالى - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا[سورة الأحزاب:69]، مما ذكر فيه أن هارون حينما مات زعم من زعم من بني إسرائيل أن موسى ﷺ هو الذي قتله، قالوا: لأنك تحسده لميل قومه إليه لطبعه، فموسى ﷺ كان يعاملهم بالحزم؛ ولذلك لما رجع انتهت المشكلة، بينما هارون كما قال: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء، وهذا فيه عبرة، فهارون نبي من خيار الخلق، وقومه على قول هؤلاء المؤرخين يميلون إليه ومع ذلك يقول: فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء؛ لأنه ما يسلم أحد، مهما عامل الناس بلطف ومداراة ومراعاة لهم، وقومه هم بنو إسرائيل، وهم الذين خرجوا ونجوا وكانوا في صحبته، مِنهم مَن يشمتون به ويعادونه ويتهكمون به إذا حصل مثل هذا.
فلما تحقق موسى براءة ساحة هارون ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [سورة طـه:90]، فعند ذلك قال موسى : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة الأعراف:(151].
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبَر، أخبره ربه أن قومه فُتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح[2]
                                                         
  1. رواه أحمد في المسند من حديث ابن عباس ا (3/341)، برقم (1842)، وقال محققوه: حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5373).
  2.  رواه الحاكم في المستدرك برقم (3435)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه، كتاب التفسير، تفسير سورة طه، وابن حبان في صحيحه برقم(6214) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. 

مرات الإستماع: 0

"أَسِفًا [الأعراف: 150] شديد الحزن على ما فعلوه.

وقيل: شديد الغضب كقوله: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: 55]."

الشديد لحزن هذا رواية عن ابن عباس - ا - وبه قال السدي، والحسن البصري[1] أَسِفًا شديد الحزن على ما فعلوه.

وبعضهم فسَّره بشدة الغضب، شديد الغضب، وهو الرواية الأخرى عن ابن عباس - ا - وبه قال جماعة كأبي الدرداء، واختاره من أصحاب المعاني الزجَّاج[2] وابن قتيبة[3] والواحدي جمع بين المعنيين[4] باعتبار أن الأسف حزنٌ مع الغضب، فهو رجع في هذه الحال أسفًا يعني حزينًا، مُغضبًا، فإذا كان هذا معناه في اللغة يأتي بمعنى الغضب، والحزن، وبينهما نوع ملازمة فهذا الذي يكون في حالة من الغضب يكون في حال من الحزن، والاستياء - والله أعلم -.

"قوله تعالى: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي [الأعراف: 150] أي: قمتم مقامي، وفاعل بئس مضمر يفسره "ما" واسم المذموم محذوف."

التقدير على هذا بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي يعني بئس خلافتكم لي من بعدي هذا على قول الكسائي، وعند سيبويه أن "ما" فاعل بئس ما، وتكون "ما" هي الفاعل، والتقدير بئس الشيء خلفتموني، معناه نُقِل عن سيبويه - رحمه الله - غير هذا لكن صحح بعض أهل العلم ما ذكرت من أنه قول سيبويه.

وبعضهم كالأخفش قال: بأنها منصوبة على التمييز، وليست مرفوعة، وأن فاعل بئس مضمر مفسرٌ بــ "ما" والتقدير: بئس هو شيئًا كما قال الله في سورة البقرة: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ [البقرة: 90] والمفسرون عادة يذكرون الكلام في هذه المسألة عند آية البقرة.

"والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم، أو رؤساء بني إسرائيل كهارون حيث لم يكفوا الذين عبدوا العجل.

قوله تعالى: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف: 150] معناه: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور، فإنهم لما رأوا أنّ الأمر قد تم ظنوا أن موسى قد مات فعبدوا العجل."

يعني باعتبار أن الله، واعده ثلاثين ليلة، لما تمت الثلاثون استبطئوه، والله قد أتمها له بعشر فصارت أربعين، هكذا يذكرون - والله تعالى أعلم - استبطئوه إما أنهم ظنوا أنه قد مات، أو أنه قد أضلَّ - كما زعموا - ربه، فذهب إلى الطور - والله أعلم -.

أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعني: استعجلتم مجيئي إليكم من مناجاة الله قبل الوقت الذي قدَّره الله - تعالى - لتمام هذا الموعد، ولم تنتظروني فعبدتم العجل، هكذا يكون المعنى - والله تعالى أعلم - وبهذا قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[5].

وبعضهم يقول أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أعجلتم ميعاده الذي واعدنيه، وهو الأربعون.

وبعضهم يقول: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي: أعجلتم سخطه، وكأن الأول كأنه أقرب - والله تعالى أعلم - أعني ما ذكره ابن كثير.

"قوله تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ [الأعراف: 150] طرحها لما لحقه من الدهش، والضجر غضبًا لله من عبادة العجل."

كما قال النبي ﷺ: ليس الخبر كالمعاينة [6].

يعني أن الله أخبره عن عبادة قومه العجل، ولكن حينما رأى ذلك هو لم يُلق الألواح لكن لما رأى عبادتهم العجل، وعاين ذلك ألقى الألواح. 

"قوله تعالى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ [الأعراف: 150] أي: شعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لأنه ظن أنه فرّط في كف الذين عبدوا العجل."

وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هو أخذ بشعره بقرينة الآية الأخرى لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [طه: 94] فهو جذبه من شعر رأسه، ولحيته - والله أعلم -.

وبعضهم يقول: بأن غضب موسى - عليه الصلاة، والسلام - على هارون - عليه الصلاة، والسلام - لتركه اللحاق به إلى الطور حينما أنكر عليه مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: 92 - 93] يعني إلى الطور على هذا ما منعك حينما رأيت هؤلاء ضلوا أن تتبعني، ما منعك من اللحاق بي مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فينكر عليه إقامته بين ظهرانيهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[7].

ويحتمل أن يكون إنكاره عليه خشية أن يكون قد قصَّر في نهيهم عن عبادة العجل، وهذا الذي اختاره ابن كثير[8].

وبعضهم يقول: باعتبار أنه لم يُشدد عليهم في ذلك، وأن هارون - عليه الصلاة، والسلام - قد اعتذر إليه أنه خشي أن ينكر عليه ما قد يترتب على ذلك من تفرقهم: إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94] فهذا يحتمل، وهو الذي اختاره الطاهر بن عاشور[9] كل ذلك يحتمل - والله المستعان -.

قوله تعالى: ابْنَ أُمَّ [الأعراف: 150] كان هارون شقيق موسى، وإنما دعاه بأمّه، لأنه أدعى إلى العطف، والحنوّ، وقُرِئَ ابن أمِ بالكسر على الإضافة إلى ياء المتكلم، وحُذفت الياء، وبالفتح تشبيهًا بخمسة عشر، جُعِلَ الاسمان اسمًا واحدًا فبُنى.

قراءة الكسر هي قراءة ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم في روية أبي بكر، وبالفتح هي قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحفص عن عاصم. 

"قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف: 150] أي: لا تظن أني منهم، أو لا تجد عليّ في نفسك ما تجد عليهم يعني أصحاب العجل."

أو لا تَسُقني مساقهم، أو لا تخلطني معهم كما قال ابن كثير[10] يعني لا تجعلني في حكمهم، فقوله: ابْنَ أُمَّ هنا يقول: القول هنا بأنه تشبيه بخمسة عشر جُعِلَ الاسمان اسمًا واحدًا فبُنى، هذا احتمال. 

ويحتمل أن يكون ابْنَ أُمَّ أنه منادى مبني على الضم المقدر في محل نصب، وأن الذي منع ظهور الضم على آخره هو حركة البناء الأصلي، وهو فتح الجزأين، هذا على القول الذي ذكره، لكن يحتمل غير ذلك، يحتمل أن ابن: منادى منصوب، وهو مضاف، وأم: مضاف إليه مجرور بكسرةٍ مقدرة.

  1.  انظر: تفسير الطبري (16/131) وتفسير ابن كثير (7/232).
  2.  انظر: اللباب في علوم الكتاب (9/321).
  3.  زاد المسير في علم التفسير (4/81).
  4.  التفسير الوسيط للواحدي (4/77).
  5.  تفسير ابن كثير (3/476).
  6.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (1842) وقال محققوه: "حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين".
  7.  تفسير الطبري (16/145).
  8.  تفسير ابن كثير (5/312).
  9.  التحرير، والتنوير (9/116).
  10.  تفسير ابن كثير (3/477).