الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا۟ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ۝ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة الأعراف:152-153].
أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضاً، كما تقدم في سورة البقرة: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة:54]، وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصغاراً في الحياة الدنيا.
وقوله: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ نائلة لكل من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة متصلة من قلبه على كتفيه، كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين. وهكذا روى أيوب السختياني عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ فقال: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة: كل صاحب بدعة ذليل.

فكل من خالف أمر الله كأصحاب البدع والمعاصي فإن ذلك يكون نقصاً في عزتهم، فعلى قدر اتباع الإنسان واستقامته يكون له من العزة والهيبة بحسب حاله، فالناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً كبيراً.
وقوله: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الله يذكر الحكم خاصاً في قضية من القضايا، فإذا كان الجزاء لا يختص بهؤلاء فأراد أن يعممه جاء بالحكم العام بعده؛ لئلا يفهم أن ذلك يختص بهم، فلم يقل: وكذلك نجزيهم، بل قال: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ، أي: لكل من افترى - وليس هؤلاء - الذل والصغار والعذاب، وهكذا في مواضع كثيرة في القرآن يذكر قضية خاصة ثم يعقبها بحكم عام وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:41] ونحو ذلك، ليشمل هؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل، وغيرهم ممن شابههم، كما قال الله : وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83].

مرات الإستماع: 0

"غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ [الأعراف: 152] أي: غضب في الآخرة، وذلة في الدنيا."

غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ قال: أي: في الآخرة، وهذا اختاره الواحدي[1] والبغوي[2]

وبعضهم يقول: بأن ذلك في الدنيا، فلم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضًا: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة: 54] فكانت توبتهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير[3] وابن كثير[4] أنه في لدنيا بهذا الاعتبار. 

والذلة هي الصغار، والهوان سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ وذلك ما يكون من خضوع النفس، والاستكانة من جرَّاء العجز عن الدفع، هذا باعتبار ما أوقعه الله عليهم فهم أذلَّاء، وكذلك هو أثر نتيجة للتسليط عليهم حيث يكون هؤلاء مغلوبين مقهورين لغيرهم، فيكون ذلك بتسليط العدو عليهم، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم، فيكون ذلك الوصف - أعني الذلة - متمكنة من قلوبهم، ظاهرة على شخوصهم، يعني يكونون في حالة من الذل، وحتى في الحالات التي لم يُسلط عليهم فيها عدو.

وبعضهم يُطرِّق إلى ذلك احتمالاً، وهو أنه بسبب الغربة لما كُتِب عليهم التشتت، والتفرُّق لأصقاع الأرض وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا [الأعراف: 168] فصاروا بحالٍ من الغربة، والغريب قد يقع له ذلك؛ لأنه يكون في حالٍ من الضعف - والله أعلم -.

فهذه الذلة - والله أعلم - ملازمة لنفوسهم ليست بسبب الغربة، وليست بسبب تسلط الأعداء، فهو وصفٌ ملازمٌ لهم، ولذلك عُبِّر عنها بقوله - تبارك، وتعالى -: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ [آل عمران: 112] فهي تُضرب عليهم بمعنى أنها تكون في غاية اللزوم. 

  1.  التفسير الوسيط للواحدي (2/413).
  2.  تفسير البغوي (3/285).
  3.  تفسير الطبري (1/679).
  4.  تفسير ابن كثير (1/262).