الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلْأَلْوَاحَ ۖ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [سورة الأعراف:154].
يقول تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ: أي سكن، عَن مُّوسَى الْغَضَبُ: أي غضبه على قومه، أَخَذَ الأَلْوَاحَ: أي التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل غيرة لله وغضباً له، وَفِي نُسْخَتِهَا هُدَّى ورَحْمَةٌ.

قوله:وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أي: سكن، ويقال: جرى الوادي ثم سكت، أي: سكن، يعني عن جريانه، فكأن الغضب كان يدفعه ويحركه إلى أن يقول لهم ما قال، وأن يفعل ما فعل، ثم بعد ذلك سكت، ومن أهل العلم من يقول: هذا من القلب في اللغة، يقولون: سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ يعني: سكت موسى عن الغضب، والله أعلم.
ولا حاجة لهذا، وإن كان يتأتى في بعض الصور وبعض الأمثلة، كأن تقول: أدخلت الخاتم بأصبعي، وأدخلت أصبعي بالخاتم، هذا لا إشكال فيه، يقولون: هذا قلب، لكن سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ: أي سكن وهدأ.
وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يقول كثير من المفسرين: إنها لما ألقاها تكسرت، ثم جمعها بعد ذلك.

قوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} من أهل العلم من يقول: وَفِي نُسْخَتِهَا يعني: فيما نسخ له من اللوح المحفوظ، فِي نُسْخَتِهَا لماذا سميت نسخة؟ أصل النسخ يأتي لمعنيين، أحد هذين المعنيين: هو النقل، بنوعيه: النقل مع ذهاب الأصل، كتناسخ الأرواح، وهي عقيدة فاسدة باطلة، يعتقدون أن الروح تنتقل من هذا إلى هذا، والنقل مع بقاء الأصل، تقول: نسخت الكتاب، فهذه نسخة والأصل يبقى، فقوله: وَفِي نُسْخَتِهَا يقولون: مما نسخ من اللوح المحفوظ، أي أنها نسخت من اللوح المحفوظ فقيل لها ذلك.
قوله: وَفِي نُسْخَتِهَا أي: وفيما كتب له فيها هدىً ورحمة، والنسخ هو الكتابة، وهذا اختيار ابن جرير، ومن أهل العلم من يقول: وَفِي نُسْخَتِهَا ما نسخ من الألواح المتكسرة، وهذا فيه بعد، ليس المقصود وَفِي نُسْخَتِهَا: أي ما نسخ من الألواح المتكسرة، والله تعالى أعلم.
يقول كثير من المفسرين: إنها لما ألقاها تكسرت ثم جمعها بعد ذلك.

قوله: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248] يعني: مما ترك موسى وهارون، فالآل يطلق أحياناً على ذات الشخص إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ [سورة آل عمران:33] يعني: إبراهيم وعمران على قول بعض المفسرين، فمن أهل العلم من يقول: إن الذي كان في التابوت هو ما ترضض من هذه الألواح، والعلم عند الله .
 وكان بنو إسرائيل ينقلونه معهم في حروبهم ومعاركهم، وكانوا يضعونه ويصلون إليه، ثم صاروا يضعونه على الصخرة إذا كانوا في البلد ثم يصلون إليه، ثم بعد ذلك صاروا يصلون إلى الصخرة، والله أعلم.
يقول كثير من المفسرين: إنها لما ألقاها تكسرت ثم جمعها بعد ذلك، ولهذا قال بعض السلف: فوجد فيها هدى ورحمة وأما التفصيل فذهب، وزعموا أن رضاضها لم يزل موجوداً في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية، والله أعلم بصحة هذا، وأما الدليل القاطع على أنها تكسرت حين ألقاها وهي من جوهر الجنة، فقد أخبر تعالى أنه لما أخذها بعدما ألقاها وجد فيها هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [سورة الأعراف:154] ضمن الرهبة معنى الخضوع، ولهذا عداها باللام.

الرهبة تتعدى بنفسها تقول: فلان يرهب فلاناً، لكن حينما تقول: يرهب لفلان، فيقال بتضمين الحرف معنى الحرف، كما عليه كثير من أهل اللغة، ومعلوم أن تضمين الفعل وما في معناه أبلغ؛ لأن ذلك يكون أوسع في المعنى، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.
وقوله: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ الرهبة: شدة الخوف، الخوف الشديد يقال له: رهبة، فضُمن معنى الخضوع، يرهبون مع خضوع، فالخضوع يعدى باللام، يقال: خضع فلان لفلان، وتقول: هو يرهبه، فعُدى بنفسه، والله أعلم.
 
 

مرات الإستماع: 0

"وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف: 154] أي سكن، وكذلك قرأ بعضهم، وقال الزمخشري: قوله: سكت مثل كأنّ الغضب كان يقول له ألق الألواح، وجُرَّ برأس أخيك، ثم سكت عن ذلك."

هنا قال: أي سكن، وكذلك قرأ بعضهم، هذه القراءة ليست متواترة، وهي منسوبة لمعاوية بن قُرَّة، ونقل عن صاحب الكشاف[1] قوله: سكت مثل كأنّ الغضب كان يقول له: ألق الألواح، وجُرَّ برأس أخيك، ثم سكت عن ذلك، مثل باعتبار أنه أبرز هذا الأمر المعنوي في صورة حسية يعني كأنه سلطانٌ قاهر يأمر، وينهى، ويسكت، فسكت عن موسى الغضب.

وهذه الآية يعني كأن الغضب قد نُزِّل منزلة الآمر بذلك: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ فلما سكن عُبِّر عن سكونه بالسكوت، فشبهه في حال هيجان الغضب، وثورته بمن يأمر، وينهى، والعلماء ذكروا في هذا عبارات بنحو ما ذكرت، قال الحافظ ابن القيم كلام جميل في هذا، هذا حاصله أنه شبه الغضب بالسلطان الذي يأمر، وينهى، ونحو ذلك، فهو في حال الغضب يُغريه هذا الغضب بالبطش، والعقوبة، والانتقام، فإذا سكن غضبه كان ذلك بمنزلة سكوت الـمُغرِي له بذلك يعني بالعقوبة - والله أعلم -.

"قوله تعالى: وَفِي نُسْخَتِها [الأعراف: 154] أي فيما يُنسخ منها، والنسخة فُعلة بمعنى مفعول."

وَفِي نُسْخَتِها أي: فيما يُنسخ منها، بعضهم يقول: باعتبار ما نُسِخ له منها من اللوح المحفوظ، والنسخ يأتي كما هو معلوم بأصل المادة نسخ يأتي بمعنى النقل، سواء كان ذلك مع بقاء الأصل فيُنقل منه كما تقول نسخت الكتاب، أو مع زوال الأصل كتناسخ المواريث.

فبعضهم يقول: باعتبار ما نُسِخ له منها من اللوح المحفوظ.

وبعضهم يقول: فيما كُتِب له فيها هدىً، ورحمةً في نسختها، يعنى فيما كُتِب له، يعني بصرف النظر عن كونه من اللوح المحفوظ، أو لا، وإنما الكتابة يقال لها ذلك وَفِي نُسْخَتِها وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -[2].

"قوله تعالى: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 154] أي يخافون، ودخلت اللام لتقدُّم المفعول كقوله: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] وقال الـمُبرّد: تتعلق بمصدر تقديره: رهبتهم لربهم."

قوله: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخافون، والرهبة خوفٌ خاص، يعني ليس مطلق الخوف، كأنها مخافة مع شيءٍ آخر، مع اضطراب، مع تحرز، ونحو ذلك.

يقول: ودخلت اللام لتقدُّم المفعول لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ لما تقدم دخلت اللام كقوله: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ يعني تعبرون الرؤيا، وقال الـمُبرّد: تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ هذا هو المصدر: يرهبون رهبتهم لربهم.

فهذا بعض ما قيل فيه، يعني إن بعضهم غير ذلك.

وبعضهم يقول: بأنها زائدة اللام هذه للتقوية باعتبار أن المعمول، وهو هنا، وهو لِرَبِّهِمْ لما قُدِّم على العامل يَرْهَبُونَ ضعُفت تعديته إليه فجيء باللام؛ لتقوية هذه التعدية، فيكون ربهم يكون هذا اللفظ مجرورًا من الناحية اللفظية، لربِهم، لكنه منصوبا محلاً باعتبار أنه مفعول به مُقدَّم لــ يَرْهَبُونَ.

وبعضهم يقول: بأنه هذه اللام لامٌ أصلية للعلة؛ للتعليل، ومفعول يَرْهَبُونَ على هذا محذوف، يعني يرهبون عقابه لأجله، وقيل غير هذا.

ومضى الكلام على الزيادة، وهل يقال: في القرآن شيءٌ زائد، أو لا، وأن القائلين بذلك يقصدون زائدة إعرابًا، وإلا فلا يوجد في القرآن شيءٌ زائد لا معنى له. 

  1. تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (2/163).
  2. تفسير الطبري (10/467).